صفحات الرأي

كيف تضبط مصالح موسكو وبكين إيقاع الصراع الأميركي ـ الإيراني؟


تقرير في “معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية”

هيفاء زعيتر

يشبه الصراع المحتدم بين أميركا وإيران رقعة شطرنج ثلاثية الأبعاد، يحجز «اللاعب الثالث» لنفسه فيها موقعاً أساسياً يمكّنه من تغيير معادلات اللعبة ورسم قواعدها. وفي خضمّ التنافس المستميت بين طرفي الصراع الأساسيين، يحاول الطرف الثالث كسب المعارك لمصلحته مستفيداً من شبكة مصالح مشتركة تجمعه بالطرفين وقوة اقتصادية – عسكرية – استراتيجية يحرص دائماً على ضبط إيقاعها بما يناسب مصلحته.

«اللاعب الثالث» هو روسيا والصين بحسب الباحث الأميركي أنتوني كوردسمان الذي يخوض، في تقرير نشره «معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية»، في تفاصيل الدور المحوري الذي تلعبه كل من موسكو وبكين في صلب الصراع الأميركي – الإيراني، انطلاقاً من عضويتهما الدائمة في مجلس الأمن التي تسمح لهما بالتحكم في مجريات الحراك الدولي وبآلية العقوبات التي تحاول أميركا فرضها على إيران.

يعتبر كوردسمان أن «روسيا والصين تسعيان للاستفادة بأكبر قدر ممكن من التنافس المحتدم بين الطرفين.. تتجنبان الالتزام مع أي جهة في وقت تحرصان بشدة على عدم الوصول إلى حالة من العداء السافر مع أي من الخصمين. في الماضي القريب، بدت الدفة الصينية مائلة بوضوح تجاه إيران فيما كان الهوى الروسي غربياً أكثر، في حين أصبحت بكين لاحقاً أكثر حذراً في علاقتها مع إيران مقابل اندفاع روسي للالتزام إيرانياً بشكل أكبر».

في الجهة الثانية، تدرك كل من واشنطن وطهران الأهمية الاستراتيجية للحليفين وتكاليف خسارة أحدهما، فتسعيان، كل بوسائله، إلى استمالتهما: أميركا تعمل على دمج الصين وروسيا في النظام العالمي، في حين تعبّر إيران عن رفضها لهذا الوضع وتحث «زميلتيها» (كقوى غير غربية) على إنشاء نظام جديد بعيد عن الغرب.

وخلافاً للصين الذي يرتكز دعمها لإيران بشكل أساسي على موضوع الحفاظ على أمن الطاقة، فلروسيا مروحة واسعة من المصالح في هذا الدعم توازي بعضها البعض أهميّة. وعليه، تصبح المقاربة الروسية للملف الإيراني أكثر مرونة وفعالية من زميلتها الصينية، بداية من انتشار النووي والعقوبات والتجارة وصفقات الطاقة والتكنولوجيا النووية والبنى التحتية ومبيعات الأسلحة، والأهم استراتيجية بسط النفوذ في الخليج والشرق الأوسط.

والخلاصة: يستند الدعم الصيني – الروسي لإيران على تقييم الفوائد المرجوة والتكاليف المترتبة على هذه العلاقة نظراً لإمكانية انتشار السلاح النووي والتهديد الذي قد تتعرض له إمدادات النفط عالمياً، وما يمكن لذلك أن يشكله من تهديد على العلاقات مع أميركا والدول المعادية لإيران. أما الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها على كل من الصين وروسيا في هذه المرحلة لن تجدي نفعاً لدفعهما إلى التخلي عن إيران، فإيران ما زالت ورقة مساومة رابحة بالنسبة لهما في التعامل مع أميركا وأوروبا ودول الخليج.

الصين

– تطور العلاقات على خط بكين – واشنطن: أسهمت وتيرة النمو الاقتصادي والعسكري المتسارعة في الصين، بالتزامن مع زيادة الحركة التجارية عبر المحيط الهادئ، في أن تجعل من العلاقات الصينية – الأميركية واحدة من أكثر المحطات أهمية في القرن الحادي والعشرين.

توسع الصين كقوة عالمية فرض عليها توسيع دائرة نفوذها الاقتصادي لضمان تدفق السلع، وفي هذه الدائرة رأت بكين في الولايات المتحدة شريكاً اقتصادياً حساساً ومنافساً استراتيجياً أساسياً. في العام 2010، قامت الصين بتصدير ما قيمته 1,5 تريليون دولار من السلع، وصل 20 في المئة منها إلى أميركا.

ويبقى تشابك الاقتصاد بالسياسة في العلاقات بين البلدين هو ما يشكل عنصراً حاسماً في الاستراتيجية الأوسع نطاقاً، التي ترخي بظلالها على استقرار الاقتصاد العالمي. وفي هذا الإطار، تشير تقارير بحثية صادرة عن الكونغرس أن هناك 1,16 تريليون دولار، أو 26,1 في المئة، من ديون الولايات المتحدة الفدرالية مستحقة للصين.

ما سبق يؤكد أن من المستبعد أن تنقطع العلاقات التجارية بين البلدين، كما التنسيق على أصعدة عدة من الإرهاب والقرصنة وكل ما يهدّد النمو الاقتصادي وتحديدا أسلحة الدمار الشامل. وإن كان هناك العديد من العقبات التي توتر العلاقات الثنائية، أهمها بيع الأسلحة لإيران والجماعات «الإرهابية» كـ«حزب الله» و «حماس».

– تطور العلاقات على خط بكين – طهران: يعود تاريخ هذه العلاقات إلى العام 1971 الذي شهد بداية تعاون قام على أساس المصالح الاستراتيجية المتبادلة. التعاون الأمني بين إيران والصين يدور حول رغبة الأخيرة في ضمان أمن مواردها، حيث تشكّل إيران لحليفتها مصدرا آمنا للنفط، وسوقاً جيداً لتسويق السلاح وموطئ قدم استراتيجي في الشرق الأوسط ووسيلة غير مباشرة لتحدي الهيمنة الأميركية. وفي المقابل، فإن إيران تستفيد من شراكة اقتصادية مع قوة عظمى ومن مصدر مهم للسلاح، أما الأهم فهو ما تؤمنه الصين من غطاء دبلوماسي لها. ويعزّز العلاقات بين البلدين الموقف السلبي المشترك من محاولة أميركا التدخل في الدول بنزعتها الامبريالية وسعيها لفرض هيمنتها.

وقد شكّل تعطش الصين للحفاظ على تدفق آمن للنفط إلى تعزيز علاقاتها مع إيران. ووفقاً لوزير النفط مسعود مير كاظمي لدى إيران «155 مليار برميل من النفط الاحتياطي و33 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، وفي العام 2015 سوف تستثمر إيران 150 مليار دولار في عمليات التنقيب و50 مليار دولار في عمليات التكرير». كما شكلت الصين تاريخياً مورداً هاماً للأسلحة الإيرانية، صحيح أن حجم الاستيراد انخفض في السنوات الأربع الأخيرة إلى ما قيمته 50 مليون دولار مقارنة بـ100 مليون دولار بين عامي 2002 و2005، ولكن ما زالت الأسلحة الصينية تشكّل عاملا أساسياً في دعم إيران لحلفائها في المنطقة.

من جهة ثانية، يتهم الغرب الصين بدعم إيران في بناء برنامجها النووي، إذ تواصل إيران الحصول على الدعم من مؤسسات صينية ما زالت تتهمها واشنطن بأنها تخالف الالتزام بقانون العقوبات المفروض الذي أعلنت بكين الالتزام به.

روسيا

تطور العلاقات على خط موسكو – واشنطن: بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، سارعت روسيا للانخراط في عالم ما بعد الحرب الباردة، لكنها حاولت الحفاظ على هويتها غير الغربية كما على مصالحها في الدول التي كانت خاضعة في السابق لسلطانها.

جهدت روسيا دائماً في أن تنأى بنفسها عن الولايات المتحدة في العديد من المجالات. وفي نهاية العام 2000، بلغت العلاقات الثنائية بين البلدين أسوأ مراحلها: خطاب الرئيس فلاديمير بوتين المعادي للغرب، غاز أوكرانيا، الهجوم الإلكتروني على أستونيا، حرب جورجيا… ولكن مع انتخاب الرئيس الأميركي باراك أوباما استطاع الطرفان التوصل إلى اتفاقيات ثنائية حول أفغانستان والأمن النووي والتعاون العسكري وتشكيل اللجنة الرئاسية الثنائية.

ماثلت الاستراتيجية الأميركية تجاه روسيا تلك التي تتبعها تجاه الصين، فهي ترحب بدور فاعل لموسكو على الساحة العالمية، لكن الأمور تسوء في المجالات التي تخالف فيها موسكو المصالح الأميركية. ولتحقيق مزيد من التماسك بين هذه المصالح، نفذت إدارة أوباما استراتيجية مبنية على الاتفاقيات الثنائية التي تقوم أساساً على قضايا الأمن العالمي.

في العام 2008، تمّ تعليق الأنشطة العسكرية الثنائية على خلفية الأحداث في جورجيا، لكنها ما لبثت أن عادت في العام 2009 عندما جدّد الطرفان الالتزام العسكري تجاه بعضهما. وفي الإطار الجديد للعلاقة الذي تمّ تحديده كان هناك إشارة إلى تعزيز التعاون العملي بين الكوادر العسكرية والتبادل المنفتح في الأهداف الاستراتيجية. الجدير ذكره أن العلاقات الروسية – الأميركية تحسنت بشكل ملحوظ في العام 2009 عندما سمحت موسكو للقوات الأميركية العبور إلى أفغانستان عبر أراضيها وأجوائها، والذي أدى إلى تأزيم العلاقة مع إيران التي احتجت بان روسيا تنكث بوعدها بالحدّ من الوجود الأميركي عند حدودها الشرقية.

هناك خطوة أخرى في الالتزام الروسي باستراتيجية أميركية تطال إيران وهي اللجنة الرئاسية الثنائية، والهدف منها كما توضحه وزارة الخارجية الأميركية بتحديد مجالات التعاون والسعي لتحقيق المشاريع المشتركة واتخاذ الإجراءات التي من شأنها تعزيز الاستقرار الاستراتيجي والأمن الدولي والرفاه الاقتصادي، كما استطاعت اللجنة أن تنتج اتفاقاً لمكافحة أسلحة الدمار الشامل.

على الرغم من العلاقات الاقتصادية المحدودة بين البلدين مقارنة بالصين ودول الاتحاد الأوروبي، إلا أن التجارة بين الطرفين شهدت تحسنا منذ العام 2010 عندما وصلت إلى 31,7 مليار دولار، أي بزيادة 35 في المئة عن السنة السابقة، كما ازداد حجم الاستيراد الأميركي من روسيا بنسبة 41 في المئة وصولاً إلى 25,7 مليار دولار في وقت ازدادت الصادرات إلى 13 في المئة فقط أي 6 مليارات دولار. صحيح أن الانخراط الروسي في الاتفاقيات الثنائية مع أميركا يدل على نوع من التكامل، إلا أن مؤشرات التكامل تبقى هشة وغير مكتملة بحدّ ذاتها لا سيما إذا ما قورنت بحجم مصادر التوتر المتزايدة بين الطرفين، وتحديداً في الشرق الأوسط في المرحلة الأخيرة، بسبب تزايد المنافسة بين روسيا والولايات المتحدة لا سيما على ملفات منطقة الشرق الأوسط. وكما يبدو انخرطت موسكو إلى أبعد حدّ في معارضة تغيير النظام سواء في سوريا أو إيران، مستبسلة في الدفاع عن موقعها في المنطقة والحدّ من النفوذ الأميركي.

– تطور العلاقات على خط موسكو – طهران: ساهمت روسيا تاريخياً بشكل أساسي في البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني وفي بناء ترسانة طهران العسكرية، ولكن العلاقات الطيبة بين البلدين تأثرت مع احتدام المنافسة الإيرانية مع أميركا في وقت كانت العلاقات بين الكرملين والبيت الأبيض تشهد تحسناً في أعقاب وصول باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة وإطلاقه سياسة «إعادة الضبط» في العلاقات الخارجية. إلا أن الدور الروسي شهد منعطفاً حاداً في الصراع الإيراني – الأميركي مع تغيّر الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، وتحديداً مع اندلاع الأزمة في سوريا والتهديد المباشر الذي يهدّد الحليف السوري، فضلاً عن المخاوف الداخلية والاتهامات الموجهة للغرب بالتدخل في الشؤون المحلية قبيل الانتخابات الرئاسية.

تشكل العلاقات الثنائية بين البلدين مزيجاً معقدّاً، فكل واحد من الطرفين يسعى للاستفادة من العلاقة مع الآخر في تعامله مع الولايات المتحدة. فروسيا تدعم إيران في تنافسها مع أميركا عندما تتصوّر أنها قادرة على التحكم بالسلوك الإيراني أو التنبؤ به. من جهتها، تشيد طهران بالدعم الروسي لكنها ترفض أن يملي الروس عليها ما تفعله وفقاً لمصالحهم وترفض في بعض الأحيان ما تعتبره مبالغة روسية. وحتى في العام 2009، عندما جنحت روسيا باتجاه الغرب أكثر بقي زعماؤها على علاقة طيبة مع إيران بفعل المنفعة المتبادلة.

في الواقع، الدافع الروسي وراء التعاون مع إيران هو تعزيز العلاقات التجارية في منطقة الخليج، الاستفادة من سياسات تصديرها للنفط والغاز الطبيعي لاحتواء نفوذ أميركا في الشرق الأوسط والسعي للحفاظ على نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق في بحر قزوين. كما تنظر إيران إلى روسيا تاريخياً كمورّد رئيسي للسلاح والتكنولوجيا النووية وكغطاء دبلوماسي في الأمم المتحدة كما بصفتها عضواً قوياً في دول عدم الانحياز.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى