صفحات سوريةغازي دحمان

كيف فككت «المقاومة» المشرق /غازي دحمان

لعل إحدى أهم المفارقات الغريبة، في المشرق اليوم، تتمثل بأن الجهة التي طالما أدعت تبنيها للمقاومة في المنطقة، وقدمت التضحيات للدفاع عن وحدة وسلامة الإقليم، هي ذاتها الجهة التي أسست لتفكيك المنطقة، وشرذمتها، ووضعها في عين الإعصار، الذي يهدد بزوال كياناتها إلى الأبد.

على مدى خط المقاومة، الممتد من إنطاكيا إلى رفح، والمتعرج حديثاً إلى العراق، يلوح شبح التقسيم والتفكك. وبالتوازي مع هذا الخط، يتمزق النسيج الوطني للبلدان الواقعة على تماسه، حيث تنفجر الأزمات تباعاً، وتصبح المكونات كارهة لبعضها البعض وللعيش المشترك، طالبة للانفكاك وكأنه الخلاص المنتظر، حتى لو كلّفها ذلك اللعب على حافة الهاوية وعلى حبال مهترئة!

والأصل في المقاومة، أو تاريخها العالمي يخبر، أنها تمنح دينامية جديدة لمجتمعاتها، وغالباّ ما تنقل تلك المجتمعات من حالات السكون واللافعل إلى حالة الحركة والفعالية. يساعد في ذلك، الشعور الجمعي الوطني، الذي يزداد انتعاشاً، مثلما يترسخ وحدة وتماسكاً، ويعكس تلك الفعالية على المجتمع الوطني بكافة تلويناته وأطيافه، على الأقل هذا ما يوحي به تاريخ «الحركة الوطنية اللبنانية» حينما قاد الحزب الشيوعي، واليسار اللبناني، حركة المقاومة ضد المحتل الإسرائيلي، حين أثبت هذه المعادلة ورسخها في الواقع اللبناني.

ترى، ما الذي حصل وجعل مفاهيم المقاومة تتغير، ومعانيها تختلف، ومفاعيلها تنقلب بهذا الشكل المأساوي؟ وأية مقاومة تلك التي تحقق أهداف العدو، كما يخطط لها ويريدها، بأقل التكاليف وأبخس الأثمان؟ وهل ما زال ممكناً تسميتها «مقاومة» رغم كل الانحرافات، النظرية والعملانية، التي طالت سلوك المقاومة وسياق عملها؟

يشير تاريخ المقاومة المشرقية إلى حقيقة لافتة، وهي أن المقاومات في الغالب ذات طابع شعبي وعفوي، وان عمليات التنظيم والتأطير والتنظير هي حالة لاحقة على العمل المقاوم، ما يعني خلو تلك الحالة من أي نزعة أيديولوجية مسبقة، سوى النزوع المقاوم، وهو الأمر الذي يضمن انتشار الفكر المقاوم واختراقه لمختلف التكوينات الاجتماعية والسياسية، وهذا الأمر حصل في الثورة الفلسطينية، مع ظهور حركة «فتح»، التي حققت انتشاراً واسعاً بين الفلسطينيين والعرب بسبب تلك الميزة، وحصل في المقاومة اللبنانية، التي وبالرغم من قيادة الحركات والأحزاب اليسارية لها، إلا أنها ظلت من الناحية العملانية منفتحة على كل القوى والفعاليات، ما ضمن انضواء الآلاف من العناصر غير المنتمية سياسيا تحت أجنحتها، واستوعبت في أطرها الشباب المتطوع من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق.

وقبل هذا التاريخ، تشكلت حركات مقاومة الاستعمار في سوريا والعراق من الخليط الوطني، ومن دون وجود إطار أيديولوجي، بل أن بنية محفزات المقاومة اقتصرت على مبادئ بسيطة وقيم أولية من نوع الدفاع عن الكرامة وإغاثة الملهوف وسواها من الاعتبارات الوطنية، ورغم ذلك تشّكل فعل مقاوم وبنية معقدة ومتكاملة استطاعت إنجاز أهدافها، على بساطة الأدوات المستخدمة، وفي ظل الشروط الصعبة في حينه.

ويشير تاريخ المقاومة في المشرق العربي، إلى أن مفهوم المقاومة انحرف نتيجة هندسة دقيقة وجراحة إستئصالية أجراها «الرفيق المناضل» حافظ الأسد، في عقل المقاومة وعلى جسدها، فعمل على تغيير ميكانيزمات تشغيلها، وعبث بخريطة الجينات الأساسية المورثة لها والخلايا المكونة لها أيضاً، ما نتج عنه كائنا هجيناً مشوهاً. في الشكل له هيئة المقاومة، وفي الفعل مجرد كيان استبدادي، ينطوي على منظومة كاملة للحكم والاستبداد، ويخلو من أي عنصر من عناصر المقاومة الفعلية، مقاومة تعمل وفق التحكم بها عن بعد، حيث يمكن تشغيلها على موجة أهداف سياسية لا علاقة لها بالوضع الذي نشأ لأجله الكيان المقاوم، كما يمكن توظيف فعلها في إطار صراعات ومساومات، بعيدة كل البعد عن الإطار الذي تقع فيه تلك المقاومة. ربما هذا الأمر يشكل لغز عبقرية الأسد الإستراتيجية، الذي دمّر مقاومات المشرق السابقة، وصاغ مقاومة على مقاس عقله السياسي وأهدافه بعيدة المدى.

منذ ذلك الحين، صارت المقاومة تعني نخبة مختارة على صعيد طائفي أو مناطقي. حصل ذلك في لبنان وفلسطين والعراق، أما سوريا فقد انتهت بوصفها رديفا دائما للثورات، على المستوى الشعبي، وشيئاً فشيئاً، تحولت المقاومة بقواها المختلفة إلى عنصر من عناصر عدم الاستقرار، وذلك من خلال نزوعها إلى التحكم بمصائر البلاد ومحاولة اختطافها للعملية السياسية أو إخضاعها بما يتناسب ومصالحها، وانتهت إلى محاولة قهر الشريك الوطني والتعامل معه بوصفه إرثا من مورثات الزمن الإحتلالي، أو مجرد مقتنيات يجري المحافظة عليها من عدو افتراضي في الغالب، أحيانا يكون إسرائيل كما هو في الحالتين اللبنانية والفلسطينية، وفي الغالب هو عدو ملتبس لا ملامح له وقد يضيق هامشه إلى حجم شخص واحد، مثل الجنرال ميشيل عون، في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وتصوير النظام السوري له على انه العدو الأساسي لسوريا، وقد يتسع بما يضمن شطب قارة بحجم أوروبا، أو حتى العالم كله المشارك في الحرب الكونية على سوريا.

ثوب المشرق ضاق إلى درجة انه لم يعد يتسع لشعوبه ولمخلفات حافظ الأسد معاً. الزمان تغير، وما عاد ممكناً التعايش مع تلك الأنماط الغريبة عن حاجة الشعوب وتطلعاتها. وقد ثبت ان الشعوب تفضل الموت، وتتحمل كل تبعات الثورة على تلك الأقفاص (الإستراتيجية). وبالتالي، فهي تتحمل أيضا ما دون الموت أشياء كثيرة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى