أحمد مولود الطيارصفحات مميزة

كنت هناك حين سقط الطاغية: أحمد مولود الطيار

 

أحمد مولود الطيار

عندما طلب مني الصديق حسين الشيخ رئيس تحرير هذا الموقع كتابة ما جرى معي في الرقة، وكتابة “الروائح، شكل الحارات، ولنقل الحنين الغامق، شيء من تداعيات حرة” كما جاء في رسالة الصديق العزيز. توقفت قليلاً، لا بل قل، عاد شريط الذكريات إلى الوراء، إلى شهرين أعتبرهما من أجمل أيام عمري قضيتهما في الرقة وبعض المناطق التي زرتها وقتذاك، لكن طلب الكتابة أيضاً جعلني أتوقف قليلاً وأسأل نفسي: “ومن أنا ليكتب تجربة صغيرة في خضم ثورة أكبر مني ومن آلاف غيري؟!”

أتذكر وبُعيد السنوات التي أعقبت مجيء بشار الأسد الى السلطة 2003 و2004، وسيادة مناخ “الرأي والرأي الآخر” الكاذب، وفي سهرة عامة على شرف الكاتب ياسين الحاج صالح، سألت ياسين وقتها أريد معرفة رأيه فيما أكتب؟ كنا في تلك السهرة وكل السهرات التي يحضر ياسين فيها إلى الرقة، نرهقه بأسئلتنا، وهو الكاتب الذي بدأ اسمه يلمع على الصعيدين المحلي والعربي. توقعت أن ينقدني ياسين، وهو الكاتب الرصين، على كتاباتي الصاخبة التي كانت تهاجم وتؤلّب ضد النظام بلغة تصل إلى حدود الشعبوية أحياناً، كنت أشتغل على تحطيم جدار الخوف، ومقتنع أشد القناعة برأي مونتيسكيو الذي يقول: متى سقط عمود الخوف، سقطت الديكتاتورية.

جاوبني ياسين على غير ما توقعت في مكان آخر: “تكثر من الـ “أنا” في كتاباتك” ثم تابع: “يحق للعروي، لغليون، للجابري أن يتحدثوا عن تجربتهم ولكن…”. لا أدري إن أكمل ياسين جملته أم لا؟ ولكن بات نقد ياسين قيداً أحمله متى كتبت، وهو قيد يلزم أحياناً لكي لا تنفلش “أنواتنا” كثيراً، وتصبح بلا ضوابط، رغم أن الأنا التي تبرز في كتاباتي ـ كما يقول ياسين ـ هي ناتج مأزق أسلوبي، أعترف بذلك، وليست “شوفة حال” كما نقول في لهجتنا الرقيّة.

يحضر إليّ الآن الكاتب المغربي محمد شكري صاحب رائعة  “الخبز الحافي” الذي أعتقد أنه هو من نحت مصطلح “تذويت اللغة”، حيث يوجد لدى كل إنسان قصة يرويها وتستحق أن تُكتب.

يبدو أنني أشعر بالذنب، أضع ياسين الحاج صالح مع محمد شكري، أقابلهما مع بعض لأجد مبرراً أو منفذاً أذوّب فيه لغتي لأقص عليكم ما جرى معي.

عموماً لن أكتب كيف بدأ عضوي يتمرد ليشق بنطالي كما شعر يوماً محمد شكري، سأكون رصيناً حرصاً على الذوق العام، هي تداعيات، هلوسات، انطباعات، سَمّوها ما شئتم، نحن في ثورة يجب أن نكتب يومياتها كلٌّ من منظاره وزاويته:

بعد أن نجوت من حاجز الفرقة 17 ـ بداية القصة موجودة في مقالي عائد من كندا إلى سورية جديدة ـ بعدها بكيلو متر واحد، لم أشاء الذهاب مع الميكرو إلى الكراج، مخافة لقاءٍ صدفة مع أحد لا أريد لقاءه. ارتأيت النزول عند المفرق، واستقلال تاكسي أجرة والذهاب إلى بيت أختي الذي سأقيم فيه.

قبل خمس سنوات عندما غادرت الرقة، كانت أجرة التاكسي 25 ليرة سورية، لم يرتضِ السائق بأقل من مئتي ليرة سورية، على الرغم من أن المسافة لا تتعدى الـ 2 كم. قلت له:  “دوار أمن الدولة” ـ بيت أختي قريب منه ـ بعد أن تحركت السيارة بأمتار، سألت السائق إن كان من حواجز عسكرية في طريقنا؟ أجابني: “نعم. حاجز الفروسية.” لم أشعر إلا وقد أمسكت يده قائلاً: “يستر عرضك، لا تمر بي على أي حاجز وسأعطيك ما تريد”. بُهر السائق، شعرت أن السيارة بدأت تميد وتتراقص من يسار الطريق إلى  يمينه. لم يكن يحدث شيء من ذلك، إنما هكذا بدأت أشعر، وبدأت أفقد التركيز، حتى أنني ظللت في بيت أختي، أدخلت السائق في حارات وأخرجته من أخرى، ولم أستطع الوصول إلى مكان كنت أحفظه عن ظهر قلب، وآتيه وأنا مغمض العينين إلا بعد أن أخرجني السائق من ذهولي: “اطمئن، لن نمرّ على أي حاجز. يبدو أنك غريب على المدينة، من أي العمام أنت؟”، شكرته وقلت له بعد أن حاذرت أن ينزلني أمام مدخل البناية كيلا يعرف وجهتي بدقة، فرعبنا الموروث يجعلنا نشك دائماً بسائقي السيارات وبأنهم “كتبه تقارير”. يبدو أنني من عصر سابق، ولم ألحظ بعد حجم التغيرات التي طرأت على المجتمع السوري. شكرت السائق وقلت له: ربما نلتقي في يوم ما وسنتعارف أكثر. نقدته أجرته وفوقها أجرة “التوهان” الذي أدخلته فيه .

صعدت الدرج إلى الطابق الثاني حيث بيت أختي،الساعة تقترب من منتصف الظهيرة، لم يكن أحد يعرف بقدومي، خشيت أن تفتح أختي الباب، خشيت أن تقتلها الفرحة عندما تراني، طرقت الباب وأنا أقول في سرّي: لم أسمع يوماً أن هناك من مات بسبب الفرح، الناس في بلادي تموت من الغيظ من القهر. زوج أختي هو من فتح الباب. اشتغلت التليفونات والاتصالات، لم تكتمل الساعة إلا قليل، بعدها كل الذين أحبّهم حضروا وكان عناق، وكان فرح.

ثلاثة إلى أربعة أيام كنت فيها حبيس البيت. تحذيرات كثيرة من معارف وأصدقاء تنصحني بعدم التجوال مخافة الاعتقال. “الوضع مضطرب، ما تعرف شو رح يصير، نظام واطي، نظام ساقط” وكلام كثير كنت أسمعه. “ما يمشي الحال، لم آتِ هنا قاطعاً كل تلك المسافات لأجلس بين إنترنت يجلط وجدران أربعة”. هكذا كنت أحدّث ذاتي. أشتهي المشي في الشوارع، أريد معانقة الناس، أشتهي التجوال في كل الأماكن التي أحببتها. الأماكن: ملامح وحكايات حنين نظل نتوجه دائماً شطرها. بدأت رجليّ تتفلّت من قيودها، أرتدي بيجامتي وحذاء رياضة، مسافات قليلة في النهار وقبيل الغروب. تقفر كثير من الشوارع بعد الغروب، يلزم الناس بيوتهم، خلا بعض الشوارع الرئيسية تسهر حتى الثامنة أو التاسعة في أحسن الأحوال. في البداية كنت أمشي إلى جانب الحائط، أقصى الرصيف، في أقصى الشارع مخافة الاختلاط. بعدها وعلى مدى أيام، رويداً رويداً نزلت إلى منتصف الطريق، وصرت أزاحم الناس. كأعمى يبصر فجأة، كنت أتفحّص وجوه البشر. خمس سنوات ليست فترة طويلة، إنما من أعرفهم وجدتهم قد كبروا، بعضهم قد شاخ. التقيت أحدهم صدفة، وكم كان كلامه جارحاً ربما من دون أن يقصد، قال لي: هل جئت بعد دعوة النظام للمعارضة بالمجئ إلى سوريا ولا خوف عليهم؟!.  التأنيبات من الذين يخافون علي كانت كثيرة حتى خفتت تماماً. الرقة اختلفت كثيراً، رقة جديدة الآن، الشوارع وخاصة الرئيسية ـ تل أبيض، 23 شباط، المجمع ـ مكتظة ولا متسع فيها، لهجات كثيرة يُرطن بها، وإن كانت الديرية مسموعة أكثر ويُشتكى منها أكثر. بسطات الباعة المتجولين تحتل كل الأماكن، هناك حركة بيع وشراء، وأظن أن الرقة كانت محظوظة في أمور كثيرة، نعم هناك أزمات كثيرة، لكن الحركة المالية والتجارية كانت أفضل من المحافظات الأخرى، فالسوق أصبحت متسعة، ويوجد على الأقل نصف مليون قادم جديد. نصف مليون مستهلك جديد. ربما هذا يحتاج إلى دراسات اقتصادية من مختصين.

زال الخوف تماماً. أيقنت أنّ كلّ مخاوفي لا أساس لها، فالنظام كما يقال” مضروب برأسه”، وعناصر أمنه الذين كانوا يزرعون كل الأماكن هم المعتقلون الآن وراء دشمهم وحواجزهم الإسمنتية، حتى بت أتندّر وأقول لأصدقائي: “ولك مشتهي أشوف عنصر أمن”. غادرت الرقة ولم تتحقق أمنيتي.

تحرر الرقة:

حسدني كثيرون، أنا القادم من كندا أشاهد لحظة تاريخية يتمناها كل كاره ومعارض لهذا النظام، وهل يوجد أجمل من أن تكحل عيناك وأنت ترى لحظة سقوط حافظ الأسد الذي يدير ظهره للرقة ويراقب من أوتوسترادها كل قادم إليها!

دموع فرح كثيرة تساقطت، كانت كافية أن تغرق ذلك التمثال البغيض وتسقطه مرة تلو أخرى.

قبل تحرر الرقة وبعدها، عمل كثير يقوم به نشطاؤها، إنما بعد سقوط السيف المصلت بات كل شيء علني وفي وضح النهار، تحرر الجميع من خوفهم، البعض كان قد غادره منذ زمن بعيد، وبعض، للتو غادره وبدأ يبحث عن دور سياسي في مستقبل سوريا القادم.

في لقاء ضم وجوهاً ثقافية واجتماعية في منزل المحامي بسام البليبل احتدم نقاش حول تمثيل المدينة، ومشكلة مجلسيها المحليين، قلت في معرض مداخلة قدمتها: لي كثير من النقد حول آلية وعمل وشرعية المجلسين، إنما هذان المجلسان وُجِدا في لحظة فراغ يُشكران عليها، واستطاعا تقديم ما يمكن تقديمه، ويمكن أن نسمي تلك اللحظة التي أتت بهما أنها: “الشرعية الثورية”، إنما الآن  انتهت هذه الشرعية، وستحل محلها “الشرعية التمثيلية”، والمطلوب رأي عام ضاغط، ربما جلستنا الآن نوع من هذا الرأي العام، المطلوب الدعوة إلى مؤتمر عام يراعي تمثيل المدينة بكل فعالياتها، كذلك دعوة المجلسين، وأن يجبرا على حل نفسيهما وانتخاب مجلس محلي بشكل ديموقراطي. الأنظمة الديكتاتورية سادت لأنها ألغت الرأي العام، فلنصعّد من هذا الرأي العام لأنه حصانتنا.

الرقيُّون أمام تحدٍ كبير، المحافظة تحررت كلها بشكل شبه كامل، كل الأنظار تتوجه إليهم، قدموا لكل السوريين (حتى الآن) أمثولة جديرة بالاقتداء، حيث لا حوادث نهب أو سرقة تذكر، حافظوا على ممتلكاتهم العامة والخاصة، كانوا أهلاً للحرية. هل نحافظ على هذه النعمة؟ ذلك هو التحدي وهم له قادرون.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى