أحمد عمرصفحات الناس

كتيبة “فيكا”/ أحمد عمر

 

 

كادت هرِّة أن تفسد على “سيف الله المغمود” عرسه!

صاحبنا خالد أحد قلائل أهل الهوتو والجماعة، الذين أوفدوا إلى الاتحاد السوفيتي الصديق، ذراً للرماد في العيون، وإثباتاً لقاعدة “شذوذ القاعدة”. شهد هناك مائة عشق أو زُهاءَها، وما في فؤاده موضع شبر إلا وفيه ضربة لوعة أو طعنة شوق، استقر أخيراً على أنثى محضها قلبه وحياته وتزوجها واصطحبها معه إلى القفص الذهبي في الشام.

أرسل زكائب من رسائل الواتس الخضراء إلى زوجته أولغا يرجوها العودة إلى القفص الذهبي، كانت قد صاحبت ابنتها ناستيا إلى روسيا لأمرين: الأول هو تعريفها بجدتها وأخوالها، ومسقط رأسها، والثاني هو وداع الجدة المحتضرة، فطال عليها سالف الأمد. وعدت ألا يطول مكوثها أكثر من شهر، وها قد مضى عليها في بلاد الثلج الذي هزم نابليون وهتلر شهورا سبعة عجفاء، وهو يخشى على حبه أن يهزمه الثلج ذو البأس الشديد، فلا نامت أعين الغزاة.

ماطلت أولغا، ليس لأن الحياة في روسيا هادئة وممتعة، وخالية من البراميل والصواريخ، وأخبار القتل، وإنما لأن الجدة انتعشت بعودة ابنتها وحفيدتها، واخضوضر في قلبها الوعد، وحياة الروس الأرثوذوكس مختلفة قليلاً عن حياة الحداثة المفرطة التي عصفت بالغرب، فلا يزالون يصونون الحياة  الأسرية. وعندما يئس من عودتها قريباً، أرسل يستأذنها في الزواج، فرفضت، فهي تحبه، وما زال بها مطيباً وراجياً، فهو لا ينجب، وناستيا هي ابنتها، وابنته بالتبني. تخرجت ناستيا من جامعة دمشق طبيبة، وقصدت روسيا لاستحصال شهادة التخصص في طب العظام، تضرع لزوجته يستفتيها، ويحببها: ستكون الضرة صديقة لك في البيت، وأنا وحيد، وقد وهن العظم واشتعل القلب لوعة. وسيكون الصدر لك وللضرة العتبة، ستعيشين تجربة الضرة الرائعة. قالت له: معك “فيكا” ستؤنسك. وفيكا هي هرتها الروسية الجميلة، قال لها: فيكا حيوان، وأنا أريد زوجة تدفئ الضجيع، وتحيي الصريع، وتقوم بالتطبيع، فسكتت أولغا، وأرسلت وجهاً من رموز الواتس وضاحاً وثغره باسم. وافقت أخيراً على خوض تجربة الضرة، وقد كانت مثل بلقيس أَسْلَمْت مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

انتشرنا في القرى والأحياء المجاورة نبحث له عن عروس، وما أكثرهن ثيبات وأبكاراً. أنّث رئيس جمهورية المصادفة سوريا، وجعل ألف الفحولة تاءً مربوطة ربطاً محكماً. هُدينا إلى عروس من حور عين الدنيا، صبية في العشرين، حوراء عيناء، لو نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا، في السنة الثانية من كلية التاريخ، فرع اللغات القديمة، وهو فرع نادر من العلوم. وكانت الدراسة قد توقفت بعد أن قُصفت الكلية، وباتت أنقاضاً وسُفْعٍ رَوَاكِدِ جثَّـمِ. زغرد قلب صاحبنا عندما دخلت شهرزاد تحمل صينية الماء المحلى بالسكر وملح الليمون، تبارك الله أحسن الخالقين. قرأوا الفاتحة، وتمنى بعضنا أن يقرأ سورة البقرة لشدّة جمالها، وقضي الأمر واستوت على الجودي، وصارت زوجته، فوليُّ أمرها هو خالتها، والإناث أسهل من الرجال عقداً ونقداً، وألين عريكة، ولا رجال في البيت، فهم إما في عالم رئيس جمهورية المصادفة الآخر أو في عالم الله الآخر. لكن شهرزاد التي يكبرها العريس بسبع وثلاثين سنة، اشترطت شرطاً بعد اللقاء الأول، لم يكن شرطها مالاً أو جاهاً، ولا أن يطلّق ضرتها الروسية أولغا، طلبت منه طلباً سهلاً، وهو أن يطرد الهرِّة من بيت الزوجية، كانت في صغرها قد مرضت من الهررة، وهي تخافها، وهنا وقع صاحبنا في وبال أمره، فالهرِّة هرِّة أولغا المدللة.

راسل زوجته أولغا يستفتيها في شأن الهرِّة، فهددته: كل شيء إلا “فيكا”، قبلتُ بضرة، أما أن تطرد هرتي فالويل لك إن فعلت، فاستغاث بنا، فجلسنا نتدارس المعضلة، ووجدنا حلاً بأن يتبناها أحدنا الى حين عودة أولغا، ولكل مقام مقال إلى ذلك الحين. عرضوها عليّ، فاعتذرت، فجاري أبو غدير من حُمس  أقلية التوتسي الكريمة الحاكمة، وكان قد أجبرني على إجلاء هرتي وهريراتها الأربعة إلى مغرب الشمس في عين حمئة، طلبنا من جارنا زكريا فأبى، فهو من  أكثرية حُمس الهوتو، وأهل قريته معروفون بالشدّة، ما إن تلد أمٌ أنثى حتى يحجّبونها بالقماط، فكان أن قبل بها صاحبنا عبد القدوس على مضض أيضا، فزوجته مثل العروس شهرزاد لا تحب الهررة.

أولم صاحبنا، وجدّد فراشه، ودخل بعروسه لتعلمه أقدم لغة في الأرض، وبنى بها بنيانا مرصوصاً، وعدنا إلى دروس لغات اللغو والجزاء في بيوتنا مع “الجهات المختصة”.

غرق صاحبنا خالد، الذي كنا نلقبه بسيف الله المغمود، في العسل، كان يقول : والله إن نفسي لتحدثني بالجهاد، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلُّوا.

أما عبد القدوس فأمسى يشكو من الهرِّة غريبة الطبع، فهي حقاً أجمل هرِّة رآها في حياته، أحلى من لبوة. كانت صاحبتها اولغا قد زينتها بعقد من خرز مختلف الأحجام و متباين الألوان حول جيدها. سبحان الذي من جعل اللبوة المتوحشة  هرة أليفة. كان يصف وقفتها على يديها على النضد، وضجعتها الوحشية المثيرة بجانب المدفأة، وكأنها أنثى الوشق في العرين، لولا أنها هرِّة كئيبة وعدوانية، تخمش الأولاد، فقد ملأتهم بالجروح، ومتوحدة، مثلها مثل أسد المتنبي: في وَحدَةِ الرُهبانِ إِلّا أَنَّهُ ـ لا يَعرِفُ التَحريمَ والتحليلا. ذهب إلى بيت العريس خالد يسأله النصح، ووقف أمام الباب طويلاً حتى فتح له، واشتكى له إضرابها عن الطعام وصومها، فقال العريس: هذه هرِّة لا تأكل إلا مكعبات طعام الهررة. وعاد إلى ألف ليلة وليلة التي إلتبس فيها الليل بالنهار .

المدينة قد دمرت، ونفذت ميرتها ولم يبق بها طعام للبشر، فكيف بطعام الحيوانات، صدق الصادق الأمين عندما قال: اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم.

إنها تموء كأنها تبكي، ستفطر قلوبنا من الألم وهي تعجرم، وزوجتي باتت تتضايق منها، والبيت مزدحم بالأهل النازحين، والطعام قليل، وهي لا تأكل، وأقسم عبد القدوس: اشترينا لها اللحم المعلب، والسردين، ونؤثرها بجلد الدجاجة التي لا يهدر منها شروى نقير، لكنها تعافه كأنه مسموم؟

نصحناه بأن ينزل بالهرِّة البنغالية الهيئة المرقطة بهالات برتقالية من الشقة إلى باحة العمارة، علّها تسعى وراء خشاش الأرض ودوابها الطائرة، فالحيوانات قوية الغرائز. وعدنا إلى الثورة الواعدة ظانين كل الظن أن الغرب الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان سينجدنا، وعرفنا متأخرين بعد عدة آلاف من القتلى أنه يرعى القتلة.

تركت مجموعتنا التي أطلقت عليها اسم ” كتيبة فيكا”، وقصدت السوق وعدت بعد أن تجنبت جثة امرأة وقف عليها بعض المارة كما يليق بسوري صقلته الحرب وجعلته مثل الرجل الأبيض الغربي. رأيت دخاناً أبيض يتصاعد من مدخنة خالد الذي طال شهر عسله مع العروس الجديدة، يبدو أن شهرزاد تروي له قصة التاجر والعفريت من قصص ألف ليلة وليلة وقد خرج، وعجز سندباد عن إعادة العفريت إلى فرع فلسطين.

وجدتُ جاري زكريا في طريقي، فسألني عن الأخبار: أشرت إلى الدخان الأبيض الصاعد من القفص الذهبي، وكنت قد وصفتُ للعريس وصفات طبية عربية عشبية تكثر من الخصوبة في ماء الكينونة وتقوي الباه ،ولا شيء يقوي الباه مثل  منظر الحور العين، وكان لا يزال يأمل في الإنجاب وهو على عتبة الستين.

وقلت له مداعبا: كان سيف الله المغمود يحدِّث نفسه بالجهاد وقد رُزقه، وبات سيفا مسلولاً، فالنكاح جهاد أيضا وعلى نياتكم ترزقون.

قال زكريا وفي لسانه نبرة حسد ظاهر: ما كُلُّ مَن طَلَبَ المَعالِيَ نافِذاً ـ فيها وَلا كُلُّ الرِجالِ فُحولا.

تابع: ما أظنّه دخان نصرٍ يا أوزون القلب،  هذا دخان الجِلَّة.

عاد زكريا إلى “الجهات المختصة” ليذوق وبال أمره في الزنزانة الذهبية، ونسي أن يقول لي عند ذكر الجِلَّة: أجلّك الله، أو أعزك الله، والخطوب تنسي.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى