صفحات الثقافةممدوح عزام

كيف تشتم شعباً/ ممدوح عزام

 

 

في الحديث عن كتّاب عرب شتموا الشعوب التي ينتمون إليها، يمكن استحضار ثلاثة أسماء على الأقل. السوري فؤاد الشايب أوّلها، وثانيها المصري عباس محمود العقاد، أما ثالثها، فالشاعر اللبناني خليل مطران.

كان فؤاد الشايب (1911 ـ 1970)، الذي يعتبره نقاد ومؤرخو الأدب السوري واحداً من جيل الرواد، نشر شتائمه في قصته ذات العنوان اللافت، “جموح القطيع”، المنشورة في مجموعته اليتيمة التي أصدرها عام 1944، “تاريخ جرح”. والحقيقة أن قصة الشايب تكاد تضعنا أمام معضلة الفصل بين الكاتب وبين الشخصية القصصية، لولا أن الكاتب يتدخل في النص بفظاظة لا تحتاج إلى حصافة التدقيق، ولا إلى فضائل البراءة من التهمة المفترضة.

وخلاصة قصة الشايب أن السيد حسني بك، القائد في حزب متخيّل هو “حزب التعاون الشعبي”، يكتب خطاباً موجهاً إلى الجماهير (يستخدم المؤلف مفردتي الشعب والجماهير بالتناوب كمترادفتين). وبدلاً من أن يخاطبهم في شؤون حياتهم، فإنه يسجل على الورق رأيه فيهم، هكذا (في طبعة 1978 من الكتاب): “أيها الشعب المغفل، لم أرك يوماً تحب الصدق، ولم أصدقك في كلمة من الكلمات. أنت خرافة… أيها الشعب الجاهل. يا من تشوقك كلمة، وتسوقك كلمة أخرى. إن لوجهك الخرافي ألف عين لا تبصر إلا بواحدة منها، وهي العين المثقوبة من فوق يافوخك”، و”قد ارتكبت من الجرائم على كتفي ما ناءت به حياتي. أنا في حِلّ من دينونتك؛ أطلق حياتي من خرافاتك، فها أنا أحرر حياتك”، إلى أن يصرخ في النهاية وقد ارتاحت نفسه، إنه “حر… حر”.

لا يكتفي الكاتب (الذي توفي بسكتة قلبية في الأرجنتين، إثر انفجار في مبنى الجامعة العربية حيث كان يعمل) بخطاب الشخصية المندّد بالشعب، من دون أن نعرف الشيء الكثير عن تاريخ حسني بك النضالي أو الأخلاقي، بل إنه يقدّم لنا فصلاً ثانياً يروي فيه الأحداث من وجهة نظره كقاص. وهنا، نقرأ حزمة أخرى من الشتائم الموجهة إلى هذا الكائن؛ فالشعب، “حيوان خرافي”، “جحفل من الغموض”، “زحف أهوج”، “حشد أصم أعمى”. أما الجماهير، فـ”خائنة كالرمال”، “تلوّث العالم بالسواد”.

ثم يضيف الشايب إلى تلك الصفات المفردة الأثيرة إلى قلبه، وهي وصف الشعب بالقطيع، “قطيع يزدحم في المكان”، أي الساحة التي سيلقي فيها حسني بك خطابه. لكن القائد الذي قُدم لنا في لحظة صحوته الفكرية، والأخلاقية، لا يأتي إلى الساحة. ولذلك، تهاجم بيته “جحافل البعوض” من الجماهير، ولا تجده، فتحطم الأثاث، وتقتل خادمه.

وإذا كان المثقف هنا يدافع عن الأمير، ويشتم الشعب الذي لا يفهم دوافع السياسي، في إعلان مبكر عن انحياز ثقافته إلى جانب السلطة، فإن مثقفاً آخر، معاصراً له، هو الشاعر اللبناني خليل مطران (1872 ـ 1949)، يرجم الشعب لأنه يؤيد السلطة/ المستبد، وذلك في قصيدته الشهيرة ” نيرون”: “ذلك الشعب الذي أتاه نصرا/ هو بالسبّة من نيرون أخرى”. ويعلن مطران في القصيدة عن سخطه الشامل على الشعب المتخيّل الذي يدعم الطغاة، ممثلاً بشعب روما الذي كان يصفق ويهلل لنيرون.

على أن عباس محمود العقاد (1889 ـ 1964) كان أكثر عنفاً وصراحة في التنديد بالشعب. ففي جوابه على سؤال حول التمثيل في مصر، نشره في كتابه “مطالعات في الكتب والحياة”، قال إنه لا يؤيد التمثيل لأن الأمر اليوم هو للملك ديموس، أي الشعب في اليونانية. ومن هو الملك ديموس؟ مستعبد قاهر، في رأيه، وعتل أحمق مأفون الرأي، بليد الطبع، قذر الهيئة والأظافر، “يستحق الصفع أحياناً، ولكنه لا يجد الكف الغليظة التي تملأ خدّه العريض الطويل”. ولماذا ذلك؟ “لأن الملك ديموس لا يحب الوعّاظ والأنبياء، ولا يألف الفلاسفة والعلماء، ولكنه يحب المهرّجين والمسخاء، ويألف المتزلّفين والأدعياء”.

يكثر الشايب من استخدام مفردة القطيع لوصف الشعب والجماهير، وهو استخدام مبكر لم نعثر بعد على سابق له في ثقافتنا. واللافت أن المفردة شبه معمّمة في أوساط المثقفين والمتعلّمين، حيث تسود ثقافة شفوية اعتادت الاستسهال، وعدم المسؤولية الأخلاقية، في وصف الجماعات والشعوب التي لا تستجيب سريعاً لرسالاتها، بـ”القطيع”. هكذا، بتنا نسمع كلاماً عن ثقافة القطيع، وطاعة القطيع، واستسلام القطيع. بل إن الناس أنفسهم يميلون أحياناً، في ساعات الغضب من فشلهم في تحقيق آمالهم أو الانكفاء أو التذمر من ظهور الشعب بمظهر المنصاع والمستسلم والخانع أمام القهر؛ إلى إطلاق هذه التسمية السهلة المستمدة من عالم الحيوان على ذواتهم الجمعية.

الملاحظ أن آراء الكتّاب الثلاثة عن الشعب، قيلت في أزمنة متقاربة. فقد كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني في ذلك الوقت الذي كانت سوريا خاضعة فيه للاحتلال الفرنسي. والمؤكد أن ذلك جرى في الزمن نفسه الذي عاش فيه الشاعر أبو القاسم الشابي، صاحب “إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر”. وبين هذين الاتجاهين، ظلت الثقافة العربية تتأرجح طوال العقود الحديثة الماضية.

وفيما وصلنا اليوم إلى اللحظة التي نزلت فيها إلى الشوارع صيحات “الشعب يريد”، ذلك الشعب الذي شُتم من قبل، تعود إلى الواجهة فكرة المقارنة بين ما يمكن أن تقوله ثقافة العقاد والشايب ومطران، في هذا المقام، وبين ما يمكن أن يقوله الشابي.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى