مراجعات كتب

كتاب «الجمهور» لمايكل هارت وأنطونيو نيغري: حكم كل واحد من كل واحد/ وفيق غريزي

 

 

برزت إمكانية ظهور الديموقراطية عالمياً لأول مرة اليوم؛ هذا الكتاب يدور حول هذه الإمكانية، وحول ما ندعوه مشروع الجماهير. ومشروع الجماهير ليس بمقتصر على التعبير عن الرغبة في عالم مساواة وحرية، لا يرمي إلى مجتمع عالمي ديموقراطي منفتح وشامل فقط، بل أيضاً يوفّر الوسائل لتحقيقه. تلكم النهاية التي يتوصل إليها المؤلف، لكنه لن يبدأ من هناك.

يركز الكتاب على الجمهور، والبديل الحي الذي يترعرع داخل الإمبراطورية. ويمكنك أن تقول بتبسيط كبير جداً، إن هناك وجهين للعولمة: أحدهما، أن الإمبراطورية تنشر عالمياً، وأن شبكة تراتبياتها وأقسامها تحفظ النظام عبر آليات سيطرة ونزاع مستمر. والعولمة، على كل حال هي أيضاً، خلق دوائر من التعاون والمشاركة تمتد عبر الأمم والقارات وتسمح بمواجهات ومصادمات غير محدودة العدد؛ وهذا الوجه الثاني للعولمة لا يعني أن كل واحد في العالم سيصير الشيء ذاته، بل هو يوفر إمكانية اكتشاف المشترك الذي يمكننا من التواصل والعمل المشترك، في الوقت الذي نظل فيه مختلفين.

الجمهور وصيرورة ما هو مشترك عند العمّال

الجمهور مفهوم طبقي. لقد اضطرت النظريات المتعلقة بالطبقة الاقتصادية تقليدياً إلى الاختيار بين الوحدة والتعددية. وعادة ما رُبط قطب الوحدة بكارل ماركس؛ يقول المؤلف: «يوجد في المجتمع الرأسمالي تبسيط للأصناف الطبقية، بحيث تدمج جميع أشكال العمل في موضوع واحد، هو البروليتاريا، التي تجابه الرأسمالية، وأكثر ما يوضح القطب التعددي نلقاه في الحجج الليبرالية التي تشدد على تعددية الطبقات الاجتماعية، التي لا مجال للهروب منها». الحق يُقال، إن هذين المنظورين صادقان. فالقول، في الحالة الأولى صحيح، بأن المجتمع الرأسمالي يتميّز بالانقسام بين الرأسمالية والعمل، وبين الذين يملكون العمل وأحوال الحياة عند الذين لا يملكون، وهذه تجنح لأن تتخذ خصائص مشتركة. وفي الحالة الثانية، صحيح القول، إن هناك عدداً من الطبقات في حالة من الوجود الكامن، يؤلف المجتمع المعاصر الذي لا يقوم على الفروق الاقتصادية فقط، بل أيضاً على فروق العنصر، والإثنية والجغرافيا، والجنس والميل الجنسي وعوامل أخرى.

الطبقة يحددها الصراع الطبقي. ولا شك في وجود عدد لا متناه من الطرق يمكن بها جمع البشر في طبقات، مثل لون الشعر ونوع الدم؛ «غير أن الطبقات التي تعنينا بحسب رأي المؤلف، هي تلك التي تعرفها خطوط الصراع الجمعي. والعنصر مفهوم سياسي بقدر ما هي الطبقة الاقتصادية، بحسب هذا الاعتبار. فلا الإثنية ولا لون البشرة يحددان العنصر؛ فالعنصر يُبتدع سياسياً عبر الصراع الجمعي. وقال البعض إن العنصر يخلقه الاضطهاد العنصري، كما رأى جان بول سارتر، إن معاودة السامية هي التي أنتجت اليهودي. مثل هذا المنطق «يجب إضافة خطوة إليه: العنصر ينشأ عبر المقاومة الجمعية للاضطهاد العنصري». وبمثل ذلك تتشكل الطبقة الاقتصادية عبر الأعمال الجمعية للمقاومة؛ لذا، فإن البحث في الطبقة الاقتصادية، مثل البحث في العنصر يجب أن لا يبدأ بقائمة من الفروق التجريبية الحسية، وإنما بخطوط المقاومة الجمعية للسلطة.

إذاً، مفهوم الجمهور يقصد منه من ناحية، أن يبرهن على أن نظرية في الطبقة الاقتصادية لا تحتاج لأن تختار بين الوحدة والتعددية. فالجمهور تعددي لا يمكن اختزاله، والفروق الاجتماعية الفردية التي تؤلف الجمهور يجب التعبير عنها دائماً بأنها لا يمكن تحويلها إلى تشابه وحدة هوية أو إلى حياد. «فالجمهور ليس مجرد تعددية مصدعة ومبعثرة».

لقد قُصد بمفهوم الجمهور أن يعيد اقتراح مشروع ماركس السياسي الخاص بالصراع الطبقي. فالجمهور من هذا المنظور، يقول المؤلف: «ليس قائماً على الوجود الحسي الحالي للطبقة بقدر ما هو على شروط إمكانيتها. وبكلمات أخرى، يكون السؤال الذي يجب أن يسأل هو: ماذا يمكن أن يصير الجمهور؟ وليس ما هو الجمهور؟ فمثل هذا المشروع السياسي لا بد من أن يتأسس في تحليل تجريبي حسّي يُبرهن على وجود الشر أو الأحوال المشتركة لمن يمكن أن يصيروا جمهوراً». والشروط أو الأحوال المشتركة لا تعني أن تكون نفسها أو تكون وحدتها، لكنها تتطلب أن لا يقسم الجمهور فروقاً في الطبيعة أو النوعية. وبكلمة أخرى، ذلك يعني أن أنماط العمل، الجزئية التي لا حصر لها، وأشكال الحياة والموقع الجغرافي التي ستبقى دائماً، لا تحول دون التواصل والتعاون في مشروع سياسي مشترك. هذا المشروع المشترك الذي من الممكن أن يحمل بعض وجوه الشبه مع مجموعة الفلاسفة الشعراء في القرن التاسع عشر، بدءاً من هولدرلين وليوباردي إلى رامبو الذين تناولوا الفكرة القديمة الخاصة بالصراع الإنساني ضد الطبيعة، وحوّلوها إلى عنصر تضامن خاص بجميع الذين ثاروا ضد الاستغلال. والواقع هو وضعهم الذي واجه أزمة عصر التنوير والفكر الثوري ليس بمختلف عن وضعنا. «فمن الصراع ضد القيود، والندرة، وقساوة الطبيعة إلى الزيادة والكثرة في الإنتاجية الإنسانية»، ذلكم هو الأساس المادي لمشروع حقيقي مشترك أحدثه هؤلاء الفلاسفة الشعراء بالتوقع.

آثار الجمهور

ثمة سؤال يُطرح علينا: كيف يشكل الجسد المُنتج المشترك للجمهور وتحوّل إلى جسم سياسي عالمي للرأسمال، مقسّم جغرافياً بتراتبيات العمل والثروة، ومحكوم من قوى ذات بنية متعددة اقتصادية، وقانونية وسياسية. «يبحث المؤلف في إمكانية أن ينظم الجسد المنتج للجمهور نفسه، بطريقة أخرى، ويكتشف بديلاً لجسم الرأسمال السياسي العالمي. نقطة انطلاقة المؤلف تتمثل في إدراكه أن إنتاج الذاتية وإنتاج العام يمكنهما معاً أن يشكل علاقة لولوبية تكافلية. وبكلمة أخرى يقول: «إن الذاتية تُنتج بالتعاون والتواصل، وهذه الذاتية المنتجة ذاتها بدورها، تنتج أشكالاً جديدة من التعاون والتواصل، وبدورها تنتج ذاتية جديدة، وهكذا». وفي هذا اللولب تكون كل حركة مثالية بدءاً من إنتاج الذاتية إلى إنتاج العام المشترك، إبداعاً ينتهي بواقع أغنى. وفي عملية التحوّل والتأليف هذه، علينا أن ندرك تشكّل جسد الجمهور، النوع الجديد من الأجساد وبمعنى أساسي، جسد عام، وجسد ديموقراطي. ويقدم الفيلسوف سبينوزا، فكرة أولية عما يمكن أن يكون عليه تشريح مثل هذا الجسد. فقد كتب: «جسد الإنسان مؤلف من أفراد كثيرين بطبائع مختلفة، وكل واحد منها مركّب تركيباً عالياً». ومع ذلك، فإن هذا الجمهور المؤلف من جماهير، قادر على العمل المشترك كجسم واحد. فإذا كان لا بد للجمهور من أن يشكل جسماً، سوف يبقى دائماً بالضرورة، مركّباً جمعياً مفتوحاً ولا يصير كلاً واحداً، مقسماً إلى أعضاء تراتبية، وباعتقاد المؤلف فآثار الجمهور ستقدم الميل والاستعداد الطبيعي ذاتهما نحو الخير الذي وجده كانط في الحدث الثوري.

أزمة الديموقراطية في عصر العولمة المسلحة

كان من المفترض أن تشكل نهاية الحرب الباردة، النصر النهائي للديموقراطية؛ لكن مفهوم الديموقراطية وممارساتها هما في أزمة في كل مكان. وفي الولايات المتحدة يقول المؤلف: «حتى في هذه البلاد التي تعتبر نفسها المنارة العالمية للديموقراطية، نجد أن مؤسسات رئيسية مثل أنظمة الانتخابات خضعت للشك بشكل خطر وجدّي؛ وفي أجزاء كثيرة من العالم لا يكاد يوجد مظهر من مظاهر أنظمة الحكم الديموقراطي. كما أن الحالة العالمية الدائمة للحرب، تقضي على ما بقي من أشكال ضعيفة من الديموقراطية».

لا تقتصر أزمة الديموقراطية اليوم، على فساد وعدم كفاية مؤسساتها وممارساتها، وإنما تشمل المفهوم نفسه أيضاً. وجزء من الأزمة، يتمثل في أنه ليس واضحاً ما تعنيه الديموقراطية في عالم معلوم. ولا شك في أن الديموقراطية العالمية يجب أن تعني شيئاً مختلفاً عما عنته الديموقراطية في السياق القومي في العصر الحديث، ويمكننا بحسب اعتقاد المؤلف أن نحصل على مؤشر لهذه الأزمة الديموقراطية في الكتابات البحثية الحديثة الضخمة عن العولمة والحرب العالمية في العلاقة مع الديموقراطية. أما دعم الديموقراطية فقد بقي فرضية مقبولة عند الباحثين، لكنهم يختلفون كثيراً حول مسألة ما إذا كان الشكل الحالي للعولمة يزيد أو ينقص قوى الديموقراطية وإمكاناتها عبر العالم؛ وزيادة على ذلك يقول المؤلف: «إنه منذ 11 أيلول 2001، حوّلت ضغوط الحرب المتزايدة، المواقف إلى استقطابات وألحقت الحاجة إلى الديموقراطية في عقول البعض بالقلق على الأمن والاستقرار».

تعدينا أزمة الديموقراطية اليوم إلى فترة سابقة مبكرة للحداثة الأوروبية، خاصة القرن الثامن عشر، لأن مفهوم الديموقراطية وممارستها حينذاك، وضعا في أزمة بقفزة المقياس، ووجب إعادة إبداع المفهوم. وفي نهاية الحداثة، بحسب رأي المؤلف، ظهرت من جديد المسائل غير المحلولة في بدايتها. وقد جوبه المدافعون عن الديموقراطية في أوائل أوروبا الحديثة وأميركا الشمالية بمتشككين أخبروهم أن الديموقراطية كانت ممكنة في حدود المدنية الإثنية، لكن لا يمكن تصوّرها في المناطق الشاسعة للدول القومية الحديثة. واليوم يواجه المنافحون عن الديموقراطية في عصر العولمة متشككين يرون أن الديموقراطية ممكنة إن كانت في حدود الأرض القومية، لكن لا يمكن تصورها على قياس العالم.

إن الحقيقة المفيدة، أن المسائل المعاصرة للديموقراطية والحرب لها وجوه شبه مع تلك التي وجهت في أوائل الحقبة الحديثة؛ وهذا لا يعني أن «الحلول القديمة ستبرهن نجاحها من جديد، وإننا نكرر هذه الحقيقة. فعندما نعود بالنظر إلى مفاهيم الديموقراطية الحديثة الأولى، علينا أن نقدّر النجاح الراديكالي في الإبداع الذي حققته، وكيف ظل مشروع الديموقراطية الحديث ذاك غير مكتمل أيضاً». فثوريو القرن الثامن عشر في أوروبا والولايات المتحدة فهموا الديموقراطية بمفردات واضحة وبسيطة، تعني: حكم كل واحد من كل واحد، وتمثّل التجديد الأول الحديث الكبير لمفهوم الديموقراطية القويم في هذه الصفة العالمية الشاملة. هذا التوسع المطلق الشامل لكل واحد. ولنتذكّر كيف عرّف بيركليس الديموقراطية في أثينا القديمة بأنها حكم الكثرة مقابل حكم قلّة، في النظام الأرستقراطي ونظام الأقلية الأوليغاركي وحكم الواحد في الملكية والاستبداد.

الجمهور: الحرب والديموقراطية مايكل هارت وأنطونيو نيغري ترجمة: حيدر حاج اسماعيل المنظمة العربية للترجمة بيروت 2015.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى