مراجعات كتب

كتاب بيري أندرسون «السياسة الخارجية الأمريكية ومفكروها»: أمريكا ما زالت مسيطرة على الشرق الأوسط رغم صعود نجم بوتين/ سمير ناصيف

 

 

يؤكد الكاتب وأستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا بيري اندرسون، أحد أقطاب الفكر الليبرالي اليساري في أمريكا والعالم، في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان «سياسة أمريكا الخارجية ومفكروها» ان الولايات المتحدة ما زالت عملياً واستراتيجياً تملك سيطرة سياسية عامة على منطقة الشرق الأوسط برغم أخطاء ارتكبتها في سياستها الخارجية.

ويشير انه على الرغم من استفاقة روسيا سياسياً واقتصادياً في السنوات الأخيرة بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين وتحسن معدلات نموها، فان المبادرات الروسية الانفرادية خارج روسيا وبعض المناطق والبلدان المحيطة بها، التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي، تبقى محدودة النجاح.

ويعتبر الكاتب ان الرئيس الأمريكي باراك أوباما يحاول القيام بمبادرات لترتيب العلاقة مع روسيا بقيادة بوتين، وقد ألغى برنامج نشر الصواريخ المتطورة في أوروبا الشرقية التي كان ينوي جورج بوش الأبن نشرها بحجة مواجهة اي خطر عسكري إيراني مُرتقب.

في مقابل ذلك، لم تعارض روسيا قرار مجلس الأمن الدولي بانشاء منطقة حظر الطيران فوق ليبيا لحماية المدنيين، الذي حولته الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون إلى قرار يسمح بضرب ليبيا عسكريا من الجو، مما أدى إلى خسائر في أرواح المدنيين وتمزيق البلد.

ويوضح الكاتب ان بوتين لم يقطع علاقاته مع الجهات المعارضة للنظام السوري في الداخل ولا مع الدول الأقليمية المعارضة لنظام الرئيس بشار الأسد وتعاون في مجال الموافقة على ارسال بعثات دولية للتفتيش عن الأسلحة الكيميائية في سوريا ونزعها، وما زال يتعاون في هذا الحيز.

وبالتالي، نجح بوتين في الحؤول دون حدوث هجوم عسكري أمريكي ـ أوروبي على سوريا كما حدث في ليبيا والعراق.

ويعتبر اندرسون ان هذا الموقف، ساهم في حل المشكلة في المدى القصير فقط، وانه في المدى الطويل المطلوب هو الحلول الأكثر فاعلية. ويرى ان السياسة الخارجية الأمريكية تجاوزت توقعات بوتين في ليبيا وفعلت معه أمرا مشابها لما فعلته مع الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف حول النكث بالوعد الأمريكي بعدم توسيع انتشار قوات «حلف شمالي الأطلسي» (الناتو) في دول أوروبا الشرقية مقابل تنازلاته ثم التراجع عن هذا الوعد، وان أمريكا قد تفعل الأمر نفسه بالنسبة لوضع الرئيس السوري بشار الأسد لما فعلته بالنسبة للزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، بحيث تم التراجع آنذاك عن وعود قدّمها الغرب في اتفاقية «دايتون» لانهاء الحرب اليوغسلافية بعدم اعتقال زعمائها، والرئيس بوتين متنبه لذلك.

وينبه اندرسون إلى أن فرنسا وبريطانيا قامتا بمبادرات لتشجيع واشنطن على التصعيد العسكري سابقا في ليبيا، وفي العقوبات ضدها وضد سوريا وإيران وقد تنجحان مرة في الدفع للتصعيد برغم التصاريح العلنية المخالفة لذلك، والمتناقضة في كثير من الأحيان في الشأن السوري.

وفي أحد ملاحق الكتاب، يوجه الكاتب نقداً إلى السياسة الخارجية الأمريكية في مصر، فيقول ان أمريكا وقفت متفرجة لدى سقوط نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك وصعود نظام «الإخوان المسلمين» إلى السلطة، ولم تتحرك أيضا لدى اسقاط نظام الرئيس محمد مرسي.

كما ان الدعم الأمريكي لمواقف تركيا وبعض الدول العربية المعارضة لاستمرار نظام الرئيس بشار الأسد لم يكن فعالاً بالمقارنة مع دعم إيران وحزب الله اللبناني للنظام السوري، حسب المؤلف.

كما فشلت السياسة الخارجية الأمريكية في العراق حيث حقق «تنظيم الدولة الإسلامية» تقدما كبيرا، واحتل الموصل ووصل إلى مشارف أربيل قبل ان تدعم أمريكا استبدال نوري المالكي بحيدر العبادي في قيادة البلد.

وبرزت، حسب اندرسون، تناقضات في الموقف الأمريكي فدعمت جهات جهادية في سوريا وواجهتها في العراق، وتسمح لتركيا بضرب بعض الجهات المتحالفة مع السياسة الأمريكية في سوريا عسكريا كالمجموعات الكردية. وتتمنى واشنطن، أن يساعد إبرام الاتفاقية النووية الأمريكية مع ايران في حلحلة القضية السورية وفي ان تتعاون إيران معها، كما فعلت في افغانستان في عملية المواجهة مع تنظيم الدولة.

كل هذه الأخطاء في السياسة الخارجية الأمريكية قد تساهم في دعم موقف روسيا وبوتين في المنطقة. ولذلك فان قادة دول المنطقة على اختلاف انتماءاتهم يذهبون لزيارة بوتين للاستيضاح منه عما يجري. وقد فعل ذلك قادة اسرائيل والسعودية ومصر وإيران وسوريا وفلسطين وغيرهم.

ويتضمن الكتاب فصولاً عديدة شديدة الأهمية. فالقسم الأول يشمل تحليلاً للسياسة الخارجية الأمريكية في العهود الماضية من أيام الرئيس وودرو ويلسون إلى الرئيس فرانكلين روزفلت ومن بعده هاري ترومان وداوايت ايزنهاور وجون كنيدي وريتشارد نيكسون ومَنْ تبعهما. وفي الفصل الثالث يتطرق إلى الصراع على الهيمنة في العالم الثالث بين أمريكا والاتحاد السوفييتي منذ الخمسينيات وعلاقة فرانكلين روزفلت بالسعودية ووعود روزفلت التي نقضها ترومان وهو الرئيس الذي استخدم القنبلة النووية ضد اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، كما يعرض تحليلا لأهم الأحداث والقضايا في المنطقة كحلف بغداد والناصرية والحرب الإسرائيلية مع مصر والعرب والمواقف الأمريكية منها.

وفي الفصل السابع، يتحدث بتفصيل عن غزو الرئيس العراقي صدام حسين للكويت ثم اخراجه منها والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، ودور المحافظين الجدد في أمريكا ومواقف إسرائيل في التشجيع على الحروب في المنطقة (يكرس احد ملاحق الكتاب لدور المحافظين الجدد السلبي في هذا المجال).

ولعل ما يختلف فيه هذا الكتاب عن غيره من الكتب التي تطرقت إلى السياسة الخارجية الأمريكية هو تركيزه على ارتباط العاملين الاقتصادي والسياسي ببعضهما في عرض وتحليل سياسة واشنطن الخارجية، فهو يتجاوز التحليل الصحافي الذي قد يكون سردياً أو حتى سطحياً، في بعض الأحيان، ويغوص في ربط العوامل الهامة كرغبة أمريكا في نشر الرأسمالية الليبرالية واستخدامها لفكرة نشر الديمقراطية والحرية وتبرير عملياتها العسكرية وشن الحروب غير المبررة في بعض الأحيان، أو حتى تشجيع «الإرهاب» في سبيل الحرية.

وفي تحليل معمق لأسباب الخلاف الجذري في سياسة واشنطن الخارجية مع سياسة روسيا بوتين يؤكد البروفسور ديريك آفيري، المدير السابق لمركز الدراسات الروسية والاستاذ في جامعة بيرمنغهام البريطانية ان النقطة الأساسية هي رفض موسكو تفسير أمريكا وحلفائها لمبدأ «المسؤولية عن الحماية»، الذي تنص عليه الشرائع الدولية والذي يقضي بضرورة حماية الدول الكبرى القوية للسكان المدنيين في دول أخرى ترتكب فيه السلطات أو الميليشيات المهيمنة عسكرياً المجازر الوحشية بحقهم لابادتهم، بعد موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على ذلك.

وقد اتهمت بعض الجهات موسكو بممارسة حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن في مناسبات كان بامكان أمريكا وحلفائها التدخل عسكرياً لمنع مجازر في بعض الدول التي تجري فيها الحروب الأهلية كسورياز

ففي تقرير نشرته مجلة «انترناشونال أفيرز» الصادرة عن «المعهد الملكي للشؤون الدولية» في عددها الصادر في تموز/يوليو الماضي يقول آفيري أن الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 لطخ سمعة مبدأ «المسؤولية عن الحماية» إذ أظهر ارتباطه بفرض سلطة الدول القوية على الدول الأقل قوة منها بدلاً من نشر القيم الإنسانية والدفاع المدنيين، وأن روسيا التي غضت الطرف عن الغزو العسكري الأمريكي ـ البريطاني للعراق ومن بعده ليبيا بحجة هذا المبدأ، شعرت أن أمريكا ودول «الناتو» تجاوزت هذا المبدأ، وحسب قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ذهبت إلى دعم جهة ضد جهة أخرى لدى تدخلها العسكري ولم يؤد تدخلها إلى حماية المدنيين لا في العراق ولا في ليبيا بل إلى فرض سياساتها وتبديل الأنظمة، حسب مشيئتها.

ولهذا السبب مارست موسكو حق «الفيتو» ضد أي مبادرات أمريكية أوروبية مماثلة في سوريا. وخطت خطوة إضافية بتعزيز وجودها العسكري والتسليحي هناك لمنع حدوث الفوضى السياسية والعسكرية، كما حدث في العراق وليبيا.

وبالإضافة إلى ذلك فان موسكو قررت حماية مصالحها في سوريا بشكل مباشر والتفاوض مع أمريكا من موقع قوة في شأن مستقبل سوريا.

وتبين لاحقاً ان أمريكا ربما ستسير في هذا التوجه وتأخذ مصالح روسيا في الاعتبار بدلا من الوقوع في مغطس المواجهة العسكرية معها، وذلك من موقع دبلوماسي وليس نتيجة للضعف أو الخوف.

ويبدو أيضا ان أمريكا أدركت ان الجهات المعارضة المقاتلة في سوريا بقيادة «تنظيم الدولة» و»جبهة النصرة» غير قادرة على التجمع في جبهة عسكرية واحدة قادرة على تسلم قيادة سوريا عسكرياً أو سياسياً إذا تمت إزاحة النظام السوري الحالي في عملية قيصرية متسرعة، وخصوصا ان جزءاً كبيراً من الشعب السوري ما زال يخشى المجموعات العسكرية المعارضة وممارساتها القاسية ضد خصومها ويفضل الاحتماء بأي هيكلية لدولة مدنية تعتمد معايير دستورية عادلة.

Perry Anderson: American Foreign Policy and Its Thinkers

Verso, London 2015

284 pages.

صادر عن دار «فيرسو» في نيويورك ولندن،

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى