مراجعات كتب

كتاب – المراهق ألبرتو مانغويل الذي قرأ لبورخيس/ شربل أبي منصور

 

 

“في تلك الأيام، بالتأكيد لم أكن واعياً لهذا الامتياز. كانت عمتي، التي أُعجِبت به للغاية، قد أصابها بعض الورّع بسبب لامبالاتي وأخذت تحضّني على تدوين ملاحظات والاحتفاظ بدفتر يوميات للقاءاتي إياه”، كلمات تختصر لقاء الفتى المراهق ابن السادسة عشرة عاماً حينذاك، ألبرتو مانغويل، الكاتب الأرجنتينيّ الذائع الصيت خورخي لويس بورخيس.

يلتقي بورخيس الذي أصيب بالعمى بعد عيد ميلاده الثامن والخمسين، وكان يعمل أميناً عاماً للمكتبة الوطنية، بألبرتو مانغويل، في مكتبة “بيغماليون” في بيونس آيريس، حيث كان يعمل لتوفير مصروف جيبه الخاص، سائلاً إياه هل لديه وقت ليقرأ له، وهو سؤال كان يطرحه على الطلبة والصحافيين وحتى الكتّاب. وافق الفتى المراهق على الطلب، وأمضى أربع سنين قارئاً للأعمى بورخيس.

يستهل مانغويل كتابه “مع بورخيس” (ترجمة أحمد م. أحمد، دار الساقي) بذكر عنوان إقامة بورخيس في شارع ميبو المبنى 994 الطبقة السادسة، ووصف شقته التي بدت “كمكان حميم، دافئ، معطّر بأريج ناعم… مظلم باعتدال”، ثم هيئته الخارجية بعدما فتحت له الخادمة الباب “محتفظاً باستقامته إلى أبعد الحدود، بزّته الرمادية مزرّرة، ياقته البيضاء وربطة عنقه المخطّطة غير متناسقتين قليلاً، متثاقلاً بعض الشيء”. فور دخول الفتى وبعدما مدّ بورخيس يده له مصافحاً وجلس الاثنان، باغته بورخيس بسؤال في صيغة المخاطبة: “حسناً ألن نقرأ كيبلينغ الليلة؟”. كانت هذه الواقعةُ اللقاءَ الأوّل للمراهق مانغويل ببورخيس، والمدخل إلى عوالم بورخيس السحرية والسرية.

هذا الكاتب الأرجنتيني الفذّ الذي سمّى العالم مكتبة، كان حجمُ مكتبته مدعاةً للخيبة إذ كانت الكتب تحتل الزوايا المهملة في شقته. ربّما لأنه رأى أنّ في وسع اللغة “أن تقلد الحكمة” وحسب. غير أن حقائبه التي يبدو أنها رافقته منذ أيام مراهقته، ضمَّت مجلدات وكتباً متنوعة في الجغرافيا والفلسفة والتاريخ لمؤلفين عديدين مثل ستيفنسون وتشيسترتون وجيمس…إلخ. ذكر مانغويل أسماء معظمهم بالتفصيل. وكان للموسوعات والملاحم النصيب الوافر من قراءات بورخيس. ويعزو حبّه للموسوعات إلى طفولته حين كان يرافق والده إلى المكتبة فكان يتناول أحد المجلّدات ويقرأ في الصفحة التي ينفتح عليها المجلّد مصادفةً، متلقّفاً بدهشة وغبطة ما قد تحمله من معلومة وفائدة. أما لهفته للملحمة، كما يقول، فهي لكونها أمّ الآداب، محورها توقٌ إنساني جوهري، كالحب، والسعادة…إلخ. لم يجد بورخيس نفسه يوماً ملزماً إتمامَ قراءة كتاب حتى الصفحة الاخيرة، ربما لأنه اعتبر القراءة متعة> وهنا لا بدّ من ذكر بعض ملامح شخصية بورخيس، فهو نافد الصبر تجاه النظريات الأدبية والغباء، متصلّب في موقفه، مفرط الحساسية إزاء كلمة أو مشهد قد يؤثران فيه حتى البكاء، خجول. لكن تراه، منجذباً إلى بعض القراءات الدموية والوحشية، ناهيك بحسّ الدعابة وسرعة البديهة كتوجّهه بالقول لابن شقيقه ذي الخمس سنين: “إن أحسنت التصرّف فسأسمح لك بأن تحلم بالدبّ”.

اضطلع الحلم بدور جوهري في حياة بورخيس، واعتبر أن الكتابة ليست إلا حلماً موجهاً. وهو قد صرّح قائلاً: “يطيب لي أن أكتب قصة بجودة الحلم. حاولتُ، وأحسب أنني لم أفلح قط”. ربما لأنه وجد في الحلم انعتاقاً وتحرراً من كل ما يحدّ، لأن هناك فقط سيعانق تلك الكلمات التي ليست كالكلمات. ولو مدركاً أنه سيضطرّ إلى مواجهة الكابوسَين اللذين سكناه: كابوس المرايا، وكابوس المتاهة. وهما هنا خوف النفس من الاندثار وضياعها في هذا العالم وصراعها الدائم للمعرفة.

هذا الكتاب يحملنا إلى عوالم بورخيس ومكنوناته، بكل خباياها ودقائقها وتفاصيلها الصغيرة، من غير أن نشعر ولو للحظة بأن هذا الرجل ضرير. فكأنه كان دائماً يرى ببصيرته لا ببصره، يعتنق الخيال لا الواقع، وكأنّ نوره كان فقط تلك الكتب. لقد أعادتني قراءة هذا الكتاب إلى الفيلم الشهير Scent of a Woman (النسخة الأميركية من الفيلم الإيطالي Profumo di Donna الــذي يؤدي فيه آل باتشينو دورَ رجلٍ فقَدَ بصره، إلا أنه يستطيع تحديد نوع العطر الذي تضعه المرأة ويحدد شخصيتها من خلاله، وإذ بي أرى بورخيس يمتلك هذه الميزة على اشتمام الكلمات وسحرها، هذه الموهبة الفطرية اللمّاحة التي لا تُكتسب. إنّها العبقرية.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى