صفحات الثقافة

كلّ شيء ينهار.. الأنذال انتصروا/ ماتياس ريشار

 

 

كلُّ شيءٍ ينهارُ. كلُّ شيءٍ يتلاشى إلى قِطعٍ، إلى قِطعٍ صغيرةٍ. أستيقظُ، مُفكَّكا إلى قطعٍ، أبحثُ عنْها قطعةً قطعة. إنّها مُشتَّتة، مُبعثرة، بعضُها ضائعٌ، البعضُ الآخر لا أدري. حولي، العالمُ انهارَ. أصدقائي انهاروا. عائلتي انهارتْ. مشاريعي لم تعد هناك حاجةٌ إليها، إنّها سخيفة. أبحثُ عن ملابسي فقط، ولا أجدها. أريد أن أرقص، أن أرقص فقط، رقصةً منهارةً، نُدركها ثم تَضيعُ في حركاتٍ تذهبُ بعيداً ولا يمكنُنا الإمساكُ بها. العالمُ انهارَ، بمهارةٍ، تمامًا ونهائيّا. لم يتبقَّ سوى جُزيئات، مُنحدرات تآكلتْ إلى غبارٍ، إلى سُحب منْ غبارٍ كثيفٍ يخنقنا. كلّ الأحلامِ ماتت، كلّ الحالمين سُحِقوا، الأنذالُ تضاعفوا، الأنذالُ انتصروا، الأنذالُ مُنظَّمون، الأنذالُ مُتأقلمون، إنّهم يتكاثرون ويُشيِّدون ويَعُدّون. العالمُ لهم، يريــدونهُ لهم، لقد دمَّروهُ ودمَّروا معه كلّ الأحــلام والحالمين، إنّهم لا يعرفونَ ذلك، يستــمرّون، يَدهَسون، لا يرونَ أنّهم يُدمِّرونَ أنفســهم أيضاً، لا يرونَ، يستمرّون، لديهِم مصالحُهم، مصالحُهم الصغيرَة، أمّا الباقون فلينــتظروا، فليَموتوا، فليَكونوا عَدَماً، كلّ شيء سَحْقٌ، إنكارٌ، غباءٌ، وحشيَّة، عنفٌ، أنانيّة، يقول لي صــوتٌ أنْ أكونَ قويّا، فذلكَ هو الحلّ الوحيد، هكــذا فعــلتَ دائماً لتعبرَ إلى هنا، وما زال َهناكَ بــعضُ القوَّة في فُتاتكَ المُبعثر، لكنّني لا أريدُ أنْ أكــونَ قويّاً في عالم تكونُ فيهِ القوة مــرادفاً لحــماقةٍ عميقةٍ، سأكونُ قويّاً برفضي لأنْ أكونَ قويّاً، وضعتُ قوَّتي في الأحلامِ، وكلُّ الأحلامِ انهارتْ، قوّتي عاطلةٌ، تَتفكّكُ، تتبذّرُ، تتقطّرُ وتذهبُ مع الرّيح والتيارات، عَساها تسقطُ على أحدِهم وتَهبُهُ ما يجبُ ليدَمِّر الدمارَ، ليُهْلِكَ الانهيارَ، ليقتُلَ الموتَ، ليَخلُقَ انهياراً للانهيارِ. الانهيار المعكوس، مثل تلك الأفلام التي تعودُ إلى الخلفِ، حيثُ تعودُ الحياةُ إلى الحياةِ، حيثُ يَعلو ما سقطَ، وما ماتَ يحْيا. ربَّما. في يومٍ ما. ربَّما. لكنّني لا أظنّ. اليومَ كلّ شيءٍ منهار، استيقظتُ منهاراً نهائياً في عالمٍ منهارٍ، من بين البشرِ انتصَر الأنذالُ إلى الأبدِ، إنّه مصيرُ جِنْسِنا. نحنُ نَمْتثلُ لريحٍ تُفتِّتُنا، تتطلبُ منا بذلَ جهدٍ دائمٍ من التنقل، فقط كَي نبقى مُؤتلفين، علينا أن نتقاتل باستمرارٍ حتى لا ننفجر ونتفسّخ مثل التماثيل الهشّة، أن نركضَ، أن نناضلَ، أن نُموِّه، أن نهاجمَ، أن ندورَ في الهواءِ، أن نمثِّل الموتَ، أن نتظاهرَ به، ألاّ ننام، أن نجدَ خُلوةً للاختباء، خلسةً في وضحِ الضوءِ. الحريةُ تكلِّف الحياةَ، البقاءُ يكلِّف الحريةَ. أنظرُ إلى البنايات التي تنهار جزءاً جزءاً، والأفكار التي لا بداية ولا نهاية ولا وسط لها، تضيعُ مُفصّلة، ناسيةً نفسَها وناسيةً إمكاناتها، والطيور التي تتحطّم واحداً تلوَ الآخر على الأرضِ، والأرض التي تتصدّع، والصَّدْع الذي يتسلّق مثلَ الندوب إلى أجسادنِا، وأجسادنا التي تتمايلُ إلى أن تهوي، مُحاولةً ألاّ تهوي، لكنّها تهوي، ثمّ تزحف، زاحفة أو منْ دون حركة، ظهرُها على الصَّدْعِ وبصرُها ثابتٌ مُوَجَّهٌ إلى السماء، بأطراف فوضويّة، في انتظارِ أن ينتهي كلُّ هذا. لكنَّ الانهيارَ الذي يخترقنا ويفتِّتنا مثلَ قطعةِ السّكر بينَ الأصابع، ذاكَ الانهيارُ لا يقتلنا، ولربّما هذا هو الأفظع، نستمرّ في الحياةِ مُتآكلين مُتَحَفِّرين مُتقَلِّصين داخلَ انهيارٍ يتجدّد باستمرار، موتٌ مُطوَّلٌ في كلّ ثانيةٍ، كلّ يومٍ نفتحُ أعيُننا المُنهارةَ في عالمٍ منهارٍ، كالرّمل الذي يتســرّبُ إلى الوعيِ لبضعِ لحظاتٍ، ونظــنُّ بأنّه الأخير، بأنّنا نموتُ، بأنّه الموتُ، (حَسناً، لقــدْ متُّ اليومَ)، لكنَّ ذلكَ يستمرُّ، نتفكَّك، نستمرّ في التفــكّك، إنه موتٌ على نارٍ هادئةٍ، حياةٌ تمــوتُ، تُفاجَأُ بأنَّها ما زالتْ تعيشُ قليلاً، بلا حــلمٍ ممكنٍ، بلا هدفٍ يستحقُّ، بلا فرصَة ما، بلا أفقٍ، مُجرّد حياةٍ، حياةٍ منهارةٍ، مدهوشةٍ، منهكةٍ، قطعٍ منهارةٍ منَ الحياة، وسط عالمٍ منهارٍ نهائياً، حيثُ كلّ شيءٍ يُشــَيَّدُ ينهارُ، كل شيء يُشَيَّدُ يسقطُ. أنهارُ، تنهارُ، ننهار، كلُّ شيءٍ ينهــارُ، ورغمَ ذلك ما زِلنا هنــا، قليلاً، قليلاً فقــط، بضــعُ قطــعٍ وسطَ الجدران المُحطّمة فقط، الأســقفِ المُحــطّمة، الأحلامِ المُحطّمة، الشمس المغطّاة بالمالِ. أجمعُ أطراف العضلات، الأرصفة، الأضواء، بقايا الغائط، شظايا الزجاج المتكسّر، الأغلفة، أطراف الحيوانات، ثمّ أكَــوِّرُ كلّ هذا. أدفعُ الكــرةَ أمامي ثمّ تكبرُ، في طريقــها تخلطُ معــها كلّ النــفايات وتكبرُ، آكــلُ منها (أُدخِلُ يدي، أنبشُ، أُخرِجُ قطــعةً ثم أضعهُا في فمي)، وأواصلُ دفعَ الكرةَ، التي تكبرُ وتكــبرُ وتخلطُ كلّ جُزيــئات هــذا العــالم المنهارِ. ثم أدفعُ الكرةَ. أدفعُ الكرةَ. أنــا بعيدٌ عنْ بيتي…

ترجمة: غادة الأغزاوي

 

(]) شاعر أدائي فرنسي. ولد عام 1974 يقيم حالياً في مرسيليا. كاتب وشاعر «هاردكور بنك»، نوع من الكتابة المتذمرة والمعارضة. يشتغل على حركات الجسد وتعابير الوجه أثناء القراءة الشعرية. صدر له ديوانان شعريان.

السفير الثقافي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى