صفحات الرأي

كراهية بعيدة وكراهية قريبة

دلال البزري

يكره “الممانعون” أميركا وإسرائيل، من حيث المبدأ، نظرياً. على هذا الأساس، يرسمون خططهم واستراتيجيتهم، يصيغون خطابهم وشعاراتهم، ويبحثون عن شركاء لهم في هذه الكراهية بين الدول والمصالح، ويغرفون من التاريخ القريب ومن ثقافته زادهم القليل. قضيتهم، أميركا مثلاً، ليست مشخْصنة إلا بالوجوه الأميركية الرسمية: الرئيس الأميركي، أو وزير خارجيته أو سفيره… وهي وجوه متجمّدة، باردة، تكاد تكون من الشمع، لشهرتها ولكثرة ظهورها على الشاشة. ولولا العمليات الأمنية التي يخوضها “الممانعون” ضد هذا او ذاك من موضوعَي كراهيتهم، أميركا وإسرائيل، لقلنا إن نوعية الكراهية التي يكنّونها لهما أقرب إلى الكراهية الأوتوماتيكية، المجرّدة، المبرمجة، النظرية. مثل  الورقة الفلسطينية، لكن بالمقلوب، كما تستحق هذه الأخيرة صفة “المحبة البعيدة”، فإن الثنائي أميركا وإسرائيل يستحق صفة الكراهية “البعيدة”.

أما الكراهية الأخرى، “القريبة”، فتختلف عنها، مع انها تغذّيها، وربما تتغذى بها. وموضوع هذه الكراهية تم تعيينه، منذ فجر ثقافة “الممانعة”: إنهم “العملاء” المحليون لأميركا وإسرائيل،  “الجواسيس”، “المتخاذلون”… كل الجماعة البشرية أو الأفراد المجاورين، الذين وجدوا أنفسهم خارج هذه المشاعر الجياشة ضد أميركا واسرائيل. تُرسم في وجوههم خطوط التماس، وما أدراك ما خطوط التماس. لذلك، هؤلاء بالضبط من تنقضّ عليهم الكراهية الأكبر، القريبة: ضدهم ترسم أدق الخطط والمكائد والاعتداءات. ضدهم يُغرف من التاريخ ومن الثقافة قدراً أعظم من السرديات والروايات المجبولة بالدين وبالتاريخ، دعماً لكراهيتهم.

 فهؤلاء الأعداء “المحليون” وُجدوا قبل أميركا وإسرائيل. عمرهم ألفية ونصف، وحان الآن موعد الثأر…  وسرديات الكارهين من قرب لا تنضب، ولا تشبه في شيء الكلمات القليلة، الجاهزة المقتضبة، عن “إبادة الهنود في أميركا” أو عن “تاريخ اليهود”. فهي تفصّل وتكرّر وتغوص في الأرواح البعيدة، ثم تعود بها حاملة إحتفاليات تحريضية تحثّ بقوة على تغيير لبّ الكراهية، وغرسها في قلب جذور حقد سحيق. في هذا الباب من أوجه “الممانعة”، تكمن الديناميكية الخارقة التي تتمتع بها هذه الكراهية الحميمة. فوجوهها في الجوار، حيّة، وأناسها نساء ورجال من لحم ودم، يتقاسمون معهم الهواء ذاته، الجنسية ذاتها، “الوطن” ذاته.

 ولولا التمويهات الكثيرة التي يتدثّر بها الكارهون حمايةً لشعارات الحق، لقلنا إن المناوشات اليومية التي تغذيها هكذا كراهية دخلت في مطحنة،  تتفوق فيها الكراهية القريبة على الكراهية البعيدة،  بزخمها وحضورها الكاريكاتوريَين.

 على المنوال نفسه، تسير الآن السلفية الجهادية العربية. فبعدما فجّرت ما فجرته ضد أميركا وأوروبا، استقرت كراهيتها على القريب منها، وصارت أينما حلّت تقاتل وتكفّر أبناء الأديان والمذاهب الأخرى، أبناء مذهبها “المرتدين”. ولا تسارع الى شيء قدر مسارعتها الى التنكيل بأعدائها المحليين الكُثُر هؤلاء، وتطبيق عقوبات “الشرع” عليهم، وتدمير ذاكرتهم… ما أدخلها في الحلقة المفرغة التي كانت تستدعيها نظيرتها “الممانعة”، والتحمت معها بصراع دموي مفتوح على الكراهية القريبة، ذات الأفق اللامتناهي.

 عرفنا أياماً، حسبناها “ذهبية”، كانت الكراهية البعيدة فيها تتساوى مع القريبة أو تطغى عليها. لكنها كانت كراهية، لا نتقدم بها بشيء، ولا نرتقي. فقط نكره، كما نحب أو نعبد. من هذه المشاعر ربما تسلّلت الكراهية القريبة، التي اجتاحت فضاءاتنا الآن واستقرت في جوارحنا.

 الكراهية رهيبة الى درجة أن التعبير عنها لا يمكنه أن يكون مدموغاً بنَصّ أو إعلان أو قرار. إنها تتسرّب إلى الخاص، إلى العائلة، إلى الأصحاب والزملاء، ودائماً بالمواربة والإيحاءات والكلمات الخاطفة واللهجات وحركات الجسد، بأمواج الذبذبات المتدفّقة. لكل هذه الأسباب  تتفوق ديناميكيتها على تلك التي تحرّك الكراهية البعيدة، لأميركا وإسرائيل، وهي أكثر دموية منها، وقد يعيش عهدها عقوداً من الزمن، تكون الإمبريالية أثناءها قد استقرت داخل أسوار الصين.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى