صفحات الثقافة

كلّ تلك البيوت التي أحلم بها/ نيكولا مادزيروف

 

 

1

كلّ تلك البيوت التي أحلم بها

 

[نيكولا مادزيروف (Nikola Madzirov) شاعر وباحث ومترجم من مواليد مدينة ستروميكا (مقدونيا) 1973. عن شعره، كتب الشاعر البولوني آدم زاغاجويسكي: “قصائد مادزيروف مثل اللوحات التعبيرية: مليئة بخطوط عريضة وحيوية، تنبثق من المخيّلة وتعود مباشرةً إليها، مثل حيوانات ليلية أسرتها مصابيح سيارة”. أما مازديروف نفسه فيقول لنا: “نحن بقايا عصرٍ آخر”. ونقتنع بقوله ما إن نبدأ في قراءته].

 

أنا.. لا أعرف

 

بعيدة كلّ تلك البيوت التي أحلم بها

بعيدٌ صوت أمّي

وهي تناديني للعشاء، فأجري نحو حقول القمح

 

بعيدون نحن ككرة أضاعت الهدف

وتذهب نحو السماء. نحن أحياء

كميزان حرارةٍ، لا يكون دقيقًا سوى

حين ننظر إليه

 

الحقيقة البعيدة في كل يوم تسائلني

كرحّالة غريب يوقظني

في منتصف الرحلة يسألني:

هل أنا في الحافلة الصحيحة؟

فأجيب بنعم، ومبلغ قصدي: أنا لا أعرف

أنا لا أعرف مدن أجدادك

من سيتركون خلفهم كل الأمراض المعلومة

مع بلسمها المصنوع من الصبر

 

أحلم ببيت على تلّة أشواقنا،

كي أشاهد أمواج البحر وهي ترسم

مخطط سقطاتنا وأحوال عشقنا،

كيف أن الناس يؤمنون كي لا يدركهم الغرق

وكيف يخطون كي لا يدركهم النسيان

 

 

بعيدة هي كل الأكواخ التي فيها احتمينا من العاصفة

ومن ألم الظباء التي تموت أمام أنظار الصيّادين

مَن وحدتُهم فاقت جوعَهم

 

اللحظة البعيدة تسألني كل يوم

أهذه هي النافذة؟ أهذه هي الحياة؟ وأنا أقول

نعم، وقصدي: أنا لا أعرف،

أنا لا أعرف إن كانت الطيور ستبدأ بالكلام

من غير أن تنطق قائلة: سماء

 

منزل

عشت في أطراف مدينةٍ

كمصباح في شارع

ذي لمبةٍ لا أحدَ أبدًا يغيّرها

أنسجة العناكب تشدّ أزرالجدران

أيدينا المتشابكة اعرورقت.

أخفيت لعبتي

في شقوق جدران حجرية بنيَت على عجل

كي أنقذها من الأحلام.

 

في نهاري وليلي بعثتُ في العتبة الحياة

لتعود كما النحلة التي

دومًا إلى الزهرة السابقة تعود.

كان السلام سائدًا حين غادرت بيتي:

التفاحة المقضومة لم يصبْها العفن

على الرسالة طابع بصورة بيت قديم مهجور

منذ الطفولة هاجرت إلى أماكن عديدة

ومن تحتي ليس إلا الفراغات

كما الثلج لا يدري إلى أين ينتمي

إلى أرضٍ أم إلى هواء.

 

 

رأيت أحلامًا

 

رأيت أحلامًا لا يذكرها أحد

وأناسًا ينتحبون على القبور الخطأ

رأيت عناقات في طائرة تهوي

وشوارع ذات شرايين مفتوحة.

رأيت براكين صار سباتها

أطول من جذور شجرة العائلة

وطفلًا ليس خائفًا من المطر.

وحدي أنا الذي لم يره أحد.

وحدي أنا الذي لم يره أحد.

 

كانت ربيعًا

 

كانت الدنيا ربيعًا حين أتى الغزاة

وأحرقوا صكوك ملكيّة الأرض حيث كنا نصطاد الطير،

والحشرات والفراشات الملونة

تلك التي لا وجود لها سوى في كتب الأحياء القديمة.

كثيرة هي الأشياء التي غيّرت أحوال الدنيا،

ومن حينها وهذه الدنيا تغيّر فينا كثيرًا من الأشياء

 

انفصال

 

نأيتُ بنفسي عن كل حقيقة حولَ بدايات

الأنهار، والأشجار، والمدن.

ليَ اسمٌ سيكون شارعًا للوداعات

وقلبٌ يظهر على صور الأشعّة.

نأيتُ بنفسي حتى عنك، يا أمّ جميع السماوات

والبيوت الرخيّة.

والآن صار قلبي لاجئًا ينتمي

لعدة أرواحٍ وجراحٍ غير مندملة.

ليَ إلهٌ يعيش في فسفورعود الثقاب

في الرماد الذي يحتفظ بشكل الحطب.

لا أريد خريطة العالَم حين أخلد للنوم.

ما يحجب أملي الآن هو ظلُّ قشّة وكلامي لم يعد أثمن

من ساعة عائلية قديمة لا تعمل.

نئت بنفسي عن نفسي، كي أصل إلى بشرتك

التي تفوح منها رائحة العسل والريح، إلى اسمك

الدالّ على التبرّم الذي يبعث فيّ الراحة،

الفاتحِ أبوابَ المدنِ التي فيها أنام،

ولا أعيش.

نئت بنفسي عن الهواء، والماء، واللهب.

التراب الذي منه خلقت

جزء أصيل من بيتي.

 

صمت

 

لا صمتَ في العالم.

الرهبان ابتدعوه

ليسمعوا الخيل كل يوم

والريش المتساقط من الأجنحة.

 

عقارب الساعة

 

فلترِثْ طفولتك

من ألبوم الصور.

انقل الصمت

الذي يتمدد وينقبض

كسرب طيور في السماء.

أمسك في يديك

كرة الثلج غير المستوية

وتلك القطرات التي تسيل

على خط الحياة.

فلتتل صلواتك

عبر الشفاه المطبقة

فالكلمات بذور تقع في أصيص الزهور.

 

نتعلم الصمت في الأرحام.

 

حاول أن تُولَد

كعقرب الساعة الكبير بعد انتصاف الليل

وعلى الفور ستدركك الثواني.

 

أشياء نريد لمسها

 

لا وجودَ لأي شيء خارجنا:

 

خزانات الماء تجفّ

حين نشعر بالعطش

للصمت، حين تصبح نبتة القراص

وصفة علاجية، وحين تعيد المدن

التربة إلى أقرب مقبرة.

 

كل تلك الأزهار، الأسود منها والأبيض، على ورق الحائط

في البيوت التي هجرناها

تُزهر في تواريخ غير شخصية

فقط حين تصبح كلماتنا

إرثًا غير قابل للنقل،

وما نرغب في لمسه

هو حضور شخص ما.

نحن كفردة حذاء تعدو بها كلاب ضالة،

نتعانق، كأسلاك متشابكة تمرّ بين الطوب الفارغ

في بيوت لا يسكنها أحد.

هي الحال هكذا منذ زمن طويل- لا وجودَ لأي شيء خارجنا:

أحيانًا ينادي أحدنا الآخر

شمس، ضياء، ملاك.

 

 

مدن لا تنتمي لنا

 

في المدن الغريبة

أفكارنا تهيم بسكينة

كقبور فناني سيركٍ منسيين

الكلاب تنبح على حاويات قمامة تسقط فيها

ندفُ الثلج.

 

في المدن الغريبة لا أحد يعيرنا اهتمامًا

كملاك كريستالي في صندوق زجاجي لا هواء فيه

كهزّة أرضية ثانية لا تفعل شيئًا

سوى ترتيب ما قد لحقه الدمار.

 

 

نحن نكشف الأزمان

 

يتحقق وجودنا حين تنفتح النوافذ

والوثائق السرية.

نشتت الغبار دون أن نذكر

الموتى ومن أحبوهم سرمدًا.

دائمًا ما نحزم سترة النوم في الجزء السفلي من حقيبة السفر

وأحذيتنا لا توضع وجهًا لوجه أبدًا

نقرأ رسائلنا مرة

كي نكتم سرًّا ما.

نمدّ أيدينا ونكشف الأزمان

فلتبق صامتًا، صامتًا، اهمس بأشياء

أقل شأنًا من الحلم المنقطع

لفراشة لا تعيش سوى يوم واحد.

 

حين يرحل أحدهم

كل شيء كان لا بدّ أن يعود

 

إلى مارجان كي

 

في ذلك العناق قرب الزاوية سوف تدركين

أن أحدهم سيرحل إلى مكان ما. هكذا الحال دومًا

أعيش بين حقيقتين اثنتين

كضوء مصباح يتهدّج

في قاعة فارغة. فلَكَم يلملم قلبي من الناس،

وهم ليسوا بيننا

هكذا الحال دومًا. الرمش بالعين يستغرق

ربع أعمارنا في اليقظة.

نحن ننسى الأشياء

حتى قبل أن تضيع منّا-

ككرّاسة الخطّ، مثلًا.

لا شيء جديدَ أبدًا.

مقعد الحافلة دافئ دومًا.

الكلمات الأخيرة تبقى حاضرة

كالدلاء المائلة على نار صيفية عادية

الأشياء عينها ستتكرر في الغد-

الوجه، قبل أن يختفي من الصورة،

سيفقد تجاعيده.

حين يرحل أحدهم

كل شيءٍ كان لا بد أن يعود.

 

(ترجمة: محمد زيدان)

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى