مراجعات كتب

كتاب هتلر «ماين كامف» (كفاحي)… ترجمة وتوثيق وتأريخ/ كريستيان إنغراو

 

 

في الأول من كانون الثاني (يناير) 2016، أصبح كتاب هتلر «كفاحي» مشاعاً عاماً، ولا تترتب على طباعته ونشره حقوق تعود إلى الوارثين. فصـــدرت في ألمانيا وباللغة الألمانية، طبعة علمية ومحققة من الكتـــاب. وسبقت صدورها مناقشة حادة تناولت أثر مثل هذا الكتاب، وهو مرجع النازية وحركاتها العنصرية والعنيفة، في قراء اليوم، وسبل الوقاية من الأثر المحتمل أو المقدَّر. ودارت المناقشة بينما كان فريق عمل ينشأ في فرنسا، ويمهد السبيل إلى إنجاز الترجمة. وتولى هذه أوليفييه مانوني، وهو مترجم فرويد و «يوميات» غوبلز. وأنجز شطراً كبيراً منها ومعظم الصيغة الأخيرة.

وأثارت النقاش رسالة كتبها جان – لوك ميلانشون، رئيس حزب اليسار (وهو «يسار اليسار») والمرشح السابق إلى رئاسة الجمهورية، في مدونته «عهد الشعب»، في 2015. ففي رسالته إلى صوفي شارنافيل، المسؤولة في دار فايار عن نشر كتبه، طلب ميلانشون التخلّي عن طباعة «ماين كامف»، ووصف طباعة كتاب كان توقيعاً على «صك قتل 6 ملايين شخص في المعسكرات النازية و50 مليون قتيل إجمالاً» بالعمل الجرمي. ونبه إلى أن نشر الكتاب في فرنسا يصادف إحياء «الفاشية»، وانبعاثها من رميمها في شخص مارين لوبين، ويمدها بمؤونة تغذيها. وكنت متردداً قبل إعلان السياسي اليساري حججه ودعوته إلى الامتناع من نشر كتاب النازية ومرجعها. وهذه الحجج تدعو، على ما أرى، إلى إعادة نشر «ماين كامف».

فهو يطلق العنان للبذاءات المعادية للسامية، لكن الكتاب يخلو من أي إشارة إلى خطة قتل اليهود. وعلى هذا، فتعليق السياسي الفرنسي اليساري يظهر أن شطراً غالباً من النخب المثقفة الفرنسية والأوروبية لا يزال متمسكاً برأي المدرسة التاريخية القصدية (التي ترى في الحوادث النازية إنجازاً لمقاصد وتصورات كانت في ذهن هتلر منذ خطواته الأولى غداة الحرب الأولى)، والبحوث والدراسات تجاوزت هذه المدرسة وأحكامها. فليس ثمة مؤرخ محقق يحسب اليوم أن شخص هتلر هو تعليل النازية الوافي، وأن قراءة «كفاحي» هي مفتاح الأيديولوجية النازية. ولا يستقيم نقد إقامة هتلر في قلب النازية وبمنزلة العلة منها، إلا من طريق عقلنة تناولها. وتقتضي هذه العقلنة ترجمة الكتاب، وإرفاق ترجمته بتحقيق نقدي وعلمي ينتزع منه نفثه المحموم ويبرز مادته الوثائقية.

وعلى الترجمة، وأنا من الفريق المشرف عليها، احتساب مسألة حاسمة هي أن النازيين، وهتلر في مقدمهم، ابتكروا صيغاً من التعبير في الألمانية. فعلى فريق المترجمين والمؤرخين الإجماع على معايير ترجمة إلى الفرنسية مشتركة. فنعت «فولكيش»، على سبيل المثل، مشتق من الاسم «فولك»، ومعناه «شعب»، وهذا يدعو إلى نقل «فولكيش» بـ «شعبوي» (بوبوليسم). ولكن هذه الترجمة لا تستقيم على الدوام أو بغض النظر عن السياقات. ففي بعض السياقات ترجح ترجمة «فولكيش» بـ «قومية إتنية» أو يستحسن في سياقات أخرى، ترك اللفظة الألمانية من غير نقل. والمسألة الثانية هي البت في عناصر التحقيق: تذييل الصفحات بهوامش والملاحظات على الفقرات. فالفريق الألماني الذي حقق الطبعة الجديدة عمل عليها منذ 2009، وعلق على نص الديكتاتور النازي 3500 تعليقة، وأخرج الكتاب في مجلدين و2000 صفحة. وتولى إدارة الفريق الاستشاري المؤلف من 150 باحثاً بعض من أفضل الاختصاصيين في تاريخ النازية عموماً و «ماين كامف» خصوصاً، وفي مقدمهم كريستيان هاتمن وأوتمار بلوكينيغير. وكتب هتلر كتابه هذا في سجن لاندسبيرغ، غداة إخفاق محاولته الانقلابية التي تنسب إلى مقصف الجعة بميونيخ، في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1923. وحاول الاستيلاء على السلطة بولاية بافاريا بالقوة. وفشل فشلاً ذريعاً. وحكم بالسجن 5 أعوام ودين بالخيانة العظمى. وخرج من السجن في كانون الأول (ديسمبر) 1924، بعد 9 أشهر من الاعتقال. وأكسبته محاكمته جمهوراً وطنياً عريضاً. فأراد الاحتفاظ به، وتوسل إلى ذلك بالتنطح إلى مكانة المفكر.

وهو لم يسبق له أن زاول الكتابة قبل اعتقاله وحبسه. فكتب مذكرة من 60 صفحة وقرأها في مثابة مرافعة دفاعية في المحكمة. وكانت المادة الأولى لكتاب فكّر في وسمه بـ «تصفية حسابات». وحين ناقش المسألة مع ناشريه، في حزيران (يونيو) 1924، قرر إضافة عناصر من سيرته إلى الكتاب، والنظر إلى الماضي وفحصه في ضوء «أربعة أعوام ونصف العام من الكفاح ضد الكذب والغباء والجبن»، من غير إغفال استشراف المستقبل على صورة برنامج سياسي. ولا يستبعد أن هتلر حسب كتابه يسعفه على تسديد أتعاب المحامين الذيـــن تولوا الدفاع عنه. فتعاقد مع دار نشر إيهير فيرلاغ الحزبية النازية، على تسديد جزء من عوائد المبيع للكاتب.

ومن الثابت، اليوم، أن هتلر بدأ الكتابة وحده، وخطّ الجزء الأول بيده. ويقول اوتمار بلوكينغير، أبرز مؤرخي كتاب الداعية النازي، أن سلة مهملات الزنزانة التي سجن هتلر فيها، في ربيع 1924، كانت طافحة بالأوراق والخطط والكتابات من كل الأصناف. وانتــــبه هتلر إلى أن خطه عسير على القراءة، فقرر الاستعانة بآلة طابعـــة صغيرة، وطلب إلى رودولف هسّ (أحد قادة حزبه المــــقربين)، وهـــذا كان يزوره يومياً، شراء واحدة وطباعة ما يمليه عليه. ويرجح أن يكون أنجز صيغة أولى كاملة من الكتاب في أواخر 1924. وطبع المجلد الأول، في 400 صفحة، في تموز (يوليو) 1925. وأنجز المجلد الثاني، في 350 صفحة، بعد إطلاق سراح هتلر إطلاقاً مشروطاً. ونشر في كانون الأول (ديسمبر) 1926.

وهتلر لم يكن كاتباً. فهو أولاً وأخيراً خطيب ولم يكتب شيئاً قبل «ماين كامف»، وكتب بعده. وفي 1928، نوى كتابة مذكرات يروي فيها وقائع شهدها واختبرها في الحرب الأولى، ولا نعلم مصير الخطة: هل عاد عنها أم أن المخطوطة ضاعت أو فقدت. ونشر في 1928 ما يسمى «الكتاب الثاني»، ويعالج العلاقات الدولية. والكتاب ظرفي، وولد من الخيبة التي خلفها الفشل الانتخابي في 1928، وحصول الحزب القومي – الاشتراكي (النازي) على 2.6 في المئة من أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية العامة.

وكانت بيعت من المجلد الأول من الكتاب، في 1925، 9473 نسخة، أي نحو مجموع نسخ الطبعة الأولى. وإلى 1930، تقلص المبيع وكسد. ففي 1928، على سبيل المثل، اقتصر على 3 آلاف نسخة، وبلغ في 1929، 7500 نسخة. ومع النصر الانتخابي في 1930 حلقت المبيعات: فبلغت 50 ألفاً في 1930، و90 ألفاً في 1932. وبلغ، في تلك السنة، عدد ناخبي الحزب النازي 37.36 في المئة من جملتهم، ثم 33.09 في الدورة الثانية بعد حل الرايشتاغ. وتسوغ هذه الأرقام الاستنتاج التالي: لم يستوقف «ماين كامف» الألمان حين صدوره، وفي السنوات الأولى بعد الصدور. وما حملهم على الانتباه اليه هو الانتصارات الانتخابية. وبلغ إجمالي المبيعات في الشهر الاول من 1933، 227 ألف نسخة من طبعة الكتاب في مجلد واحد. ولهذه العملية وجه ربحي. فثمن الكتاب، 12 ماركاً، مرتفع، وحصة هتلر من المبيع 10 في المئة. وبعد خروجه من السجن، في 1925، وسع المؤلف شراء سيارة مرسيدس سدد ثمنها من مقدم حقوقه.

وعلى رغم عسر التأريخ لاستقبال الكتاب، يقدر أوتمار بلوكينغير أن الكتاب لم يقرأه كثيرون قبل 1933. فمما فتن في ظاهرة هتلر، قدرته الخطابية وليس موهبة «الكاتب»، على ما أدرك هو نفسه. وغداة استلام هتلر السلطة في 1933، بيع مليون نسخة منه في تلك السنة. وبلغ مجموع المبيع إلى 1945، 12.5 مليون نسخة. وبعد 1933 كان الكتاب هدية العريسين الجديدين في معظم مكاتب القيد المدني. ولا نعلم على وجه اليقين إذا كان الكتاب قرئ فعلاً، وأقبل الألمان على قراءته إقبالهم على قراءة الكتاب المقدس، على ما قيل وزعم. والارجح انه قرئ على شاكلة مختارات ومنتخبات فوق ما قرئ جملة. وما يخيف معارضي طباعته اليوم هو انتشاره الشعائري والطقسي.

و «ماين كامف» كشكول يجمع البرنامج السياسي إلى السيرة، ورواية التسليك والتعلم إلى الرأي. والمجلد الأول سيرة ذاتية متخيلة ومتوهمة غالباً. وفي ضوء سيرة حياته يشرح هتلر كيف تبلور فكره، واستقر تصوره عن العالم. فمن موقع المدينة الحدودية التي ولد بها (براوناو آم إن) يستدل على دوره في تاريخ ألمانيا والحزب القومي – الاشتراكي. وشأن موسوليني، يؤول حوادث ماضيه الضئيلة في ضوء انخراطه السياسي اللاحق. ويصف نفسه بـ «القائد الفتي» والخطيب منذ ملعب المدرسة الابتدائية. ويقص ولادة ميوله السياسية الاولى في أثناء دراسته بفيينا، وفي ولاية عمدتها «اللاسامي»، كارل لوغير. ويتناول ميونيخ، و «حربه»، والثورة، ومحطات تربيته السياسية ونشأة عدائه للسامية وعصبيته عليها.

ويتناول المجلد الثاني الحركة القومية – الاشتراكية إلى 1924. ويصوغ في هذه الصفحات ما يسمى برنامجه السياسي، ويفصل فلسفة الحزب وفلسلفة الدولة، ورأيه في مواطني الرايخ، ومكافحة الشيوعيين، والمؤامرة اليهودية – البلشفية، وإنشاء سلك فرق الصدم، الميليشيا الحزبية، في 1920، ويخلص إلى عرض آرائه في السياسة الخارجية، وتتصدرها مناهضة فرنسا وحاجة ألمانيا إلى «حيز حيوي» شرق القارة الاوروبية. ويدلي هتلر برأي في المسائل كلها: في رياضة الملاكمة وفي الأمراض الزهرية على حد سواء. ويستوقف القارئ هجاس العرق. فهو يعود إليه، ويفسر به، المشكلات كلها من غير استثناء، وهو برنامجه. وتقتصر قراءاته على أعلام الكتاب العرقيين في أواخر القرن التاسع عشر: تشامبرلين وغوبينو، صاحب «المقالة في تفاوت الأعراق الإنسانية». فالقومية – الاشتراكية عقيدة مرنة، ويقوم تماسكها على الحتمية العرقية والدفاع المستميت عن العرق الآري. ويعود إلى هتلر حمل العصبية العرقية و «تفاهة الكراهية» على عامل سياسي حاسم.

* مؤرخ وباحث في ألمانيا النازية وعضو فريق تحقيق «ماين كامف» بالفرنسية، عن «ليستوار» الفرنسية، 2/2016، إعداد منال نحاس.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى