صفحات مميزة

كيف فقد النظام السوري البوصلة التاريخية للشرعية


د. وائل مرزا

‘إن كنت لا تريد أن تعرف الحقيقة، فإن أحداً لن يعلمك إياها’، بهذه العبارة أجابت زوجة بلاطس البنطي، الحاكم الروماني لليهود في أيام المسيحية الأولى، رداًعلى سؤاله لها إن كانت تعرف معنى كلمة ‘الحقيقة’ التي وصف السيد المسيح بهانفسه، عندما سأله بلاطس ‘من تكون؟ هل أنت حقاً ملك اليهود، كما يقولون؟ ‘ فأجابهالمسيح: ‘أنا هو الحق’.

من الواضح أن النظام السوري لا يريد أن يعرف الحقيقة حين يتعلق الأمر بأسباب فقدانه للشرعية التي كان يعتقد أنها تاريخية. والشاهد الأكبر على ذلك ما نراه من دلائل عقلية الإنكار التي حاصرت وتحاصر النظام بشكل عام، وفي المقدمة رأس الهرم فيه، فيما يتعلق بهذه القضية.

ثمة مؤشرات عديدة بات يعرفها المتابعون في هذا المجال. فمنذ بداية ربيع الثورات العربي كان النظام يتصرف بكل قناعة بأن الربيع المذكور سيكون أولاً في مصلحته وأنه سيؤكد مشروعيته، وثانياً، بأن أمواجه لن تصل إلى ضفافه وشواطئه، وتحديداً للسبب الأول. فضلاً عن ذلك، تواترت الأخبار سراً وعلناً عن ترحيب النظام بأحداث ذلك الربيع، وقد كان بِسَاستهِ وإعلامهِ في مقدمة المحتفين بسقوط بن علي ومبارك على وجه الخصوص. فوق هذا، جاء خطاب الأسد الأول، بكل دلالاته المعبّرة على أكثر من صعيد، ليُظهر أول مايُظهر قناعته الكاملة بامتلاك المشروعية، ولم يكن له أن يظهر بذلك الشكل المُعيب الذي لاينسجم مع أسلوبه السابق في ممارسة الخطاب العام، لولا يقينه الداخلي بأن مايجري في سورية، وقتها، لم يكن أكثر من زوبعةً في فنجان، أو مشهداً هزلياً عابراً يستحق ضحكاته الغريبة آنذاك. الأهم من هذا كله، مانقله العديد من الدبلوماسيين وزوار دمشق من الساسة العرب والأجانب عن قناعة الأسد بأن ‘مشروعيته’ التاريخية هي سلاحه الأكبر في مواجهة الأحداث، وأنها ستكون السياج الذي سيحميه ويحمي نظامه من أي تأثيرٍ سلبي حقيقي وعميق.

والحقيقة أن الرجل أفلح، إلى ما قبل أسابيع، في إقناع البعض ممن حاورهم بتلك المقولة، وأقنع معهم قطاعاًمن أطراف النظام الدولي والإقليمي السياسي والإعلامي، أضافةً إلى لفيفٍ من المثقفين والمفكرين العرب.

لكن مافات النظام، رغم كل مايُقال عن حنكته السياسية، أن مشروعيته كانت مبنيةً بشكلٍ أساسي على المعادلات السياسية السائدة في المنطقة العربية قبل ربيع الثورات العربي. فقد كان الجميع، داخل سورية وخارجها، يعلمون أن مدخل تلك المشروعية يتمثل في السياسة الخارجية. وأن النظام أتقن استغلال وزن سورية من مدخل الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكس)، وهو موقعٌ لافضل له ولالغيره فيه. ويمكن لأي نظامٍ يمتلك حداً أدنى من الذكاء السياسي أن يوظفه لتأكيد دور سورية.

نقول هذا لنزيل أولاً بعض الأوهام السائدة لدى البعض بأن النظام،الذي يبدو في طريقه للزوال، كان يمتلك بحدّ ذاته درجةً كبيرة من الذكاء السياسي، ولنؤكد بعد ذلك بأن النظام القادم يمكن له أن يوظف ورقة (موقع سورية الاستراتيجي) بشكلٍ يحققُ مصالحَ سياسية واقتصادية فعليّة للشعب السوري والعربي، بدلاً من استخدامها ورقةً للمناورة السياسية البحتة التي تنحصر في تحقيق مصالح النظام وبقائه واستمراره. ونَذكرُ تلك الحقيقة ثانياً لنؤكد بأن النظام القادم يستطيع توظيف الورقة المذكورة بكل مقتضياتها لتأمين درجةٍ من التوازن والاستقرار في المنطقة، تكون بوصلتُها مطالب الشعب السوري وطليعته الشابة، والتي أصبح واضحاً أنها تمتلك القدرة على إفراز رؤيةٍ سياسية لاتتضارب فيها مقتضيات المبدئية مع متطلبات الواقعية في كل مجال.

كانت المشروعية السياسية للنظام كما ذكرنا إذاً تتمحور حول سياسته الخارجية، وكان نجاحها مرتبطاً بمعادلات المنطقة قبل ربيع الثورات العربي. فما الذي حصل وغيّر المعادلة بشكلٍ جذري يجب أن ينتبه إليه الجميع، وفي مقدمتهم القوى الإقليمية والعالمية؟

لقد ألغى سقوط مبارك ونظامه في مصر، وحدهُ وقبل أي شيءٍ آخر، جزءاً هاماً من شرعية نظام الأسد. فنحن نعرف جميعاً أن النظام الدولي قرر تقسيم المنطقة إلى معسكري الاعتدال والتطرف. وأن النظام السوري وجدها فرصةً ليلبس عباءة هذا المعسكر الأخير،وأنه التقط الخيط ليؤكد توظيفه للعبة المعاني والمفاهيم من خلال رفع شعار (الممانعة والمقاومة)، بحيث يفرض حضوره من خلالها. ولشرح ماجرى، سنستعير بضع فقرات في غاية الأهمية من بحث للدكتور وليد سيف كتبه في مقامٍ آخر.

يقول الدكتور: ‘بالمعاني والمفاهيم يتمثل العالم في وعينا.. والتفاعل الاجتماعي والإنساني ليس ممكنا بغير منظومات المعاني والمفاهيم المشتركة التي نُعرّف بها الأشياء والوقائع، ونُؤوّل بها المواقف، ونبني بها روايتنا عما جرى ويجري… ومن ثم فإن تأويلاتنا وتعريفاتنا للأشياء والوقائع يمكن أن تتضارب بتضارب الأغراض والمصالح والمقاصد. إذ يسعى كل طرف من أطراف التفاعل إلى استدعاء المعاني التي تخدم أغراضه لتعريف الوقائع والأشياء وتأويلها، ويفاوض بصورة مضمرة أو معلنة لفرض تعريفاته وتأويلاته… ولكن التنازع على التعريفات والتأويلات لا يجري بصورة متكافئة. هنا تتدخل علاقات القوة بكل تجلياتها المادية والمعرفية والروحية والسياسية، ليتمكن الطرف الأقوى من فرض تعريفاته وتأويلاته وتوصيفاته على عقول الآخرين. وبذا يتمكن من السيطرة على العقول والأفئدة، وتشكيل نظرتها للعالم وإدارة سلوكها واستجاباتها بناءً على ذلك. هكذا يتشكل خطاب القوة Discourseورواية القوي Narrative. المعاني والخطابات بهذا المفهوم ليست مجرد تمثيل للواقع، بل هي الواقع نفسه كما يتمثل في عالم الوعي والتصورات. وتغيب المسافة بين ثنائية الأسماء والأشياء، أوالدوالّ والمدلولات، لتصير الأسماء هي الأشياء بقدر ما تتعرف الثانية بالأولى. وبذلك يكون الصراع على المعاني والخطاب هو الصراع على العقول والمدركات، وهو في آخر المطاف الصراع على امتلاك الواقع وتشكيله’.

امتلك النظام السوري إذاً في المرحلة السابقة زمام السيطرة على صراع العقول والمدركات من خلال التركيز على حصريّة تمثيله لمعاني المقاومة وخطابها. ومن هنا، اتّسعت دائرة شعبيته، وليس فقط مشروعيته السياسية، في أجزاء كبيرة من الوطن العربي، إن لم يكن فيه بأسره. بل إن تلك الشعبية والمشروعية امتدّت لتشمل مساحةً مُقدّرة من العالم الإسلامي. والمؤكد أن هذا يُفسّر الصدمة المتزايدة في أوساط العرب والمسلمين تجاه موقف النظام ومايجري في سورية، وتحديداً تجاه موقفه الدموي العنيف من ثورة الشعب السوري. ومرةً أخرى، لنا أن ندرك التأثير الخطير لعملية السيطرة على المعاني والمفاهيم في مجال السياسة.

بكلماتٍ أخرى، كان وجودنظام مبارك بصورته المعروفة وتعريفه السياسي ضرورةً ملحةً وشرطاً أساسياً لتأكيد ضرورة وجود نظام الأسد بصورته المعروفة وتعريفه السياسي. لانتحدث هنا عن مؤامرةٍ أو توزيع أدوار كما قد يظنّ البعض، وإنما عن واقعٍ ونظامٍ سياسي عربي ممزق ساعدَ نظامَ الأسد على تلبّس حالة (الممانعة)، والانتفاع من أي شرعيةٍ تُضفيها. لكن سقوط نظام مبارك غيّر المعادلة بشكلٍ كبير، وتعمّق التغيير مع نجاح الثورة المصرية وظهور ملامح فكرٍ ودورٍ سياسي مختلفين لمصر الجديدة.

لم يفهم النظام السوري بشكلٍ دقيق الكمون الاستراتيجي الهائل في الصورة المذكورة ولم يدرك دلالاتها القادمة، ووقعت في نفس المطبّ للأسف بعض القوى الإقليمية..

بقيهذا الوضع سائداًفترةً قصيرة فقط، ثم اشتعلت الثورة السورية فجاءت بمثابة الضربة القاضية التي أجهزت على المشروعية السياسية للنظام.

كان أول ماأنجزته الثورة في هذا المجال، أنها صححت صراع المعاني والمفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الشرعية السياسية للدولة، وفيما يتعلق بمصادرها على وجه التحديد. لقد فعلت الثورة تحديداً ماذكره وليد سيف حين قال: ‘.. ولكن خطاب القوة والسيطرة يخلق شرط الإمكان لتشكُّل خطابات المقاومة، في لحظات تاريخية مفصلية، تتمكن فيها الأطراف المقهورة من التحرر من إكراهات الخطاب السائد وكشف آليات التحكم والسيطرة التي يمارسها’.

فبعد سيطرة نظام الأسد في ذلك الصراع ونجاحه في حصر المفهوم في مجال السياسة الخارجية، استحضرت الثورة السورية المعنى الكلّي للمشروعية السياسية وواجهت به النظام نفسه، ومعه العرب والعالم. إذ أعادت تذكير العرب شعوباً وحكومات، بأن السياسة الداخلية جزءٌ لايتجزأ من مفهوم المشروعية السياسية لأي دولة، بل أعادت التذكير بأن النجاح فيها على جميع المستويات هو الأصلُ في منح المشروعية لأي نظامٍ سياسي. أما بالنسبة للنظام الدولي الذي كان يُفترض أنه يعرف تلك الحقيقة، لكنه يتجاهلها لأسباب متنوعة، فقد اضطر إلى الحركة، وإن على استحياء، من مدخلها وبسبب تصاعد الفعل الثوري الهائل الذي أظهره الشعب داخل سورية.

المفارقة هنا، أن النظام السوري الذي كان قد ألغى فكرهُ السياسي أي مقاربةٍ لمدخل المشروعية من خلال السياسة الداخلية لم يكتف بعدم الانتباه لهذا التطور الجديد ولم يبادر لاستيعابه مبكراً، بل إنه زاد بممارساته في إظهار دوره وتأكيد أهميته، وذلك من خلال ردّ فعله الدموي العنيف على ثورة الشعب السوري.

هكذا، أصبح السوريون والعرب والعالم بأسره أمام نظامٍ لم يكتف فقط بإظهار فشلٍ سياسي شامل في الإدارة الداخلية على مدى عقدٍ كامل، تحولت فيه تركيا المجاورة مثلاً من شبه جمهورية موز إلى قوةٍ عظمى، وإنما أصبح الجميع أيضاً أيضاً في مواجهة نظامٍ يقوم بمواجهة ثورة شعبه السلمية المشروعة، وبطريقةٍ فيها من العنف والدموية مالم يشهد له التاريخ المعاصر مثيلاً.

لكن الثورة السورية لم تقف في مسيرتها لخلع مشروعية النظام عند هذا الحدّ فقط، وإنما تجاوزت ذلك لتساهم بشكلٍ مباشر وغير مباشر حتى في نزع ماتبقى من مشروعية استمدّها سابقاً من السياسة الخارجية، وبشكلٍ فيه الكثير من العبقرية الجماهيرية العفوية.

فمن ناحية، جاءت هتافات المتظاهرين المعبّرة تملأ سماء سورية بالتساؤلات عن مصير الجولان، وتطلب من شقيق الأسد توجيه دباباته إليها بدلاً من درعا والرستن وجبلة وجسر الشغور. وذكّر الثوار، ومعهم كُتّابهم ومثقفوهم الجميعَ بأن الشعب نفسه هو الذي كان الحاضنة الحقيقية للمقاومة. ومن ناحية أخرى، جاء ارتفاع المدّ الثوري وضغطه الشديد ليدفع رامي مخلوف، بموقعه المعروف في النظام، إلى إطلاق تصريحاته بشأن ارتباط أمن إسرائيل بأمن سورية في واحدةٍ من أكبر سقطات النظام خلال الثورة.

ثم إن هذا المدّ نفسه هو الذي دفع شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني وكتابه ومفكريه إلى رفض عملية خلط الأوراق بين موقف النظام من شعبه الثائر وموقفه من المقاومة. ويكفي في هذا المقام كنموذجين مثاليين موقف المفكر عزمي بشارة والإعلامي عبد الباري عطوان بكل مافي الموقفين من دلالات.. وأخيراً، بدأت تتضّحُ للجميع دلالات (الصبر) الأسطوري لأوروبا وأمريكا على ممارسات النظام السوري بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على ثورة الشعب حتى الآن.. في مقابل موقفها الحاسم توقيتاً ومضموناً من مبارك،والذي كان الجميع يعرف مقامه لدى النظام الدولي. حتى أصبح من المفارقات أن يبدو وكأن ذلك النظام الدولي هو الآن أكبر مظلةٍ تحمي نظاماً يعيش على شعار(مقاومته وممانعته).

انتهى الصراع إذاً على مفهوم المشروعية فيما يتعلق بالنظام السياسي في سورية من جميع المداخل. وخسر النظام كل أوراقه الداخلية والخارجية.

لن يقوم أحدٌ بتعريف النظام السوري بهذه الحقيقة لأنه لايريد أن يعرفها، تماماً كما قالت زوجة الحاكم الروماني بلاطس البنطي، وقبل هذا وبعده، كما تبيّن من خطاب الأسد الأخير. لكن من الضرورة بمكان أن تدرك القوى الإقليمية تحديداً، والقوى الدولية بشكلٍ عام، هذه الحقيقة الهامة.إذ لايريد أحدٌ من اللاعبين في تلك القوى أن يأتي يومٌ تنتصر فيه الثورة السورية، كما توحي جميع المؤشرات، ويبقى الانطباع سائداً في أوساط الشعب السوري أنها، فيما عدا استثناء أو اثنين، لم تقف معه في محنته التاريخية، وأنها وقفت مع النظام الزائل على طول الخط، وأحياناً رغم كل ما بينها هي نفسها من تناقضات.

‘ أكاديمي عربي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى