راتب شعبوصفحات مميزة

كلام لا يقي من البرد/ راتب شعبو

 

 

حين كنا في سجون نظام الأسد متروكين للنسيان أعواماً طويلة، كان يكفي أحدنا أن تصله في الزيارة تحية من صديق أو قريب أو جار، حتى ينشغل لأيام في الحرق على الخشب أو في حفّ بذور الزيتون أو نسج الخرز لإعداد هدية لهذا الشخص الذي ذكره، لكي يردّ إليه تحيته. السجن المديد يولّد في السجين شعوراً بأنه فائض على الحاجة، وهذا النقص الكبير في الاعتبار يعطي قيمة كبيرة لأبسط إشارة اعتبار. الشعور العميق بالإهمال، يعطي قيمة كبيرة لأبسط اهتمام. المختبر النموذجي لهذه التجارب هو الإنسان المحاصر، أكان يحاصره السجن أم الضعف أم الحاجة أم الغربة أم …الخ.

تعيدني حال السوريين اللاجئين اليوم في لبنان (وغير لبنان) إلى ذاك الشعور الكاوي بانخفاض القيمة الذاتية للسجين المزمن والمهمل على خلفية الركود العام الذي كان سائداً في البلاد. المفارقة أن اللاجئين السوريين يعيشون الشعور ذاته اليوم، ولكن على خلفية انفجار كبير في البلاد. القاسم المشترك بين ذاك الركود وهذا الانفجار، هو طرد الناس إلى الهامش عبر تشتيتهم وشلّ فاعليتهم. بعد ذلك، ومن جراء ذلك، تكريس التفارق بين الحق والقوة. في زمن الركود كان تهميش الناس يتم بتذريرهم وتخويفهم وقتل أي شعور تضامني في ما بينهم. مع اندلاع الثورة السورية، حين فشلت السلطة السورية في احتواء الشعور التضامني بين أبناء الشعب، صار القتل المباشر أو غير المباشر (التجويع بالحصار أو بالسجن) وسيلة السلطة في طرد الناس إلى الهامش من جديد.

لا عجب في أن يشعر السوريون اللاجئون بامتنانٍ عالٍ لصحافي لبناني تضامن معهم بكلمة، أو ذكّر اللبنانيين بفضلٍ سابق للسوريين أيام الحرب الأهلية اللبنانية أو الحروب الإسرائيلية المتلاحقة على لبنان. لا عجب في أن يرفع اللاجئون السوريون كاتباً مثل الياس خوري إلى مصاف عال لمجرد أنه هجا صنّاع القرار اللبنانيين ووصفهم بالحمقى والجبناء لأنهم فرضوا على السوري الحصول على فيزا كي يدخل إلى لبنان (في المناسبة هناك صحافيون لبنانيون آخرون يستحقون من السوريين كل الاحترام، كان قلمهم وقلبهم مع السوريين منذ بدايات النزوح). وطبيعي، في المقابل، أن يشعر السوريون بغيظ مكتوم إزاء أي لبناني يتكلم ضدهم بعنصرية. غيظهم مكتوم لأنهم محاصرون بالحاجة. محاصرون من الخارج ويحاصرون أنفسهم من الداخل كي لا يخسروا كل شيء، بما في ذلك أرواحهم التي لجأوا إلى لبنان لصونها من الموت المعمم في بلادهم.

ولكن بعد كل شيء، يبقى اللاجئ لاجئاً ويشتد حصاره، ويزيد في حصاره أن بلاده (سوريا) تنأى عنه أكثر. في الغالب الأعم ينقسم الناس في كل قضية مأسوية كهذه، إلى ضحايا مباشرين وإلى متفرجين يقفون على ضفة المأساة. في الفرجة يتضاءل الفرق بين المتعاطف وغير المتعاطف. الطرفان تجمعهما الفرجة أكثر مما يفرقهما الموقف. ينشغل المتفرجون بصراعاتهم الكتابية، تتحول الضحايا عندهم إلى كائنات تُرى على الشاشات، كائنات نقرأ أو نسمع عنها ونتخيلها، وتتحول القضية الى موضوع مثير لإبراز المهارات بابتكار تعليقات ساخرة مثلاً، أو إلى مناسبة لرصد المواقف الكتابية العديمة القيمة وتسجيلها، وما إلى ذلك. نمارس نحن المتفرجين كلَ شيء لا قيمة عملية له. ما قيمة الكتابة أمام مأساة من هذا النوع؟ المقالة لا تمنع العاصفة من أن تشلّع وتد الخيمة، ولا الريح تنتظر اكتمال سحر المقالات حتى تمارس جنونها، ولا البرد يأبه لقوة تأثير صورة طفل مات بسبب البرد.

خط الفصل الوحيد في النهاية هو بين ضحايا مباشرين ولا ضحايا أو ضحايا مؤجلين. لا يغيّر كثيراً على وضوح هذا الفصل، اختلاف المشاعر بين مَن هم خارج المأساة المباشرة. كما لا يغيّر كثيراً على أساسية هذا الفصل، التباين بين مَن يكتب بلغة عنصرية وبين مَن ينشغل في الهجوم على مقال أو تصريح عنصري هنا أو هناك. يبقى هذا التباين الكتابي ثانوياً وربما تافهاً أمام فداحة واقع اللاجئين وفحشه. كل ما لا ينعكس عوناً مادياً مباشراً لهم، يقع في خانة اللاجدوى. أقصد اللاجدوى المباشرة. فقد يكون، ولا بد أن يكون، للشغل الثقافي المضاد للعنصرية مفعوله المستقبلي. غير أننا أمام مأساة في طور الفعل المباشر، ولا شيء يحمل قيمة حيالها سوى الفعل المباشر.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى