مراجعات كتب

كيسنجر في كتاب جديد: دعم قوى الإسلام المتطرف في الخارج لا يحصنك من خطرهم وهذا هو خطأ السعوديين الفادح… في سوريا تداخلت الأجندة الإقليمية والطائفية وتضاربت مصالح الدول الكبرى/ إبراهيم درويش

 

 

لندن ـ «القدس العربي»: تعبر آراء وزير الخارجية الأمريكي الاسبق هنري كيسنجر في كتابه الجديد «النظام العالمي: تأملات في شخصية الأمم ومسار التاريخ» عن مخاوف من الفوضى التي تشهدها الدول العربية والعالم الإسلامي على استقرار العالم وأمنه.

ويعتقد ان هذا الخطر ناشئ عن انهيار الدولة التي لم تعد قادرة على فرض هيبتها على أراضيها وظهور القوى ـ غير الدولة التي تقوم بفرض هيمنتها وسلطتها على مناطق سيادتها.

ويرى كيسنجر ان خريطة الجهاديين والتشرذم تمتد على مساحات كبيرة من العالم الإسلامي، من العراق وسوريا إلى أفغانستان واليمن والصومال ومالي.

من البنا لسيد قطب

ويحلل كيسنجر في مقتطفات من كتابه نشرتها صحيفة «صنداي تايمز» هنا ما جرى للنظام العالمي والتحولات على صعيد فكر الحركة الإسلامية.

وكيف تحولت أفكار مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا الداعية لنموذج عالمي بديل – إسلامي إلى رؤية داعية لضرب العالم والتطرف في فكر الإسلاميين الذين جاءوا من بعده، خاصة سيد قطب.

ويشير لكلمة ألقاها البنا عام 1947 وتحدث فيها عن انهيار النظام العالمي (الغربي) الأخلاقي رغم انجازه العلمي والتكنولوجي. ويقول كيسنجر ان طبيعة النظام الغربي الذي أشار إليه البنا لم تكن موجودة وما كان بالفعل قائما هو النظام «الويستفلي» الذي فقد سلطته وشرعيته، وهونظام قائم منذ 400 عام ونتج عن مؤتمر سلام عقد في مقاطعة ويستفيليا الألمانية بعد قرن من الحروب والنزاعات الدينية حيث اتفقت الدول المستقلة تجنب التدخل في شؤون بعضها البعض الداخلية والحد من طموحات بعضها الخارجية من خلال بناء ميزان للقوى.

وقد انتشرت هذه الصيغة فيما بعد لتصبح نظاما عالميا نظرا لان الغرب المتقدم والتوسعي نقلها لدول وحضارات أخرى. ويفهم من كلام البنا انه كان يعني هذا النظام ويقترح بديلا عنه، أي نظام إسلامي جديد، يقوم على العودة للنبع القرآني الحقيقي وبناء المجتمع عليه حيث سينشأ من خلاله مجتمع الأمة الإسلامية.

ويقوم نموذج البنا على ولاء المسلم لدينه واحترام غير المسلمين طالما احترموا الحركة بحسب البنا. ووعد حركة الإخوان بتحقيق المساواة وتوفير الحماية لهم. لم يتح للبنا الوقت ليطور أفكاره فقد اغتيل عام 1949 ومن جاء من بعده من مفكري الحركة الإسلامية مالوا نحو مبدأ يرفض النظام العلماني العالمي والتعددية، وهذا ما ظهر في فكر سيد قطب الذي وضحه عام 1964 من رفض العبودية للإنسان وأعلن الحرب على النظام العالمي القائم واصبح كتابه نصا مؤسسا للإسلامية في العصر الحديث.

ويعتقد كيسنجر ان مشروع قطب المثالي لم يحظ بالإهتمام الجاد نظرا لان تطبيقه كان يحتاج للوسائل المتطرفة. ولكن نموذج قطب الذي اجتمعت حوله مجموعة من الأتباع أصبح يعني لهم الحقيقة.

وتحولت أفكار سيد قطب للصرخة التي هتف بها الجهاديون والراديكاليون في الشرق الأوسط وأبعد منه ورددتها القاعدة وحماس وحزب الله وطالبان ونظام الثورة الإسلامية في إيران وحزب التحرير وبوكو حرام النيجيرية وجبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام. وفي قلب رؤية قطب كما يرى كيسنجر المبدأ «الطهوري» وليس الداعي للاستقرار. ومن هنا فمن أجل تطبيق هذه الرؤية من الفكرة «الإسلامية»، فلا يمكن للدولة ان تكون نقطة الانطلاق للنظام العالمي لان الدولة علمانية وليست شرعية.

وفي إطار كهذا لن يكون هناك مكان لاحترام مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى لان الولاءات القومية تعتبر ضلالا عن الطريق القويم ولان الجهاديين يدفعهم حس مهمة تغيير العالم الكافر. هذا هو حال الإسلامية في نسختها المتطرفة التي ستكون المستفيدة من الربيع العربي.

سقوط الديمقراطية

وفي هذا السياق يقول كيسنجر ان الربيع العربي الذي بدأ نهاية عام 2010 وجاء محملا بأمل نهاية الاستبداد والقوى الجهادية تراجع لان الجيل الذي قاده لم تكن لديه الوسائل والقاعدة.

فقد بدأ الربيع العربي كانتفاضة جيل جديد يدعو لليبرالية الديمقراطية وهي مطالب سرعان ما سحقت، لان القوى المتجذرة في الجيش والمتدينة في الأرياف أثبتت انها قوية وأكثر تنظيما من العناصر المنتمية للطبقة الوسطى والتي كانت تتظاهر مطالبة بالديمقراطية في ساحة التحرير.

وبعودة الجيش المصري للسلطة وعسكرة الثورة السورية وجدت الولايات المتحدة نفسها تناقش من جديد العلاقة بين مصالحها وموقفها من نشر الديمقراطية.

الثورة السورية

في البداية بدت الانتفاضة السورية وكأنها إعادة لفيلم الثورة في مصر. لكنها لم تكن كذلك. فتشديد الولايات المتحدة على حل المشكلة سياسيا وضرورة تشكيل حكومة إئتلافية من دون بشار الأسد قرن بعرقلات في مجلس الأمن ورفض الدول الدائمة العضوية دعم أي خطوات للعمل العسكري أو إجراءات أخرى، فيما ظهر ان قلة من القوى المعارضة في داخل سوريا يمكن وصفها بالديمقراطية علاوة على كونها معتدلة. وهو ما كان نذير شؤوم فقد انحرف النزاع في سوريا عن هدفه الأول وهو تنحية الأسد.

وتعامل اللاعبون الرئيسيون، السوريون والإقليميون مع النزاع باعتباره وسيلة لتحقيق النصر لا الديمقراطية. فقد كانت الديمقراطية تعني لهم شيئا طالما كانت ستقود لفوز الفريق الذي يدعمونه. وإزاء حالة كهذه لم يهتم اللاعبون كثيرا إلا بتحقيق مأربهم دون اهتمامة بتأثيرها على المصالح الجيوستراتيجية والجيودينية.

وهنا يقترب كيسنجر أكثر لطبيعة النزاع في سوريا الذي لم يعد بين ديكتاتور وقوى تدعو للديمقراطية بل تحول لنزاع بين طوائف متنافسة تقف وراء كل واحدة منها قوة إقليمية وتسعى كل واحدة منها على الفوز بما تبقى من سوريا الطبيعية.

وفي وضع كهذا تنافست القوى الإقليمية على إرسال الأسلحة والأموال والدعم اللوجيستي للجماعات التي تفضلها، فقد دعمت السعودية ودول الخليح الجماعات السنية، فيما قدمت إيران الدعم للأسد من خلال حزب الله.

وعندما لم يستطع أي طرف هزيمة الآخر ودخلت الحرب حالة الانسداد بدأت الكفة تميل لصالح المتشددين، ونتج عن هذا إعادة رسم صورة وخريطة سوريا، فقام الأكراد السوريون بانشاء منطقة حكم ذاتي خاصة بهم على طول الحدود التركية والتي قد تندمج مع مرور الوقت مع حكومة إقليم كردستان في شمال العراق.

وترددت الأقليات الدرزية والمسيحية الخائفة من دعم تغيير النظام. ويقوم التنظيم الجهادي داعش ببناء خلافة في المناطق التي سيطر عليها في كل من سوريا وغرب العراق، حيث أثبتت كل من بغداد ودمشق عجزا في فرض هيبة الدولة.

مصالح إقليمية

يرى كيسنجر ان تردد الولايات المتحدة بالتدخل وحرف ميزان الحرب ربما فسر كمحاولة للتوصل لصفقة مع إيران بشان ملفها النووي، أو لان أمريكا لم تعد تهتم بالشرق الأوسط. لكنه يرى ان جهود الولايات المتحدة لقيت عرقلة من الدول التي تملك حق الفيتو مثل الصين وروسيا اللتين تعاملتا مع الانتفاضات في تونس وليبيا ومصر والبحرين وسوريا من خلا منظور الاستقرار الإقليمي الخاص بهما والأخطار التي ترى ناجمة من المناطق المضطربة التي يعيش فيها المسلمون.

فتحقيق الجهاديين انتصارا على نظام الأسد سيشجع النزعات الانفصالية الإسلامية لديها. وبالمحصلة يقول كيسنجر ان انهيار الإجماع الدولي والتدخل الإقليمي والذي رفق بانقسام المعارضة إلى أكبر كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين وانتقلت لتؤثر على المنطقة كلها.

هل كان يمكن منعها؟

يرى وزير الخارجية الاسبق ان منع الكارثة من الوقوع في سوريا كانت ممكنة لو توفر نظام أمني إقليمي أو دولي فاعل، لكن قلق كل دولة حول مصلحتها القومية كان سببا في هذا الثمن الباهظ الذي دفع في سوريا.

وفي المقابل كان التدخل العسكري الخارجي كفيلا بمنع التدخلات الخارجية والتنافس الإقليمي، ولكن حلا كهذا كان بحاجة لبقاء دائم للقوات العسكرية. وفي ضوء ما جرى في من تدخل في العراق وأفغانستان، فلم يكن هذا الخيار قابلا للتطبيق.

اجماع سياسي

ويعتقد كيسنجر ان إجماعا سياسيا في العراق كان كفيلا أيضا بوقف النزاع على الحدود السورية، لكن النزعة الطائفية لحكومة بغداد منعت تحقيق هذا.

وكبديل عن هذا كان يمكن للمجتمع الدولي فرض حظر لتصدير الأسلحة على سوريا والجماعات الجهادية المتطرفة، ولم يكن هذا ممكنا بسبب تضارب أهداف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. كل هذا فتح الباب أمام القوى المتنافسة لمواصلة اللعبة على الأرض السورية.

السعودية

وفي هذا السياق يتحدث كيسنجرعن العلاقة بين السعودية والديمقراطيات الغربية. فرغم التناقض في النظم والمفاهيم لعبت السعودية دورا في كل مغامرة قام بها الغرب في المنطقة، علنا أو من وراء ستار منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ ان تحالفت المملكة مع الغرب. ورغم التعاون بين النظامين الديمقراطي والثيوقراطي السعودي ضمن النظام الويستفيلي إلا ان قادة المملكة حسب الوزير السابق ارتكبوا خطأ استراتيجيا فادحا في الفترة من ما بين ستينات القرن الماضي وحتى عام 2003 عندما اعتقدوا انهم يستطيعون مواصلة دعم الإسلام الراديكالي والحركات الإسلامية في الخارج بدون ان تصل آثارها للداخل. وثبت خطأ هذا عندما بدأ تنظيم القاعدة حملته في داخل السعودية، وظهر بالتالي القصور القاتل لسياسة السعودية. وبظهور الحركات الجهادية في سوريا والعراق فقد تم فحص هذه الإستراتيجة مرة ثانية.

ويحذر من أي اضطرابات في السعودية ستترك أثرها البالغ على الإقتصاد العالمي وعلى العالم الإسلامي والسلام العالمي. فكما أظهرت الثورات في العالم العربي فلا يمكن للولايات المتحدة افتراض ان المعارضة الديمقراطية تنتظر لحكم السعودية بناء على مبادئ قريبة من الأنظمة الغربية.

منظمات فاعلة

وفي هذا المقام فالتفكك الذي أصاب كلا من العراق وسوريا اللتين كانت قاعدة القومية العربية يعني انهما لن يكونا قادرين على توحيد نفسيهما كدول ذات سيادة من جديد.

فتفكك الدولة إلى وحدات طائفية وقبلية يتجاوز بعضها الحدود الوطنية وتعيش حالة من النزاع العنيف فيما بينها وتتلاعب فيها قوى وفصائل من الخارج، ولا تحترم قواعد عامة غير استخدام القوة مظهر لهذا الوضع. ويعني عجزا للدولة التي شهدت مرحلة تغيير أو ثورة على السيطرة على مناطقها وأراضيها، مما يعني ظهور الكيانات غير- الدول مثل حزب الله والقاعدة وطالبان والدولة الإسلامية كقوى فاعلة بعيدا عن سلطة الحكومة المركزية. حدث هذا في العراق وليبيا وإلى حد كبير وخطير في الباكستان. ويرى كيسنجر ان الأوضاع مرتبطة بالتدخلات الخارجية التي عملت على التغيير ولم تنجح في تحقيق المراد. ففي العراق لم يؤد حل نظام صدام حسين إلى ديمقراطية بل إلى انتقام، حيث عمل كل فصيل بتعزيز سلطته ضد الفصيل الآخر.

وفي ليبيا أدت الإطاحة بنظام معمر القذافي لمحو أي مظهر من مظاهر الحكم الوطني. وقامت الجماعات والقبائل بتسليح نفسها من أجل تحقيق الحكم الذاتي أو التسيد عبر الميليشيات المستقلة. ففي الوقت الذي حصلت فيه حكومة مؤقتة في طرابلس على اعتراف دولي إلا انها لم تكن قادرة على فرض سيادة خارج العاصمة. وانتشرت الجماعات المتطرفة، مما أدى لاندلاع الجهاد في الدول الجارة مستخدمة السلاح الذي نهبته من ترسانة القذافي.

ويقول كيسنجر، عندما لا تكون سلطة الدولة مفروضة على كل البلاد يتفكك معها النظام الإقليمي والدولي، وتصبح الخريطة معلمة بمناطق خارجة عن القانون والنظام.

ومن هنا فانهيار الدولة قد يؤدي لتحويل أراضيها لقاعدة للإرهاب وتهريب السلاح والحقد الطائفي ضد الجيران. ويشير إلى ان المحاور التي أصبحت خارجة عن سيطرة الدولة أو الجهادية تمتد على مساحة العلم الإسلامي من ليبيا لمصر واليمن وغزة وأفغانستان وسوريا والعراق ونيجيريا ومالي والسودان والصومال.

في ظل هذا الفراغ يقول كيسنجر ان الشرق الأوسط يعيش نزاعا يشبه ما واجهته أوروبا في القرن السابع عشر من حروب دينية.

وفي هذه الصراعات يعزز النزاع المحلي الدولي، وتتداخل في هذه النزاعات القبلية والسياسية والقبلية والمناطقية والأيديولوجية والتقليدية الوطنية المصالح. وفيها تتم عسكرة الدين لخدمة المصالح الجيوسياسية، ويتم تعليم المدنيين للقتل والإبادة بناء على هويتهم الطائفية.

ومن هنا فالنزاعات التي تتكشف اليوم هي دينية وجيوسياسية. وفيها كتلة سنية مكونة من السعودية ودول الخليج وإلى حد ما مصر وتركيا في مواجهة مع إيران الشيعية التي تدعم الأسد في سوريا وبغداد وعددا من الجماعات الشيعية وحزب الله في لبنان وحماس في غزة. وتدعم الكتلة السنية الانتفاضة في سوريا ضد الأسد وفي العراق ضد بغداد.

وفيما تقوم إيران الطامحة لتوسيع نفوذها في المنطقة باستخدام كيانات غير دول مرتبطة بإيران وأيديولوجيتها حتى تؤثر على شرعية منافسيها. وفي هذه المعركة يحاول المشاركون في الحرب البحث عن دعم من الخارج مثل روسيا والولايات المتحدة.

أهداف استراتيجية

ويرى ان أهداف روسيا في دعمها للنظام تظل استراتيجية، ففي الحد الأدنى هي من أجل منع تحول انتقال الجماعات الجهادية في كل من العراق وسوريا للوصول إلى مناطقها المسلمة، وعلى قاعدة أوسع تطمح روسيا لتعزيز موقعها الدولة فيما يتعلق بالمنافسة مع الولايات المتحدة.

في المقابل فمعضلة الولايات المتحدة تنبع من شجبها للأسد- وهي محقة- على قاعدة أخلاقية لكنها بحاجة لشجب أعدائه من القاعدة وغيرها التي تعارضها بناء على مصالح استراتيجية.

ويعتقد كيسنجر انه في عصر الإرهاب الانتحاري وانتشار أسلحة الدمار الشامل فأي تحول نحو المواجهة الطائفية الإقليمية يجب التعامل معها كتهديد للاستقرار العالمي تدعو لتعاون كل القوى الدولية.

وفي حالة لم يتم فرض النظام على مناطق واسعة فانها ستصبح مفتوحة على الفوضى وأشكال من التطرف التي ستنتشر لبقية المناطق. مما يعني ولادة نظام إقليمي جديد تقوم به الولايات المتحدة والدول القادرة على فرض رؤية دولية.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى