مراجعات كتب

كيف زجّ الغرب سوريا في أتون الفوضى

 

الذين يحصدون العاصفة

ميشيل لودرز Michael Lüders

حامد فضل الله

صدر عن دار بيك الألمانية للنشر هذا العام ــ 2017 ــ كتاب تحليلي وغني بالمعلومات ومثير للجدل بالعنوان أعلاه للكاتب والصحفي الدكتور ميخائيل لودرز. فبعد كتابه الهام )زراعة الريح وحصاد العاصفة(، الذي وصَفَ وحلل فيه الآثار الكارثية للتدخلات العسكرية الغربية في الشرق الأوسط ، يتعرض في كتابه الجديد ــ من الحجم المتوسط ويضم 175 صفحة ــ الى خلفية الحرب في سوريا.

تسبق المقدمة ثلاثة استِشهادات تُدعم آراء وتحليلات الكاتب في المتن:

عندما يرفع السياسي صوته متفاخرا بكلام حول القيم، بدلا من أن يفصح علنا عن مصالحه، تكون لحظة مغادرته للقاعة قد حلّت.

إيجون بار (2015 ــ 1922) أحد قادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني

ليس لأمريكا أصدقاء أو أعداء دائمين، إنما مصالح فقط.

هنري كيسنجر

اتّخذ الفضيلة إن لم تكن تتحلّى بها

هاملت

يكتب لودرز في المقدمة “إن الحديث عن الحروب لا يختلف عن حديث القصص. تهيمن بعضاً منها على الصورة في أذهاننا ورؤيتنا للصراعات. فنحن نعرف أو نعتقد بأننا نعرف، من هو البريء ومن هو المذنب، من هم الأخيار ومن هم الأشرار. في حالة سوريا فالرأي السائد: ان نظام الأسد الاجرامي يخوض حربا ضد شعبه، بمساعدة حكام عديمي الضمير في موسكو وإيران. اما المعارضة السورية، وغالبا ما يشار اليها “بالمعتدلة” أو تُعتبر ممثِلة الشعب السوري بالمطلق، فتعيش في صراع يائس من أجل الحرية ولا يمكن للغرب ان يتجاهله، خلاف ذلك تصبح مصداقيته على المحك، بالتخلي عن “قيمه”، بل خيانتها، مما يفرض على الولايات المتحدة الأمريكية التدخل العسكري المبكر دفاعا عن الحرية.

إن جرائم الأسد واضحة ولا مجال لإنكارها، ولكن الاتهام الأخلاقي ليس بديلاً عن التحليل السياسي. تنحصر التقارير عن سوريا في عرض المعاناة الاِنسانية نتيجة حرب الأسد وحلفائه الروس. ولكن مسؤوليتهم عن الدمار والموت ليست سوى جزءاً من القصة. مع التعاطف العظيم مع معاناة الشعب السوري، فالحرب تذهب الى ما هو أبعد من الأسد. وهذا بالضبط هدف الكتاب، فهو يحكي الأجزاء المفقودة من القصة والتي تلعب دوراً ثانوياً فقط في السياسة ووسائل الاِعلام “.

يبدأ الفصل الأول بعنوان لافت “وكالة المخابرات الأمريكية تتعلم على السير في الصحراء، محاولات الانقلاب (ليست فقط) في سوريا منذ 1949″، مشيرا الى قدوم المبشرين الأمريكيين البروتستانت في بداية القرن التاسع عشر الى “الأرض المقدسة”، وبالرغم من فشلهم في تحقيق أي نجاح يذكر في مجال التنصير، إلا انهم عبروا عن اعجابهم واحترامهم للثقافة العربية والاسلامية، وقاموا بإدارة العديد من المدارس والمؤسسات التعليمية وانشاء كلية ــ البروتستانت السورية والتي تحولت لاحقا الى الجامعة الامريكية في بيروت، وفرعها “الجامعة الامريكية في القاهرة، ولا تزالان من ابرز المؤسسات التعليمية حتي الوقت الحاضر. ويستطرد الكاتب “من المفارقات إن كلتا الجامعتين اصبحتا في الخمسينيات والستينيات مهد وحصن القومية العربية، الخصم والمعارض الشديد للهيمنة الامريكية”. وكانت الولايات المتحدة الامريكية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تُعتبر بالنسبة لمعظم العرب حاضنة للوعد والأمل. بدأ اهتمام امريكا بالشرق الأوسط، سياسيا واقتصاديا بعد عام 1915 عندما تم اكتشاف البترول خارج ايران وخاصة في دول الخليج الحالية والعراق. اما عمل المخابرات الامريكية فقد بدأ لأول مرة في المنطقة العربية في الحرب العالمية الثانية. يقول الكاتب: للوهلة الأولى قد يبدو من المستغرب، إن الذي يتعامل مع سوريا، يجب عليه ان يتعامل مع المخابرات الامريكية ايضا.

تغيير النظام Regime change)) هو الوجه الحديث للممارسة الكلاسيكية لقلب نظام الحكم.

بدأت أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية باستخدام مخابراتها للتخلص من السياسيين والانظمة التي تقف ضد مصالحها. ويذكرنا الكاتب: بانقلاب 1949 ضد شكري القوتلي الرئيس السوري المنتخب ديمقراطيا، وانقلاب 1953 ضد محمد مصدق في إيران، والانقلاب ضد الرئيس اليندا في شيلي 1970، صعود بول بوت في كمبوديا، تفكيك الدولة في الكونغو ومحاولة تدبير انقلاب ضد جمال عبد الناصر او اغتياله، واغتيال السفير الامريكي في القنصلية الامريكية ببنغازي، وهى ليست قنصلية كما يقول، وانما في الواقع موقعاً سرياً تحت رعاية المخابرات الامريكية، لمد المعارضة السورية بسلاح القذافي لتغيير النظام في سوريا. ملابسات القضية لا تزال مغيبة أو بالأحرى ممنوعة من النشر.

يقوم لودرز في فصل أخر بسرد تاريخي وتحليلي للتطورات السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط والعالم العربي، وهى مادة غنية وهامة تساعد القارئ الألماني لفهم وترابط التطورات السياسية في العالم العربي، وخاصة في سوريا الآن، نعرضها هنا بتكثيف شديد، فهو تاريخ حديث ومعروف للقارئ العربي المطلع.

يشير الكاتب الى انهيار الاِمبراطورية العثمانية وتقاسُم ولاياتها العربية بين بريطانيا وفرنسا حسب اتفاقية سايكس ــ بيكو عام 1916، ثم حركة التحرر الوطني من الاستعمار وتكوين الأحزاب السياسية. وحركة الاصلاح الاسلامية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، التي لم تتمكن أن تسود ضد الأرثوذكسية، واقتصرت على الأوساط الفكرية فقط، والمد الثوري وشخصية عبد الناصر الكاريزمية وحرب السويس، والهزيمة العربية في حرب يونيو 1967 ونتائجها بعيدة المدى، سياسيا ونفسيا. وضعف القومية العربية التي اصبحت في دمشق مجرد فولكلور لحزب البعث، وبموت عبد الناصر 1970، اصبحت في القاهرة جزءاً من الماضي. ويكتب عن ظاهرة الانقلابات العسكرية المتكررة في بعض البلدان العربية وحكم الجنرالات، واعتماد العسكر على نخبة (الأفندية) ورجال الاعمال (القطط السمان) وانتشار الفساد والمحسوبية.

جاء انقلاب حافظ الأسد في نوفمبر 1970 بعد فترات من عدم الاستقرار السياسي، ليضع نهاية للانقلابات العسكرية في سوريا، ويبسط مع أسرته وطائفة العلويين وحلفائه من ملاك الأراضي وطبقة التجار، سلطته على جميع مفاصل الدولة وبقبضة أمنية حديدية، بلغت ذروتها في مأساة الاِخوان المسلمين (حماة 1982).

تولى الشاب بشار حافظ الأسد السلطة عام 2000 بالوراثة واُعتبر بارقة أمل؛ وكانت لديه الشجاعة لإجراء الاصلاحات الضرورية العاجلة. وقام بالفعل بإصلاحات في مجال الاقتصاد وخصخصة المصانع الحكومية والنظام البنكي وتعويم العملة وفتح المدارس الخاصة وشجع المواطنين على الانفتاح والمشاركة في الحياة العامة … ويستطرد الكاتب “الذي يسعى الى اصلاحات جادة عليه ان يمارس سياسة أخرى وادارة وموظفين جدد، وليس بالحرس القديم الذي لن يتنازل عن سلطته ومصالحه”. وتوقف الاصلاح.

عندما بدأت في يناير وفبراير 2011 الاحتجاجات العفوية السلمية من الشباب مستوحاة من الثورات في شمال افريقيا، للفت الانتباه الى المشاكل الاجتماعية، وتفشي الفساد والمطالبة بالإصلاح من داخل النظام، وعلى وجه الخصوص السيطرة على الأجهزة الأمنية المكروهة، فبدلا من التفاعل بعقلانية، تعامل معها البوليس بعنف وحشي، مما قاد الى احتجاجات في عموم المدن السورية، لتتحول الى حرب أهلية ثم الى حرب بالوكالة. الصراع في سوريا لا يدور حول القيم، وانما حول المصالح، فالجغرافية السياسية هي المفتاح الذي يشرح، كيف يمكن ان تتحول انتفاضة جزء من الشعب السوري ضد نظام الأسد الى حرب تشارك فيها كل من امريكا وروسيا، ايران والسعودية وتركيا من أجل السلطة والنفوذ.

ويقول الكاتب “نصف الشعب السوري يؤيد نظام الأسد”. وجهة نظر يصعب قبولها بعد الدمار والخراب والقسوة التي تعامل بها النظام مع الشعب والمكابرة والمراوغة من أجل تسوية سلمية، كلما حقق نصرا عسكريا موقتا، دون ان ننكر، بان بعض الاقليات، مثل الأكراد والمسيحيين، يؤيدون النظام ليس حبا وانما خوفا من الآتي. ويتابع الكاتب “بشار الأسد يمكن اعتباره بالتأكيد من المجرمين. ولكن هل جورج دبليو بوش، دك شيني، بول فولفوفتز، توني بلير ونيكولاس ساركوزي … حقا أفضل بكثير؟ الذي يدمر بلدان أخرى بشكل منهجي ومتعمد، ينبغي عليه أن لا يتفاجأ عندما تنفجر القنابل أمام فنائه. إن الإشارة الى هذا الموضوع لا تبرر الارهاب، ولكنها تساعد على تفسيره”. “ان سياسة القوة التي تمارسها كل من موسكو، طهران أو بكين، لا أكثر ولا أقل قسوة من سياسة الغرب، اما تصنيفها بين (خيّر) (وشرّير)، حيت (نحن) بالطبع من الخيرين، يصل الى حدود استغفال الشعب وغسل الدماغ”.

وفي فقرة لافتة “الحروب مثل تلك الموجودة في سوريا أو العراق لا تنتهي، لا تتلاشى، انها لا تعرف نهاية سعيدة. وتخضع لتحولات وتتخذ اشكالا جديدة. وبالمناسبة لا توجد في نهاية المطاف مصلحة حقيقية لهزيمة الدولة الاِسلامية (داعش) الى الأبد، فهي توفر القاسم المشترك لجميع قوي التدخل ــ فهو العدو الرئيسي بالخارج والمبرر للوجود على الساحة”. يعيب بعض المعارضين السوريين على الكاتب دفاعه عن نظام الأسد، الفاسد والمجرم والمرتهِن لقوى خارجية. هذه نظرة ضيقة. فلودرز معروف بآرائه الجريئة واستقلاليته، فقد اختار لنقسه ان يكون كاتبا حرا لا تقيده سلطة حزبية أو مؤسسية. ومشهود له بدقة ابحاثه وتوثيقها، ويعتبر واحداً من أبرز الصحفيين الألمان الأكثر اطلاعا في مجال السياسة الأمنية الدولية. فالاختلاف حول تحليلاته ونتائجها وارد، اما شبهة التواطؤ مع نظام الأسد غير مقبولة والنص يفندها.

هل هناك مخطط مراوغ ومدروس بدقة من الغرب لتفكيك بلدان الشرق الأوسط وافريقيا، بإثارة الحروب الأهلية والنعرات العرقية والأقليات الدينية والقومية ومساندة التنظيمات المسلحة المتطرفة، لإعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات ضعيفة ومتصارعة والتحكم في المواقع الاستراتيجية والسيطرة على ثرواتها وتأبيد التبعية؟ وهل تختلف روسيا عن أمريكا والاتحاد الأوروبي؟ فروسيا البوتونية ليست الا دولة امبريالية بمعنى الكلمة، حسب تحليلات بعض الكتاب العرب، وهى تجر من خلفها الصين، الراضية بموقفها في الظل، ما دامت تجني بصمتها ثمار مصالحها. مثل هذا التساؤل وغيره ينبع من القراءة المتأنية للنص الصغير وتاركا في نفس الوقت للقارئ وجع الاجابة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Lüders: Die den Sturm ernten. Wie der Westen Syrien ins Chaos stürzte: Verlag. 1 C. H. Beck ,München 2017

د. ميشيل لودرز من مواليد 1959 درس الأدب العربي في دمشق، والدراسات الاِسلامية والعلوم السياسية والصحافة في برلين.

الكلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى