صفحات الثقافة

كحلٌ أسوَد/ ميرفت أحمد

 

كأية امرأة حزينة أسحب قلم الكحل من حقيبتي. قلم الكحل الذي حافظ على طوله لسنوات ولم تحنِ ظهره الأيام والمآسي. ثم أعيده في حركة مترددة إلى الجيب الداخلي للحقيبة وأحكم إغلاق السحاب المعدني عليه.

ليس الوقت مناسباً للكحل الآن فأنا أبكي كثيراً، ودائماً يتساقط لون الكحل العربي مع أول دمعة من عيني ليغدو وجهي ملوّناً كحمار وحشي.

على عجل أرتدي ثيابي العادية وأخرج دون رشّة عطر. ليس اقتصاداً كي لا تنتهي زجاجة عطري الفاخرة التي أهدتني إياها صديقتي وقالت لي حينها، وكأنها تعطيني أوقات استخدامها كوصفة طبية: “مرة واحدة صباحاً وخلف الأذنين وسيقع في شباكك عشرة شبان”.

أذكر أني استعملتها مرة واحدة فقط ونجوت يومها من تفجير حدث في السوق حيث اكتشفتُ أنني لا أحمل ما يكفي من النقود وعدتُ لمنزلي قبل الانفجار بقليل. ومن يومها صار هذا العطر مختلطاً برائحة الخوف والموت لدي.

وكنت أحياناً ـ عندما أشتاق أن أضع رشة منه خلف الأذنين تحديداً كما علمتني صديقتي ـ أتودد إليه وأعتبره مقترناً برائحة النجاة من ذلك الموت الذي كان قريباً لولا قلة نقودي في ذلك اليوم.

الآن أقف في طابور طويل على أحد الحواجز كوظيفة يومية قبل الوصول إلى العمل مع عشرات الناس. أتخلى عن دوري في المقدمة لفتاة ورائي كي أقترب من الشاب الذي يقف خلفها. ويصير بثوان خلفي أنا. ثم أحاول شد جسدي لأبدو أطول. ترى كيف هو شكل الشاب الواقف خلفي؟ لو وضعت رشة من ذلك العطر كان سيسألني عن اسم العطر. وبعدها سيسألني عن اسمي وهكذا سنتعرّف إلى بعضنا بعضاً ونغيّر اتجاه طريقنا لنجلس تحت شجرة في حديقة ونستمع إلى زقزقة العصافير معاً.

لكنني لم أضع الكحل في عينيّ، وعيناي متعبتان كثيراً من السهر والبكاء.

أمد يدي في حقيبتي أتحسس قلم الكحل الطويل وأداعب نعومته وغطاءه المعدني المذهّب.

ترى هل لديه الفضول ليعرف شكلي واسمي مثلما أشعر أنا؟

لا أستطيع الالتفات إليه، أخشى أن تصدمني لا مبالاته مثلاً، وحينها سأتألم أكثر.

لن أتحرك سأبقى واقفة مكاني ولن أدير رأسي إليه، يكيفني أن أشعر بأن هنالك رجلاً يقف خلفي وتصلني موجات جسده الحارة في هذا اليوم البارد.

تتقدم الفتاة أمامي خطوة وأتقدم مثلها ليتقدم هو بدوره. ثم أسمع صوته الخافت الهادئ وهو يكلّم مَن خلفه دون أن أدير رأسي وأنظر إليه. أشعر بحكة غريبة في جسدي ورغبة في النظر إلى وجهه. لكن لا. لن أتحرك إلا إلى الأمام وسيبقى هو خلفي. ربما بعد الحاجز سنستدير وننظر في عيني بعضنا بعضاً. قد تكون عيناه جميلتان وقد يغرم بي وأغرم به ونغير وجهتنا فلا أذهب إلى عملي ولا يذهب إلى عمله ونجلس معاً في مقهى قريب لنتحدث عن الموسيقا والحب والحياة.

تتقدم الفتاة أمامي خطوة أخرى ثم خطوتين فتقطع علي أحلامي وأتحرك أنا خلفها وهو خلفي. أستلذ بكونه يتبعني مع أني أعلم أن الأمر ليس كذلك.

تعبر الفتاة الحاجز بعد أن تقدّم هويتها ثم تتابع طريقها بسلام. وأتقدم أنا ثم أتابع طريقي في حركة بطيئة ودون أن أنظر إلى الوراء. وقلبي يخفق بشدة وأنا أمسك بقلم الكحل في جوف حقيبتي وأفكر بالاختباء في مكان ما ووضع القليل منه في عيني.

لكن هل سيتبعني ذلك الشاب بعد أن عبرت الحاجز؟ هل راقت له اللعبة مثلما راقت لي؟

أمشي بخطوات بطيئة وأتمهل كثيراً وأنا أنتظر أن يأتي ويلحق بي ليأخذ رقم هاتفي على الأقل.

لكن لا شيء من ذلك كله قد حدث، فقد اختقى الشاب على الحاجز ووُضِع في باص كبير بعد أن كبّلوا يديه دون أن أرى وجهه أو أعرف شيئاً عنه. ووصلتُ إلى عملي وحيدة بينما كانت أصابع يدي كلها ملطخة بالكحل الأسود.

* كاتبة من سوريا

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى