صفحات الناس

كل حب هو حب سوري/ روجيه عوطة

 

 

 

رداً منهن على الإستفهام، الذي طرحته زميلتهن عليهن مقابل الكاميرا، والذي تمحور حول إمكان أن “يضهرن مع شاب سوري”، أجابت طالبات “الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة-ALBA” بـ”لا” شبه قاطعة، تفيد بنفورهن وانقباضهن المبتذلين. وبهذا، قدمن تصورهن عن الحب، وهو لا يعود إليهن حصراً، لكنهن، ومن خلال المواظبة على الإستكانة إليه، يشاركن في تكريسه وإنتاجه، تماماً، كمن أصابته عدوى متفشية، وسرعان ما وجد سلامته فيها.

فمحال على ذلك الحب، مثلما استشرى شكله بينهن، أن يضعهن على إتصال بـ”سوري”، أو أن يحثهن على الخروج معه، لأنه، وببساطة، مختلف عنهن. فهن يرغبن في الإجتماع مع المماثل، والإلتزاق بالصنو، وبالتالي، تصورهن عن الحب ينفي الحب، الذي يقوم بالتباين والإفتراق، وتصورهن عن الـ”ضهرة” يقصي الـ”ضهرة”، التي تقوم بالخارج وقصده.

بالتوازي مع نطقهن بإلغاء “السوري”، بوصفه آخر، تلفظت الطالبات بإلغاء الحب نفسه، باعتباره لقاءً بهذا الآخر. لقد بقين في تصور موروث عن الحب، في اعتقاد طارد له، بحيث أنه، وبحسبهن، وقوع على ذاتٍ مطابقة لذواتهن، وتعلق بشبيه منسوخ عنهن، كما أن “الضهرة”، التي قد تسبقه، أو تلحقه، هي تأدية للمضاد لها، أي أنها ليست وغولاً في الداخل، وليست نفاذاً إلى الخارج، بل أنها تحجير للأنا، واكثار في إبرازها. بعد هذا، الحب، على ما يصيغه التصور العازل له، هو ضرب من ضروب الإحتباس النفسي، الذي يجري ستره ببعث الذات، والإطاحة بمقابلها، أي كان مستوى تفاوته التمثيلي عنها.

لكن، ولحسن الحظ، عندما يحدث الحب، لا يعود النظير نظيراً، والصنو صنواً، وذلك، حتى لو كان تماثله مع الذات الشاخصة قدامه تماثلاً تاماً. إذ أنه يستحيل آخر، مثلما أن موقعه يغدو برّانياً، وعلى هذا النحو، يصير سورياً. ففي حال “ضهرت” طالبة من تلك الطالبات مع “لبناني” خالص، فهو لن يكون في صلته معها سوى آخر، أي “سورياً”، كما أنها لن تكون في صلتها معه سوى الأخرى، أي سورية، ومرد هذا، إلى أن كلاً منهما سيكون في مواجهة الثاني كخارج أمام خارج، كمختلف أمام مختلف، والشدة تكمن في الوسط بينهما. “هل تخرجين مع شاب سوري؟”، الجواب هو “بالتأكيد”، وذلك، حتى لو كان هذا “الشاب السوري” فينيقياً، فكل حب، ولأن حدوثه يعني المبارحة إلى الآخر، هو حب سوري!

فأن “تضهر” طالبة منهن، وبغض تصورها عن فعلها هذا، مع “فينيقي” مشابه لها، هذا لا يلغي أنهما، ولكي يمارسا “ضهرتهما”، سينصرفان من نظام ما، أكان مجتمعياً أو ذاتياً، وسيلتقيان في خارجه، وعندها، سيكونان في موقعهما ووضعهما، سوريين، نظراً إلى أن هؤلاء يحضرون خارج “الكل” النظامي. بالتالي، سيخوضان استحالاتهما السورية، ولن يعودا، وإن خرجا فعلياً، على تعريفهما “الفينيقي” أو غيره. في كل الأحوال، التصور، الذي تكلمت الطالبات عن “الضهرة” بالإستناد إليه، مصنوع من أجل تعطيل تلك الإستحالة، ومن أجل تعطيل أي لقاء بين خائضيها، فعلى أساسها، تغدو “الضهرة” معدومة الحركة، ومعدومة التفارق، ومعدومة التغاير، أي معدومة الحياة.

عندما تقول طالبات الـ”ALBA”، وعلى أساس تصورهن عن الـ”ضهرة”، أنهن لا يخرجن مع “شاب سوري” لأنه مختلف عنهن، فبهذا، لا يجدن في هذا الـ”الشاب السوري” آخر، بل نهايةً لهن، كممثلات للنظام، الذي يتكلمن بلسانه، ويمضين أيامهن في “كله” المغلق. يمنعن على “السوري” أن يستحيل آخر، أن يستحيل سورياً. لكنهن، وفي الوقت عينه، يمنعن أنفسهن عن الوجود على منوال غير موروث، على منوال يتيح لهن الخروج من التجانس مع سلطاتهن، التي تكره “السوري”، أو تنمّطه، تبغضه بشكل إجمالي، أو تولع به عبر اختزاله بهيئة ما.

وصحيح أن الطالبات أجبن عن استفهام زميلتهن في أثناء جلوسهن ووقوفهن في قلب جامعتهن، غير أنهن كن، ومن محلهن التعليمي تحديداً، في صميم “الكل” النظامي، الذي أخذ منذ مدة خطاباً عائلياً متهافتاً. لقد كانت الطالبات فيه، حيث أكدن له بأنهن وفيّات به، وأنهن سيداومن على نفي كل آخر داخله، وعلى إلغاء كل “ضهرة” منه، وسيتشبثن بذواتهن المنقولة لهن لأنها تجسده، ولأنها تنجحهن في امتحانه الأكاديمي الكبير: أن يرثن الخوف من الخارج، وأن يتمسكن بهذا الخوف.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى