صفحات المستقبلوائل علواني

كيف استقطبت سوريا مبرمج تطبيقات البت كوين، أمير تاكي؟!/ وائل علواني

 

 

يفترض كثيرٌ من السوريين في أحاديثهم أن الأفراد الذين يتركون الدول الغربية و«رغد العيش» فيها، ويهاجرون إلى سوريا للقتال، قد وقعوا ضحية غسيل دماغ ممنهج تقوم به التنظيمات المقاتلة، في تفسير يستبطن أن هؤلاء المهاجرين محدودو التفكير أصلاً، وأن أوضاعهم المالية مزرية. ولكنهم كثيراً ما يُصدمون بسماع قصص أشخاص متفوقين وبارزين في مجال عملهم، بل إن بعضم كان له شهرة واسعة، ومع ذلك غادروا إلى سوريا للقتال، ما يجعل تفسير «غسل الدماغ» غير منطقي.

لعل من أبرز هؤلاء المهاجرين الهاكر الشهير جنيد حسين، أبو حسين البريطاني، الذي انضم لصفوف داعش وعُرِفَ عنه سابقاً اختراقه للبريد الإلكتروني لتوني بلير في 2012 ونشر محتوياته (في عالم الانترنت تعرف عملية نشر البيانات الالكترونية الخاصة بشخص ما بغرض فضحه أساسا بالـ Doxing). قُتِلَ جنيد حسين في أغسطس 2015 في الرقة، بقصف من طائرة بدون طيار أمريكية استهدفته شخصياً.

لا يعرف الكثير من أصدقاء جنيد ما الذي غيره، ولكنهم في مقابلات متعددة يصرّحون باعتقادهم أنه تحول للتشدد Radicalized في السجن قبل رحيله إلى سوريا، والبعض يقول إنه ذهب بحثاً عن المعنى وتحقيق الذات. ربما لا نعرف الكثير عما كان يدور في خلد جنيد ودوافعه للهجرة إلى سوريا، ولكن شخصاً آخر على الجبهة الأخرى المقاتلة ضد داعش عاد من سوريا ليحكي لنا ما الذي دفعه للذهاب والقتال هناك، ويحكي عن «الثورة الأناركية في الشرق الأوسط» ومشروعه الذي سيقدمه للمنطقة! ولكن قبل الحديث عن انضمامه للصفوف الأمامية في «روجافا»، منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا، أمام تنظيم الدولة، سنعود خطوة إلى الوراء للتعرف عليه أكثر.

في مقابلة أجراها الباحث جيمي بارتلت ونشرها في كتابه، النت المظلم: داخل العوالم الرقمية السفلية العام 2013، تحدث أمير عن كيف أن العملات المشفرة ستغير العالم. في ذلك الوقت، كان أمير المولود في 1988 لأب إيراني وأم اسكتلندية، يعيش في كالافو في اسبانيا، وهي مستعمرة صناعية ما بعد-رأسمالية مدعومة من حركة التعاونيات المتكاملة الكتالونية، والتي تطرح تشكيلات اقتصادية بديلة Alternative لها حكم ذاتي، تدار من الناس بدون هياكل سلطوية أو مؤسسات نخبوية سعياً لتكوين مجتمعات مستدامة خارج النظام الرأسمالي (يعدّ Enric Duran أحد أبرز مؤسسيها، وهو مشهور بـ «روبن هود البنوك» لأنه احتال على 39 بنكاً رأسمالياً، واقترض منهم ما يبلغ نصف مليون دولار، ثم وهبها للحركة). كان أمير يعمل على مشروع المحفظة المظلمة Dark Wallet في هاكرسبيس داخل مجمع مصانع نسيج مهجور في كالافو، بصحبة مطورين اثنين أحدهما كودي ويلسون، الأناركي الذي صنع من كالافو أول مسدس حقيقي عبر طابعة ثلاثية الأبعاد. يوفر مشروع المحفظة المظلمة آليات أكثر أمناً وقدرةً على إخفاء الهوية، تغفل عنها بروتوكولات البت كوين الأصلية، لإتمام التعاملات المالية الالكترونية.

منذ أن أتيحت برمجية البت كوين في مجموعة بريدية خاصة عام 2009، كبرمجية مفتوحة المصدر من شخص يستخدم اسماً وهمياً هو ساتوشي ناكاموتو، تعلق بها أمير لدرجة أنه أعاد كتابة برمجية البت كوين في 2011 تحت مسمى Libbitcoin، وبنى نموذجاً أولياً لسوق مظلم على غرار سوق طريق الحرير الإلكتروني سيء السمعة. لا يمل أمير من التصريح بإيمانه العميق بموضوع اللامركزية والإدارة/الحكم الذاتي للمجتمعات التي تدير تشبيكاتها ومصالحها بنفسها، كفكرة بديلة تهدم تشكيلات السلطات السياسية والاجتماعية القائمة. لعل التعرف سريعاً على ماهية البت كوين يخبرنا الكثير عن تقاطعها مع ما يؤمن به أمير.

عن البت كوين وسلاسل الكتل

البت كوين هي عملة غير مرتبطة بأي عملة من عالمنا، تكتسب قيمتها وقوتها من حقيقة أن الناس تستخدمها في شراء وبيع البضائع وتحويلها مقابل عملات حقيقية كالدولار. تتميز هذه العملة بأنها مشفرة (أو معمّاة) ولا ضرائب عليها ولا وسطاء، والأهم أنه لا توجد أي سلطة مركزية تتحكم بقيمتها ولا تعاملاتها. باختصار هي عملة لا مركزية يديرها الجميع.

حتى لحظة كتابة المقال، فإن البت كوين الواحد يعادل 1476 دولار، بعد أن كانت أقل من 1 سنت في 2009، ويقبل التعامل بها أكثر من 100 ألف موقع ومتجر. إن الإسهام غير المسبوق الذي مكن البت كوين من التميز عن مثيلاتها، هو استخدامها لمفهوم سلاسل الكتل Blockchain.

لقد مكن تطويع هذا المفهوم ولأول مرة من عمل نظام مالي غير مركزي، غير قابل للتزوير أو التغيير، ولا تديره أي سلطة فردية، مشفّر، ولا يمكن ربط هوية المتعاملين بالعملة بشخصياتهم الحقيقية. هذه الملكية المشتركة في يد الجميع لإدارة التعاملات المالية أتاحت لأول مرة عدم تحكم البنوك بالدفق/العرض Supply المالي بحسب تقديراتها ومصالحها. ولقطع الطريق على أي أحد للتلاعب المستقبلي بكمية الطرح المالي لبت كوين، تم تحديد البت كوين الذي يمكن انتاجه عبر عمليات التنقيب الآلية بـ 21 مليون بت كوين (ينتهي في عام 2140 التنقيب عن آخر بت كوين).

مفهوم سلاسل الكتل هو الإسهام النوعي الذي ساهم بإحداث قفزة كبيرة نحو ما يعرف بالويب 3.0، بحسب الباحث جيمي بارتلت في كتابه المشار إليه آنفاً، ومقابلاته مع العاملين في المجالات التقنية. ففي 1.0 كان الحديث عن الويب الثابت Static، وفي 2.0 بات المركب الاجتماعي جوهره. في 3.0، يتم الحديث عن مواقع تعمل على شبكات الند-الند، مدعومةً بتشفير قوي يتيح ملكية لا مركزية للبيانات وينهي موضوع الرقابة والتجسس. وكما أن المتابع لسوق التقنية اليوم يرى هجوماً كبيراً من الشركات العالمية التجارية نحو تطوير منتجات تعتمد على سلاسل الكتل وشبكات الند-الند، فإن العديد من المشاريع مفتوحة المصدر القائمة على هذه المفاهيم باتت متاحة، مثل: Diaspora، شبكة اجتماعية لا مركزية. منصة Ethereum اللامركزية التي توفر بنية تحتية رقمية متوزعة ومشفرة (وتملك عملة مشفرة خاصة بها منافسة للبت كوين). Jitsi للمحادثات والفيديو. MailPile نظام بريد إلكتروني أسسه أحد العاملين مع جوليان أسانج في الأيام الأولى لويكي ليكس. كما أن هناك حركات تقنية-اجتماعية تقوم حول أفكار شبيهة أبرزها Platform Cooperativism.

الطريق إلى الثورات السياسية ينطلق من الحريات الرقمية

خصائص هذه العملة تتقاطع بشكل كبير مع رؤية أمير وما يؤمن به مناضلو الحريات الرقمية، فالبت كوين بالنسبة لكثيرٍ منهم مشروع سياسي أكثر من مجرد وسيلة دفع إبداعية أو كونها مشروع تقني، ويصرون على أن هذه هي نظرة ساتوشي نفسه. يتعارض هذا الإيمان صراحة مع مؤسسة بت كوين Bitcoin Foundation التي تهدف لتحفيز الشركات والدول على قبول تعاملات البت كوين، بل والمشاركة في إدارتها، بالإضافة إلى سنّ معايير وضوابط تدعم قبول العملة المشفرة كآلية دفع جديدة.

يتبنى الأناركيون في الوسط الافتراضي مواقف متشددة تجاه الحكومات والشركات، فهم يعتبروها عصابات جشعة تراقب الفضاء الرقمي وتتجسس على الناس، لذلك فإن البت كوين وسلاسل الكتل هي أحد الجبهات في نضال الحريات الرقمية، الذي يعتبر إخفاء الهوية والحرية لقول وعمل ما ترغب في الوسط الافتراضي حقوقاً مقدسة1. لا ينفي هؤلاء المناضلون وجود جوانب مظلمة لهذه الأفكار، فبعض تطبيقاتها الحالية تستخدم في تمويل الإرهاب وتجارة المخدرات (كموقع طريق الحرير) والجريمة واستئجار القتلة والأفلام الإباحية المستغلة للأطفال. ولكن هذا بالنسبة لهم من طبائع الأمور، فلكل شيء جانب مظلم وجانب مشرق، وهذه الأعمال الشريرة هي تجليات للظلم والقمع الممارس على الناس في حياتهم الواقعية من النظام الرأسمالي وغيره. أي أن الشر هو عَرَضٌ لمشاكل أخرى، فهذه الأدوات «تعود بنفع أكبر على المجتمع الديموقراطي مقارنة بضررها، حتى لو استخدمت من قبل الإرهابيين»، كما قال فيليب زيمرمان مطور خوارزمية التشفير PGP الشهيرة.

من لندن إلى سوريا

لم يكتمل مشروع المحفظة المظلمة لأسباب مجهولة في 2014، وترك أمير كالافو وعاش متنقلاً في مناطق Squats بين لندن وروما وبرشلونة (Squats هي أراضٍ مهجورة يستوطنها الشخص بدون تحصيل سند قانوني، وهي منتشرة بين الأناركيين). في أثناء ذلك، قرأ أمير كتابات ناشطين في «روجافا» منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا، عن مساعيهم في بناء مجتمع تعاوني قوامه 4 مليون شخص، قائم على مبادئ الديموقراطية المحلية المباشرة، الأناركية الجمعية، المؤسسات التعاونية، الاكتفاء الذاتي، والمساواة بين الجنسين. وعندما غَزَت داعش مدينة كوباني، استفزه ما حصل وقرر أن يذهب إلى هناك ليضع خبراته التقنية تحت تصرف الناس الذين يقاومون الفاشية الإسلامية.

يقدم أمير نموذجاً غير تقليدي عن ناشطي الحريات الرقمية عموماً، الذين يخوضون معاركهم في الوسط الافتراضي ويعتبرونه الساحة الأساسية في تحقيق أهدافهم، آملين أن يكون لها انعكاس على الواقع بشكل ما (باستثناء طبعاً المشاركة في العديد من المظاهرات والفعاليات، منها الـ Crypto Party، التي تركز على مواضيع الخصوصية والسرية عبر تعليم الناس استخدام أدوات تقنية حرة، ولكن تبقى مساحة العالم الحقيقي ثانوية بالنسبة لهم). لقد غير النموذج الذي قدمه أمير قواعدَ الاشتباك، ونقلَ المعركة إلى أرض الواقع عبر الانضمام «للثورة الأناركية في الشرق الأوسط» كما يسميها، لأنه إن لم يفعل ذلك، فسيكون منافقاً حسب قوله.

سافر أمير إلى السليمانية مطلع 2015، وتسلل منها إلى سوريا عبر وسيط. يوحي حديث أمير بأنه قام برحلته بشكل فردي، أي بدون ترتيب مسبق مع ناشطين أو أصدقاء. لأن ما حصل معه بعد وصوله بعدة أيام هو أنه تمّ ضمه لمخيم لوحدات حماية الشعب الكردي، وعبثاً حاول أمير إقناعهم بأنه أتى وسلاحه الكيبورد، إلا أنهم تجاهلوا ذلك وأعطوه كلاشينكوف وفرزوه للصفوف الأمامية دون أي تدريب ليقاتل ضد تنظيم الدولة.

بعد عدة أشهر صدر قرار من مسؤول إحدى الوحدات بتسريح أمير ونقله للقامشلي ليعمل في مهام مدنية. ساعد هناك في عمل عدة مشاريع (بناء مصنع أسمدة، مشروع بحثي لاستخدام الطاقة الشمسية، ورش عمل تقنية عن المصادر المفتوحة وغيرها). كما أنه كان الغربي الوحيد الذي شارك في اجتماعات الإدارة المحلية الاقتصادية، التي تحوّل الاقتصاد هناك لمؤسسات تعاونية.

بعد 15 شهراً قضاها أمير، لم تلبث أن عادت هموم البت كوين، والنزاعات في طبيعة توظيف العملة، وما سببته مؤسسة البت كوين Bitcoin Foundation من تشويه للغرض من هذا المشروع السياسي، فوجد نفسه مدفوعاً للعودة إلى لندن في مايو 2016، حيث اعتقلته السلطات ومن ثم وضعته تحت المتابعة لعدة أشهر. يخوض أمير حالياً معارك قضائية، ويعتبر محاميه أنها تميز أمير عن غيره من البريطانيين الذين قاتلوا في صفوف وحدات حماية الشعب الكردي ولم تحاكمهم بريطانيا.

مشروع أمير القادم

يعتبر أمير أن مهمته في الحياة هي بناء أدوات تمكن الناس من ممارسة حرياتهم. ولا يرى ذلك طرحاً طوباوياً، فهو عمليٌ جداً «يبني حلولاً للمشاكل التي تواجهها المجتمعات التي يعيش فيها بشكل تكراري Iterative». وهو لا يخفي نقمته على التحرريين التقليديين ونخبهم المثقفة، الذين انفصلوا عن الواقع وتركوا الناس يواجهون التطرف والمحن بأنفسهم. تماشياً مع ذلك، صرّحَ أمير في مقابلة قبل أيام مع قناة BBC الرابعة أنه سيعود إلى روجافا ليستخدم مهاراته التقنية للمساعدة في بناء دولة جديدة2، بشكل يذكرنا، بحسب تقرير القناة، بالمتطوعين الإنجليز في الحرب الأهلية الاسبانية، الذين انضموا إلى صفوف الجمهوريين.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى