صفحات الرأي

كلّ صباحات العالم


تزيفتان تودوروف

ترجمة: إسماعيل أزيات

تنطوي روح الأنوار، كما يُمكن وصفها اليوم، على خاصية إشكالية: نعثر على العناصر المقوّمة لها في حقب مختلفة وفي كلّ حضارات الدنيا الكبرى. ومع ذلك أيضا يتعلّق الأمر بواقعة تاريخية تجسّدت في لحظة معيّنة، في القرن الثامن عشر وفي مكان مخصوص، أوروبا الغربية.

فكر الأنوار فكر شامل حتى وإن لم يكن في الإمكان معاينته ورصده في كلّ مكان وبشكل دائم. ليس الأمر منوطا بالتطبيقات التي يستلزمها ولكن أيضا بامتلاك وعي نظري.

نصادف آثار هذا الفكر منذ القرن الثالث قبل ميلاد المسيح، في الهند، في التعاليم الموجّهة إلى الأباطرة أو في الأوامر التي يبثّها هؤلاء؛ أو لدى ‘المفكّرين الأحرار’ المسلمين أيضا في القرنين الثامن والعاشر؛ أو أثناء انبعاث الكونفوشية تحت حكم أسرة ‘سونغ’ في الصين، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر؛ أو في الحركات المعادية للرّق في إفريقيا السوداء في القرن السابع عشر وعند بداية القرن الثامن عشر.

لنذكرْ، بقدر من الاتفاق، بعض عناصر هذه العقيدة المتولّدة من أصقاع جدّ متنوّعة.

هذا هو حال وصايا التسامح الديني المرتبطة بتعدّد الدّيانات التي تمارس شعائرها على ذات الأرض الواحدة: الإبراهيمية والبوذية في الهند، الكونفوشية والبوذية في الصين، حضور المسلمين، اليهود، المسيحيين، الزرادشتيين، المانوين على ما أصبحت هي أراضي الإسلام؛ أو أيضا الوجود المشترك للإسلام والتقاليد الوثنية في إفريقيا السّوداء. نشهد في كلّ مكان ــ كما سيُقال ذلك مرارا في أوروبا القرن الثامن عشر ــ أنّ التسامح أولى من الحروب ومن الاضطهادات. مطلب آخر، على الأرجح، مرتبط بالسّابق، يهمّ ضرورة الفصل بين السياسي واللاهوتي، بين سلطة الدولة وسلطة الدّين. ثمّة أمنية أن يكو مجتمع البشر مُوجّه على قاعدة مبادئ إنسانية محضة وإذن أن تكون السلطة على الأرض موضوعة بين يديْ أمير أفضل من أن تكون موضوعة بين أيدي من يقومون بالوساطة مع الما وراء.

استقلال السلطة السياسية وكذلك استقلال المعرفة. تلك هي الفكرة الموجودة في الهند والتي بمقتضاها لا يجب على الملك أن يخضع للتقاليد، للمتنبّئين، للرسائل الآتية من النجوم، وإنّما عليه أن يثق فقط في التقصّي العقلاني.أو أيضا في دفاع الرّازي، الطبيب العربي الشهير في القرن التاسع عن المعرفة الإنسانية حصرا، المستقاة من التجربة والمتولّدة من العقل وحده. أمّا في الصين، فتشهد العديد من المبتكرات التقنية على حالة من البحث الحرّ في مجال المعرفة وقسْ على ذلك الارتقاءات المنجزة في العالم الإسلامي من خلال علوم مثل الرياضيات والفلك والبصريات والطب.

علامة أخرى مشاعة تخصّ فكرة الكليّة أو العمومية ذاتها: الكرامة المتساوية لكلّ البشر، الأسس العامّة للأخلاق وإذن وحدة الجنس البشري. ‘ليس ثمّة من فعالية أرفع من فعل الخير للناس أجمعين ‘ كما يصرّح الإمبراطور الهندي Asoka في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح. فكرة الكليّة هذه هي التي صارت نقطة انطلاق الصّراع ضدّ العبودية في إفريقيا. في عام 1615 وفي تمبكتو، كتب أحمد بابا بحثا دافع فيه عن المساواة بين الأعراق، رافضا كلّ مشروعية للممارسات الرقّيّة.

المظاهر التي جمعتُها هنا بقدر من الاعتباطية، انطلاقا ممّا نرتأي أنّه روح الأنوار الأوروبية، تلعب دورا فعّالا ومستمرّا بهذا القدر أو ذاك. فالوصايا الموجّهة إلى الملك في الهند بتفضيل التقصّي العقلاني على حساب الإضرار بالمعتقدات والخرافات لا تُحلّ إلاّ له، ولن يتمّ تعميمها على عامّة النّاس. وإذا كانت هناك من قرابة مع الأنوار، ستكون أساسا مع ما يُدعى ‘الاستبداد المستنير’ ورغم ذلك تمّ قمع المفكّرين الأحرار المسلمين بقسوة انطلاقا من القرن العاشر. ستظل صلة القربى الأكثر مغزى مع التعليم الكونفوشي في الصين، الذي يعتني مبدئيا بالعالم الطبيعي والإنساني والذي يضع كهدف له، كمال الإنسان، وكوسائل، التربية والعمل. ليس صدفة إذا كان الفلاسفة الأوروبيون في القرن الثامن عشر يحسّون بانجذاب خاص نحو ‘النموذج’ الصيني (الذي كانت لهم عنه فكرة تقريبية بما يكفي).

تشهد هذه التطورات المتعدّدة والمتنوّعة على كليّة وعمومية أفكار الأنوار التي ليست وقفا إطلاقا على الأوروبيين. مع ذلك، فإنّه في أوروبا القرن الثامن عشر تسارعت هذه الحركة وتقوّت وهناك تمّت صياغة التأليف العظيم لهذا الفكر الذي سينتشر بعد ذلك في كلّ البقاع: أوّلا في أمريكا الشمالية، ثمّ في أوروبا نفسها، في أمريكا اللاتينية، في آسيا، في إفريقيا. لا يمكن أن يفوتنا وضع هذا التساؤل: لماذا في أوروبا وليس بالأحرى في مكان آخر، في الصين مثلا ؟ دون البتّ في هذه المسألة الصّعبة (التحوّلات التاريخية هي ظواهر معقّدة ذات بواعث متعدّدة، لا بل متناقضة) يمكن أن نشير إلى سمة ماثلة في أوروبا وغائبة في مكان آخر: هي الاستقلال السياسي، استقلال الشعب واستقلال الفرد ــ الذي يُمنح له مكان في صلب المجتمع وليس خارجه (كما يمكن أن تكون حالة ‘المتزهّدين’ في الهند، والمتصوّفة على أرض الإسلام، والنسّاك في الصين). خاصيّة الأنوار في أوروبا أنّها هيّأت مجيء هذه المفاهيم: الفرد والديمقراطية. لكن، كيف يمكن تفسير أنّ هذه الأفكار أمكنها أن تزدهر في أوروبا حصرا؟

هنا أيضا الإجابة متشعّبة. مع ذلك، ثمّة واقعة ماثلة للعيان: أوروبا هي في الآن نفسه واحدة ومتعدّدة. بين رجال الأنوار إجماع بهذا الخصوص، يرون أنّ القوى الأوروبية تشكّل فيما بينها نوعا من النّسق أو النّظام، أنّها مشدودة إلى بعضها عبر التجارة، كما عبر السياسة، أنّها ترجع إلى نفس المبادئ العامّة؛ مع ذلك، فإنّها مدركة أيضا للفوارق التي تفصل بين بلدانها. وبسبب هذه الفوارق، تحقق منافع (1). أصبح السّفر والإقامة في بلد أجنبي أكثر من شائع: أصبح ضروريا. قبل أن ينكبّ على تحرير كتابه ‘ روح القوانين ‘، رأى مونتسيكيو لازما أن يجوب أوروبا وأن يدرس طبائع مختلف الشعوب التي يلتقي بها. ولكي يمتّن ثقافته، اندفع الكاتب ورجل القانون الأستكلندي James Bswel في سفر طويل عبر أوروبا، أمّا Prince de Ligne الفيلدماريشال النّمساوي، السفير في روسيا والكاتب باللغة الفرنسية، فقد قدّر أنّه قام بأربع وثلاثين سفرة بين بروكسيل وفيينا وأنّه أمضى أكثر من ثلاث سنوات مستقلاّ سيارته ‘ أهوى وضعي الغريب في أيّ مكان، فرنسي في النمسا، نمساوي في فرنسا، هذا وذاك في روسيا. إنّها وسيلة الالتذاذ بكلّ الأمكنة وعدم التبعية لأيّ مكان’.

قد يكون البلد الأجنبي مكانا لأخذ العلم، كما يمكن أن يكون مكانا يتمّ الهرب إليه خوفا من الاضطهاد. لا بلد يتغلّب على الآخر بصفة نهائية: فولتير وروسو أقاما في إنجلترا، هيوم وشترن في فرنسا، غوته سيذهب إلى إيطاليا. من جهته، سيغادر فولتير فرنسا ليجعل نفسه تحت حماية فريدريك الثاني في برلين، سيرحل ديدرو ليكون مستشارا لكاترين الثانية في روسيا. التعدّدية هي منبع المنافع: بعد أن قارن بين الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين، استخلص فولتير ‘لا أدري لأيّ من هذه الأوطان يجب أن أمنح الامتياز، لكنه لسعيد من يحسّ بمزاياها المختلفة’. بيد أنّه لم يكشف عن الباعث لهذه السعادة.

يلزم القول إنّه بالنسبة لباقي الأجزاء الأخرى من العالم، تتميّز أوروبا بالفعل بتعدّد دولها القائمة على أرضها. إذا ما قارنّاها مع الصين التي مساحتها مشابهة إلى حدّ ما لمساحة أوروبا،لا يمكن إلاّ أن تصعقنا المفارقة: دولة واحدة هناك، مع ما يشكّل، في الوقت الراهن، حوالي أربعين دولة مستقلة هنا. إنّ في هذه التعددية التي، من الممكن الاعتقاد بأنّها تمثّل عائقا أو عقبة، رأى مفكّرو الأنوار غُنْم أوروبا. إنّها المقارنة مع الصين التي كانت تبدو لهم، بحق، الأكثر إضاءة. يصرّح هيوم: ‘ يوجد في الصين مخزون هائل من اللّطف ومن العلم. كان من المأمول أن ينتهيا خلال قرون إلى ما هو أكمل وما هو أتمّ، أكثر ممّا بان وظهر. غير أنّ الصين امبراطورية شاسعة، تتكلّم لغة وحيدة، تُحكم بقانون وحيد، تُوحّدها نفس طريقة العيش’.

خلافا لما يُقرّره التوازن القديم، فإنّ الانقسام أو التجزئة هي التي تصنع القوّة ! قد يكون هيوم هو المفكّر الأول الذي رأى أنّ هوية أوروبا ليست في السّمة المقتسمة بين الجميع (إرث الامبراطورية الرومانية، الديانة المسيحية) ولكن في تعدّدها الدّاخلي. بقي أن نفهم كيف للاختلاف، الخاصية السلبية في حدّ ذاتها، أن تشكّل قيمة إيجابية ؟

لقد واجه مفكّرو الأنوار هذه المسألة في مجالات مختلفة، ووضعوا لها إجابات متباينة. لماذا التعدّد في الديانة أولى من وجود ديانة واحدة ؟ لأنّ غياب الاختيار يخلق وضعية متسلّطة، هي بدورها توجد الاستبداد بكل يسر. في حين أنّ التعايش بين مختلف الديانات يوقظ المنافسة ويبعث الحماس. ولماذا في تعددية الثقافات فائدة ؟ لأنّ المقابلة أو المقارنة بينها تمنح قيمة للعقل النقدي وتسمح برجّ كلّ شهرة مغتصبة بلا وجه حق. إذا ما كانت العلوم تطوّرت بحرية في هذه القارة، يقول هيوم، فلأنّ ‘أوروبا هي، من بين أجزاء العالم الأربع، الأكثر تجزيئا وقسمة’. كيف العمل لاحترام تعددية الآراء والاختيارات السياسية في صلب الجمهورية ؟ يتساءل روسو. بإنشاء ‘إرادة عامة’ مختلفة عن ‘إرادة الجميع’ يُجيب: ليس قط ضمّا للآراء المتشابهة، وإنّما بدمج الاختلافات، كلّ شخص يُحرّض كي نفكّ عن وجهة نظره الخاصة ويفكر ‘بأن يضع نفسه موضع أيّ كائن إنساني’ حسب عبارة كانت Kant وهو ما سيسمح له بالتصرّف باسم الصّالح العام والمشترك. التعددية أجدر من الوحدة لأسباب ثلاثة على الأقل: إنها تقود إلى التسامح في المنافسة، تُطوّر وتقي العقل النقدي الحرّ، تُيسّر الانفصال عن الذات ساعية إلى اندماج أعلى وأرفع بين الذات والآخر.

الأنوار هي الاختراع المعتبر والمدهش لأوروبا، وما كان لها أن ترى النّور لولا الفضاء الأوروبي الواحد والمتعدد في الآن ذاته. لكنّ العكس صحيح أيضا: إنّها الأنوار التي أوجدت أوروبا كما نتصوّرها اليوم، بحيث يمكن القول بدون مبالغة: من دون وجود أوروبا، لا أنوار؛ لكن أيضا: من دون أنوار، لا وجود لأوروبا.

1ـ) Voir Ren’ Pomeau, LEurope des lumi’res, Stock,1991)

عنوان هذه المقالة المقتضبة مستعار من رواية للكاتب الفرنسي باسكال كينيار Pascal Qignard ‘ Tous les matins du monde ‘ صدرت عام 1991 وتحوّلت إلى شريط سينمائي في السنة ذاتها أخرجه المخرج الآن كورنو Alain Corneau

هذه المقالة مأخوذة عن: Magazine T’l’rama, BNF, F’vrier 2006

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى