صفحات الثقافة

كرنفال الفرح في سوريا


روجيه عوطة

لطالما اعتقد الناس أن الثورة مشهد تاريخي قاتم، بلا ألوان، شخصياته حزينة، كئيبة، تعاني من جروح خلّفها اليأس في دواخلها. صُوّرت الثورة في الوعي التراثي على أنها قرينة الإحباط والمرارة والهموم، لا يمكن المزاوجة بينها وبين الفرح المستثنى دائماً من قاموس انفعالاتها النفسية.

لم يعر أحدٌ الفرحَ أي اهتمام في اللوحات الثورية، وقد جمعت الدروس التي لقّنتها الأحزاب اليسارية لأتباعها بين الألم والتمرد، وتوقفت عند شعار “فجيعة الشعب”. كان الفقدان وظيفة من وظائف اليسار الحزبي في أيامه الماضية، يتكيّف مع صدماتها، يتقبّل تداعياتها، ثم يساوم على خسائره من دون أن يشفى من اضطراباته. لذا، عندما انتفض الناس وسبقوه إلى الشارع، فوجئ بما حصل وفكّر في الخضوع لجلسات علاجية تُبقيه فوق حزنه المعقد وتخلصه من اكتئابه المقصود.

في آذار الماضي، هبّت سوريا لملاقاة الحرية. اليوم، يرى أهلها أنهم يخوضون، بالتوازي مع معارك الحرية، معركة الغبطة في وجه القنوط المتهم بالتواطؤ مع الطاغية ضدهم. لمحاكمته، يستولون على الفرح، الذي غاب عنهم مدى عقود، ويدافعون عنه في محكمتهم الاحتفالية. بالرقص والضحك، يخلع الشعب السوري الغمّ عنه، يترك الأسى جانباً، ويتعرف إلى السرور، مثبتاً تورط الحزن في انتهاك حريته، وجازماً أن ثورته تجيد محاكمة الحزن في كرنفال الفرح.

يتبع المنتفضون في المدن السورية أساليب جديدة في تظاهراتهم، تتيح لهم الاستمتاع بما كرّسته ثورتهم كطقس احتفالي يمارسونه يومياً. في غالبية الفيديوات التي نشاهدها، يتقدم الفرح على الحزن، الضحك على الغضب، التصفيق على الصراخ، والغناء على العويل. على رغم الموت والدمار والخراب، أظهر الشعب بهجةً ثورية ينفرد في التعبير عنها وتقاسمها والتشارك في إعطائها قيمة سلوكية تسمح بتخفيف أعباء القمع والعنف التي يرزخ تحتها. وضع السوريون الفرح ضمن خطتهم التي يواجهون بها سوداوية الاستبداد، واتفقوا على إحراج السلطة التي تخفي غضبها خلف ابتسامات يرافقها كلام عن زلازل في المنطقة. يخاطب الناس هذا التصرف الرسمي القلِق، ويساهمون في مضاعفة توتره، ويحتفلون بتحفيزه على الخروج من كواليس التجهم إلى العلن.

كثرة الضحك تذهب الطاغية

استطاعت النتوءات اللغوية أن تتغلب على الانسجام الصوري في شخصية الفرد التي منعت المشاعر من التقدم نحو ابتكار مصادر تصرفاتها وسبل تحققها، خوفاً من انهيار التناغم بين الإنفعال والأصول النفسية. ضعفت الوحدة الصورية، وطفت مشاعر جديدة على سطحها. الانفعال الذي سكن قعر الشخصية البسيكولوجية، أو سحقته آلة لغوية ما، حصل على مكانه عشية هبوط مبنى الخوف وتمزيق صور زعمائه الغاضبين. تصدّع الانسجام النفسي وتراجعت انفعالاته المتناسقة إلى الوراء لتحلّ انفعالات أخرى مكانها.

شقّ الضحك طريقه إلى التظاهرة السورية، وبدأ بالظهور، منذ أسابيعها الأولى، في لغة الشارع الساخرة، إلى أن جاء وقت انفجار التظاهرات من الضحك على الطاغية وسلطاته الأمنية والإعلامية. من مظاهر الانفجار النفسي هذا، اللافتات والتدوينات التي استهزأت بعنف النظام، وحوّرت اتهاماته إلى “نكات ثورية”. مثالاً على ذلك، النكتة التي انتشرت على مواقع الثورة الإلكترونية، بعد إلقاء القبض على المثقفين والفنانين الذين تظاهروا في دمشق: “الإخبارية السورية، عاجل: قنوات الإعلام المغرضة تبث خبراً عن اعتقال فنانين ومثقفين في دمشق، في حين كان الفنانون برفقة بعض عناصر الأمن يؤدّون المشاهد الأولى في فيلم “بلا حرية”. للتهكم من خطاب السلطة وبراهينها وحججها، نسبت المواقع الإلكترونية عدداً من التصريحات إلى أبواق النظام ومسؤوليه: “البوطي: الجيش لم يقصف المئذنة بقصد الهدم، وإنما قام بتقصيرها، وهذا مستحب، لأن التطاول بالبنيان من علامات الساعة”، “في خطتها لتأمين فرص عمل، قامت الحكومة بالإعلان عن وظيفة متظاهر عفوي شريطة تحمل ضغوط العمل والسفر بين المحافظات”. ونسجت حكايات تطاول الوضع الأمني والإستخباراتي: “عنصر مخابرات يقدّم تقريره عن متابعة أحد الثوار: المندسّ ركب سيارته وأنا ركبت تاكسي للتمويه، المندسّ ذهب إلى الدكان وأخذ بيبسي وأنا أخذت ميراندا للتمويه، المندسّ مسك طريق حلب وأنا مسكت طريق الشام للتمويه”، “مرة مواطن سوري فاق من النوم. ما سمع صوت رصاص، ففكّر حالو بالجولان”، “واحد من المندسّين سأل صاحبه: يلّي بموت بالثورة… بيطلع على الجنة أو على النار؟ قلّو صاحبه: بيطلع على “العربية” أو “الجزيرة”… يا أهبل”، “الدبابة التي تحمل رقم 765 المملوكة للفرقة الرابعة، مسكّرة عسيارة “هوندا سيفيك” يرجى من صاحبها تحريكها بدّنا نلحق المظاهرة بمعيتك”.

عبّرت اللافتات عن حس فكاهي في تناول الأحداث والمواقف السياسية: “جديد سميرة توفيق: بين الرقة ودير الزور مرّت دبابة حمرا”، فيروز تغنّي: في دبابة علمفرق في عسكري وفي نار، نبقى أنا والسلفي نغسلها ليل نهار”، “بلا حوار، بلا بطيخ، هيدي مؤامرة من المريخ”، “الرجاء عدم تسييس حادثة قتل الحمير، كونها لا تعدو سوى خلافات عائلية”، “تعديل بسيط على مطالبنا: إخرس، إرحل”، “الساكت عن الثورة، شبّيح أخرس”، “أيها الطاغية، أنت طالق بالثلاثة”، “لا تلحقني مندسّة”، “رجب، حوش صاحبك عنا”، “سورية خلصت والأزمة بخير”.

يسخر السوريون من الطاغية، يحتقرون الخوف الذي فرضه عليهم طويلا، ويتجاهلون الموت الذي يحصدهم بآلاته. ضحكاتهم تستفز النظام، تنعى سياساته النفسية التي يفتخرون بتخريبها، ويستردّون المشاعر التي سلبتها منهم. وراء كل ضحكة ثورية، كمّ هائل من الأحزان، أراد السوريون التعبير عنها، على عكس ما تمنى الديكتاتور، كي لا تبقى الحرية شعاراً خارج أجسادهم، اجترحوا الغضب بحريتهم، وقضوا على تجلياته الداخلية. استرجع الشعب الضحك المسروق منه، ومن المؤكد أن مهابة الديكتاتورية قد ولّت إلى غير رجعة.

كوريغرافيا النشوة

ينظر المتظاهر إلى جسده على أنه كامل، يضج بالحياة، والقوة تصدر عنه بحركات عضلاته وأعضائه التي تجد أنها امتلكت فضاء واسعا، في إمكانها أن تتحرك فيه وفقاً لإرادتها. عندما يرقص المتظاهر ويجعل من جسده كتلة شعورية خفيفة على الأرض، وتتحدى الجاذبية حتى تكاد تطير من المرح، يبوح الجسد بأسراره، أو بالأحرى يعود إلى ذاته ويطلق العنان لمشاعره، فيملأه الضوء: الرأس والذراعان إلى الأعلى، والقدمان تقفزان من الفرح. في هذا المشهد، ينحاز الجسد إلى إيقاعه الثوري، ويتواصل مع فضائه بكل حرية ومرونة، إذ ليس من السهل أن ينحاز الجسد إلى إيقاعه من دون أن يشعر بحرية اختيار المكان، حيث تشعّ لذته ويفتح الباب لطاقته التي انفصل عنها. يتمايل جسد المتظاهر، يقفز يميناً ويساراً، ويخطو إلى الأمام ثم إلى الوراء، ليصنع لعبته مع الجهات الأربع، ويخلق موسيقاه وحيداً من دون العودة إلى قانون الجاذبية. جسد الراقص سيّد نفسه، لا يزج به أحد في صف، ولا يحدد له نشاطه. العفوية تجلب اللذة له والحرية تهدي اليه نشوة تتمدد وتزيّن فضاء الرقص وتهندسه دائرياً، كما يجري عادةً في التظاهرات الضخمة، إذ يجتمع كل أربعة أو خمسة متظاهرين في حلقة ويرقصون، أو خطياً في تظاهرات الأحياء الضيقة. خلالها، ينظم المتظاهرون أجسادهم في خطوط، ويؤدون الرقص والغناء. في بعض الأحيان، يجلس المتظاهرون على الأرض، وفي لحظة مفاجئة، يقفزون ويبدأون بالرقص والتصفيق، أو يرفعون قبضاتهم ويهتفون للحرية. إذاً تتكفل نشوة الجسد هندسة الأرض التي تفقد جاذبيتها وتستسلم لأعضاء الجسم المرن وإيقاعه الذي تترجمه حركات جسدية تظهر كما لو أنها تواجه رصاصاً يراه الجسد وحده، ويتحاشاه بالرقص. الجسد الرشيق يتصدى للرصاص والنشوة تملأ الأرض، والمعركة محسومة لصالح الحرية.

وحدهم السوريون الذين يبجلون الضحك والرقص، هم القادرون على إنقاذ فرحهم وتجاوز المحن، وعدم التراجع أمام التهريج الأمني الذي  تمارسه الديكتاتورية بين حين وآخر كي تتبرأ من دم الشعب المقصوف بالدبابات والطائرات. الفرق واضح بين التهريج والضحك، والخفة والثقل. مهما حاول النظام تقليد المرح فلن يتمكن من إقناع المجتمع بأنه لا يأخذ الانتفاضة الشعبية على محمل الجد، وبأنه يحافظ على جاذبيته السياسية. يكفي أن حواجز الخوف الفولاذية التي سهر على تشييدها بالقمع قد اختفت عند أول نكتة وأول رقصة في تظاهرة تضحك وتخبر الطاغية أن العنف الذي يستعمله تجاهها ليس سوى دلالة على ضعفه تجاه شخصيته الغاضبة من ناس يتكلمون عن خوفهم، ومن مجتمع حاولت المحللة النفسية رفاه ناشد إسماعه صوته المكبوت فاعتقلت بتهمة “التحريض على التمرد” أو على الفرح.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى