صفحات الثقافةعبدالله أمين الحلاق

كلمات على أطلال الكتب والرقابات

 

عبد الله امين الحلاق

لدى الكتابة عن «خير جليس في الأنام»، يخيل للقارئ أن الزمن يعود نظرياً إلى ما قبل لحظة البوعزيزي، أي ما قبل اندلاع نار الثورات العربية ضد الطاغوت العربي، ذلك أن ما يجري اليوم من ثورة في سوريا التي لم تنجز إسقاط النظام فيها بعد، ومن مكابدات تشهدها البلدان التي أنجزت ذلك الإسقاط، كفيل بأن يبقى الكتاب مهمشاً في عالمنا العربي وشعوبه، ويبدو أقرب إلى الحضور في زمن الموت السريري والركود الذي كانت تشهده بلدان العرب، وإن تعمد ذلك الحضور بخواء ثقافي ورقابة بالغة على الأفواه والأقلام.

الربيع العربي يفترض أن يكون فاتحة الألفية الثالثة لدى العرب، بثوراتهم والتغيير المأمول منها، وهو ما يفترض أن ينجدل مع تطليق التقليد والجمود الفكري وولوج معارف ومفاهيم سياسية وثقافية جديدة متوائمة مع الخضات الكبرى التي نشهد. لسنا مع اعتماد المثال السوري مقياساً في ذلك لأسباب عدة أهمها: حجم التدمير الذي لحق بالبنية التحتية والفوقية بعد معركة عامين مع النظام، وهو ما يبدو الحديث عن الكتب ومعارض الكتب ترفاً فكرياً قد نحنّ إليه حتى في الفترة التي قد نعيشها بعد رحيل الطغيان والطاغية.

خارج الزمن السوري المخضب بالدماء، والذي يجعل الاستهتار بالفكر واجباً يومياً وتعبوياً من قبل كثير من المثقفين السوريين، يخيم التعتيم الفكري والثقافي على بلدان عربية تحاول اتقاء امتداد رياح التغيير إليها.

قبل سنوات، نشرت دورية أوروبية مختصة إحصاءات بأكثر الكتب التي بيعت في القرن العشرين، معتبرة تلك الإحصائية وداعاً للقرن العشرين وافتتاحاً لقرن جديد صارت مفاهيم تلك الكتب الاكثر خارجه.

في المرتبة الأولى جاءت مؤلفات ماوتسي تونغ الشعرية والفكرية، ومنها الاشعار المسماة بأشعار «ماو الصغير» والكتاب الاحمر الذي كان بمثابة دستور الثورة الثقافية في الصين، وبيعت في القرن العشرين حوالى مئة مليون نسخة منه. اما جوزيف ستالين، او «العم جو الطيب»، فبيعت 672 مليون نسخة من كتبه في اكثر من مئة لغة في العالم، متقدماً على كارل ماركس نفسه في مبيعات الكتب المنظرة للماركسية. على ذلك يعلق الكاتب والباحث التونسي محمد الحداد قائلاً: «كلما زاد الفكر انغلاقاً يزداد انتشاراً ورواجاً، وبقدر ما يتعمق مسار التبسيط الدوغمائي يحظى المكتوب بأوسع عدد من المتقبلين».

والحال، أن تلك الكتب التي كانت ابنة إيديولوجيات فاعلة ومؤثرة ثقافياً وسياسياً، انقرضت أرقام مبيعاتها الخيالية مع سقوط المنظومة التي أنتجتها، بعكس بلدان العرب التي لا يزال مثقفون كثر فيها وناشرون وكتّاب كبار يقفون على اطلال تلك الحقبة متسائلين: «هل تستعاد؟». فإلى جانب نائبة الرقابة السياسية والدينية النازلة على الكتب وتداولها في بلداننا، تأتي حدود من نوع آخر يرسمها العقل الإيديولوجي الدائر في قوقعة الإسلاميات او الفـكر القومي او كلاسيكيات اليسار وشعبوياته. أما وقد طلق العرب حقبهم الآفلة مع ثورات تاريخية عارمة، فالامر مدعاة توثب واستنفار لدخول عالم عربي متحرر فكرياً وسياسيـاً واجتماعياً.

إلا ان الكتاب يبدو الضحية لفترة مقبلة لن تكون قصيرة. فسوريا ستعيش إعادةَ إعمارٍ اقتصادي بعد انتصار ثورتها، وترتيبٍ اجتماعي وسياسي قد يكون للكابوس الديني وساطوره حضورٌ بالغٌ فيه، بعد كابوس الاستبداد الأسدي، مع الثقة ان الاستبداد الديني بعد إنجاز اسقاط النظام لن يكون مطلقاً ولن يستطيع ان يحافظ على منع كتاب ألف ليلة ومحاكمة الكتاب والمفكرين وملاحقتهم وإهدار دمهم تبعاً لبنية هذا الخطاب القروسطوي. اما في البلدان التي لم تشهد ثورات شعبية، فنستطيع ان نقول في سطور:

السلطات العُمانية تفرج عن كتاب «الربيع العُماني» للكاتب سعيد الهاشمي الذي سبق ان سجن بتهمة «التجمهر»، ذلك ان زمن الرقابة التقليدية «قد ولى» بحس وزير الإعلام هناك. الرقابة التقليدية والرقابة غير التقليدية تبدوان صنوين سمجين لمصطلحي المستبد العادل والمستبد غير العادل. أضف إليها مصطح «الرقابة المنفتحة» كما وصّفها مدير معرض الكتاب العُماني الأستاذ يوسف البلوشي.

وفي السعودية، منعت السلطات هناك مؤخراَ كتاب «هكذا سقط الزعيم» للكاتب سلطان القحطاني وهو كتاب من وحي الربيع العربي ومدنه وثوراته وناشطيه. أضافة أيضاً إلى منع السلطات البحرينية لمجموعة من الناشطين الشباب العرب من المشاركة في مؤتمر شباب الربيع العربي، ومنهم سميرة ابراهيـم صاحـبة السـبق في الكـتابة عن قضية كشف العذرية في العالم العربي.

الرقابة لم تزل تضرب اطنابها في ظل أنظمة لم تتعلم درس الحرية والإصلاحات من أنظمة بادت قبلها او تكابد وتلفظ أنفاسها الاخيرة. مع ذلك، يبدو الكتاب على اهبة الجاهزية ليعيش فترات رقابية مقبلة وغير مصمتة ومعنونة باحتمال نكوص الثورات عن اهدافها التحررية الكبرى، وتحت رايات دينية ترفع راياتها هنا وهناك. قبل ذلك، تبدو سوريا مشغولة بعذاباتها وجراحها وآلامها، ولا مكان قريبا لينتعش فيها معرض الكتاب السنوي في مدينة المعارض، مع بقاء الرقابة الأسدية على المطبوعات والصحف والمنشورات قائمة حتى في أشد لحظات المعركة الميدانية للنظام مع الشعب السوري. إذاً، الخطوة الأولى على طريق حرية التفكير والكتابة والنشر في سوريا كما حرية البلدان العربية الممهورة بالرقابات هو أفول تعاليم وخطب ومؤلفات امثال ماو الصغير والعم جو الطيب فيها وموروثات تلك المرحلة الدموية الآفلة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى