صفحات الثقافةممدوح عزام

كتب يمكن التخلّي عنها/ ممدوح عزام

 

 

 

قبل سنتين كتبت بضعة أسطر عن الرحيل السوري: يأتون مسرعين هاربين من النار، يحملون أشياء لا أهمية لها، صرراً ملفوفة، حقائب عتيقة، وأسراراً أخرى غير مرئية، أنظر حولي، وأفكر: حين أضطر للرحيل، ماذا يمكن أن آخذ معي؟

والحقيقة أنني اضطررتُ للرحيل عن بيتي. وفي حين كان المهجرون السوريون القادمون إلى منطقتنا، يهربون من القتال في مدنهم أو قراهم، كنتُ أنا أستعد للرحيل بسبب اقتراب القتال من بيتي. ولهذا فقد كان لدي ما لم يكن لديهم: الوقت. وفي هذا الوقت أتيح لي أن أختار ما يمكن أن آخذ معي، وقد نقلتُ الضروري من أثاث المنزل مرة واحدة إلى المدينة (أقيم في الريف الغربي لمحافظة السويداء المجاور لمحافظة درعا) مبتعداً أكثر من عشرين كيلومتراً عن ساحات المعارك.

لكن المعضلة هي المكتبة، من سيرحل معي؟ وهو سؤال انطوى منذ اللحظة الأولى على فكرة مقلقة هي فكرة الاستبعاد. إذ لا مناص من الاختيار بين الكتب والكتّاب، في مكتبةٍ تضم قرابة خمسة آلاف كتاب.

وحين بدأتُ في إعداد القوائم، اكتشفتُ أنّ لدي الكثير من الأعذار غير المقلقة للتخلّي عن المئات من الكتب التي شعرتُ أنّ كتابها كانوا عالةً على المكان، وعلى الفكر والثقافة أيضاً، وبعض هذه الكتب لم تعد له أيّ قيمةٍ فكريةٍ يمكن التعويل عليها، ومنها ما يفتقر إلى أي قدرٍ من الموهبة، أو الوجدان الأدبي والفني، لكي لا أقول الأخلاقي والإنساني.

وهذه اللائحة تشمل على وجه الخصوص معظم الكتب الصادرة عن اتحاد الكتاب في سوريا. وقد اكتشفتُ أنها لا تزيد عن كونها تبذيراً طائشا في الورق والحبر، واستهتاراً مغروراً بقيم الفن والحياة ومبادئ الفكر. وقد كتبها عدد من الحواة والدجالين المنتفعين والمداهنين لغايات ارتزاقية محض (مؤلفات علي عقلة عرسان نموذجاً). والحقيقة أنني سعدتُ لأنني لم أستبعدها من مرافقتي وحسب، بل قمتُ بوضعها في صناديق كرتونية، أحكمتُ إغلاقها بشرائط من اللاصق الشفاف العريض، ثم أودعتها في مرآب مجاور لمنزلي، بنيته لما لا يلزم من الأغراض المنفية والمستبعدة.

غير أنّ علي أن أعترف أن الأمر كان أكثر تعقيداً، وأسى في تجارب الاستبعاد الأخرى. ولعل التجربة الأكثر ألماً، هي تجربة لقائي الجديد، أو المتجدّد، تاريخياً، مع كاتب كان له أثر عميق في تكويني الفكري والأخلاقي والوجداني والفني، وهو الناقد المصري محمود أمين العالم. وذلك من خلال كتبه العديدة المتوفرة في مكتبتي منذ الستينيّات من القرن الماضي.

وفيما كنت أستعيده كي يرافق حمولتي من الكتب، رحت أتصفّح كتابه “معارك فكرية”: الصادر في سلسلة “كتب دار الهلال” في الستينيّات من القرن العشرين، وأوّل ما لفت نظري في الكتاب مقال بعنوان “معنى الحرية”، وحين قرأته (الحقيقة هي أنها إعادة قراءة بعد أكثر من ثلاثين عاماً) انتابني شعور بالخيبة والغيظ. لا أصدّق أنني مررتُ، ذات يوم على هذه الصفحات، دون أن أستنكر تلك الأفكار المشينة فيها، من قبل هذا الناقد، تجاه الحرية ومفهوم الحرية. وجوهر المقال يتخندق (عسكرياً بالتمام) حول فكرة يسعى الكاتب لتأكيدها، في الوجدان والضمير العربيين، هي أن الحرية تعني أولاً الالتزام بالقواعد والقوانين.

على أن المريع في الأمر هو أيّ قواعد وأي قوانين؟ إنها قواعد وقوانين أنظمة الاستبداد في العالم تلك التي لم تكن تعطي أي مساحة للحرية. ففي رأيه أن الضوابط ذات الأطر المحكمة كالأحزاب الاشتراكية، والنقابات المهنية (وقد شهدنا نماذج منها في جميع الدول العربية الاستبدادية، مثل نقابات العمال والفلاحين) والهيئات المناضلة؛ هي المعيار الصحيح لقياس مدى الحرية التي يمتلكها الفرد والجماعة. وفي هذا السياق يعلن الكاتب عن سخطه الشامل العديم الرحمة، على جميع الأنظمة الرأسمالية، وتأييده الحازم الذي لا يخامره أي شك، للأنظمة الاشتراكية.

المذهل بعد ذلك هو أن يقول العالم إن “سجون الصين قيود تنبع منها الحرية”، صدّقْ أو لا تصدّقْ، ذلك لأن الصين تعتقل أعداء الاشتراكية الأوباش. وبالطبع حسب العالم “فإن الإنسان في المجتمع الرأسمالي أقل حرية من الإنسان في المجتمع الاشتراكي”، وهو تزوير فظ للحقائق، ما يلبث أن يتجسّد في مقالٍ له كتبه بعد عشر سنوات، أي في عام 1965، وهو العام الذي أعقب المصالحة بين الشيوعيين المصريين ونظام جمال عبد الناصر، عنوانه “معنى الحرية في مجتمعنا الجديد”، وفيه يضيف “أنه في ظل ثورة 23 يوليو تحققت أسس أرقى للحرية”، بل إن “الدعوة إلى تعدّد الأحزاب، وتنظيم المعارضة” دعوة إلى إحياء الطبقات المضادة.. دعوة إلى الثورة المضادة، دعوة مناقضة للحرية، دعوة لتنظيم كلّ القوى الاجتماعية الرجعية والعميلة. هل تصدّقْ أيضاً؟ وإذا كنت لا تصدّقْ أن يأتي مثل هذا الكلام من هذا الناقد، فإنه يقول لنا: “إن طريق الحرية في بلادنا ليس طريق البرلمانية.. بل طريق التنظيم الثوري القائد”.

لا أعرف أين كان يمكن أن يقف العالم اليوم من ثورات الشعوب العربية المناهضة للتنظيمات، “الثورية القائدة” التي كان يهتف وينظّر ويخطّط لها. المؤسف في الأمر هو جيلنا الذي لم يستيقظ مبكراً في وجه هذه الدعوات المعادية للإنسان والمناصرة للاستبداد تحت شعارات الاشتراكية.

وداعاً محمود، لن تبقى في المكتبة أيضاً، وسوف أجد لك المكان الذي يليق بهذه الأفكار، قريباً من السيد عرسان، في مستودع الأغراض التي ما عادت تلزمنا.

* روائي من سوريا

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى