صفحات الرأينجيب جورج عوض

كيف نفكر في الأمر: سؤال ‘الثورة’ على طريقة ميشيل فوكو/ نجيب جورج عوض

 

 

بدأت الأوساط العامة والثقافية في العالم منذ فترة وجيزة تسأل علانية وبتكرار ملحوظ عمّا إذا كانت ثورات الربيع العربي ضرورية حقاً؟ وما إذا كان الافتراض القائل بأنه لم يكن هناك مفر من حدوثها افتراضا صحيحاً؟ وهل كانت ثورات الربيع العربي أمراً مرغوباً به يتوق الشارع العربي له حقاً؟ وبنفس الوتيرة نلحظ أيضاً تزايداً مطّرداً في أوساط السوريين النازحين والمهجّرين في الأرض وحتى في ظهرانين المعارضين بينهم للنظام والداعمين للثورة السورية تساؤل يتنامى حول فائدة قيام ثورة في سوريا وحول ما إذا كانت مسألة الثورة على النظام أمرا لم يكن هناك مفرّ منه؟ وما إذا كانت الثورة أمراً مرغوباً حقاً من الشارع السوري، أم أنها أمر فُرضَ عليه خلافاً لإرادته ورغبته العميقة والواقعية؟ كلها أسئلة عميقة ومهمة جداً، وبتصوري أنَّ الشارع الفكري والثقافي العربي يجب أن ينشغل بها ويعمل على التنظير حولها في السنوات القادمة. وما مقالتي القصيرة هذه سوى مساهمة بسيطة في عملية التفكر هذه.

في عام 1979، وفي سياق اندلاع الثورة ضد نظام الشاه البهلوي في إيران، كتب الفيلسوف الفرنسي التفكيكي ميشيل فوكو مقالاً طويلاً نشرته له جريدة اللوموند الفرنسية في الحادي عشر من شهر أيار ذاك العام بعنوان “هل من العقيم أن نقوم بثورة؟”، يتأمل فوكو في هذا المقال في فكرة الثورة وفي تأريضها التاريخي والسياقي الأنثروبولوجي محاولاً اكتناه جذوره المسببة وإرهاصاته وتداعياته الناتجة سوسيولوجياً وإبستمولوجياً (كعادته في كل مشروع تفكيكي ينخرط فيه). ومع أنَّ فوكو يفعل هذا من خلال تأمله في الثورة الإيرانية بالذات، إلا أنَّ خلاصاته التفكيكية التي يقدمها في المقال تصلح برأيي لتقودنا في رحلة تفكيك مشابهة للثورة السورية وربما لثورات الربيع العربي برمتها.

يبدأ فوكو (أيضاً كعادته) عملية تركيبه لبنية تفسيرية تحلل ظاهرة الثورة بنقضه أولاً للافتراض (الحداثوي الفينومينولوجي بطبيعته في الحقيقة) القائل بأنه يمكن التعامل مع مسألة “الثورة” كحالة موضوعية قائمة بذاتها يمكن مقاربتها كما نقارب البنى المادية الكائنة أمامنا والمنتظرة لنا كي نعطيها معناً وتعريفاً ماهوياً وقواعد وجود.

خيار الثورة أحجية غامضة لا تسمح بطبيعتها ولا حتى للثائر نفسه بأن يقول إن خياره “صحيح” أو إنه “بريء” أو إنه “خيار سيحقق الوعد المرجو”. ولهذا لا يتوجب علينا من حيث المبدأ، بقول فوكو، لا أن ندعم هذا الخيار ونتكاتف معه، ولا أن ندينه

يفكك فوكو هذا الافتراض القبلي موجهاً أنظارناً إلى حقيقة أنه لا يوجد شيء موضوعي جامد قائم بذاته اسمه “ثورة” يتموضع أمامنا وينتظر مبضعنا التفسيري الإبستمولوجي كي نُعمِلَه فيه. الثورة هي من قام بها؛ هي البشر (أفراد وجماعات) الذين قاموا بها؛ الثورة هي “الثائرون”. وبما أنَّ الثورة هي الثائرون، يجادل فوكو، لهذا لا يوجد في الواقع تفسير قائم بذاته ونهائي، إن لم يكن غير موجود بالمرة، يمكنه أن يشرح لنا ذاك الإنسان الذي قام بالفعل الثوري، ففعل هذا الإنسان الذي سبّب ثورة ما هو في الواقع وبالضرورة “عملية تمزيق قطعت حبل التاريخ وسلسلته المنطقية والعقلانية الطويلة”، على حد تعبير فوكو؛ هو عملية تمزيق من خارج السياق التاريخي التسلسلي المنطقي الذي نعتمد عليه عادة لنفسر أيّ ظاهرة بشرية ونعقلها إبستمولوجياً، ولهذا لا يمكننا في الحقيقة أن نشرح هذا الخيار الثوري (كونه من خارج حدود لعبة الشرح التي نعتمدها عادة لنفهم أيّ شيء) الذي يجعل إنساناً ما يُفـضِّل خيار مخاطرة التعرض للقتل على الخيار المطمئن الكامن في عملية الخضوع والطاعة لمن ثار عليه.

يتوقف فوكو لبرهة للتأمل في إمكانية أن تتحلى ثورات البشر أحياناً بصفة أو منطلق أو مظاهر دينية (يتوقف عند هذا لأنه يتأمل في الثورة الإيرانية). ويخلص إلى تفسير هذا الخيار التــَديِـني من نفس نفاذ فكرة أن ما يحدث من خارج سياق منطق وقواعد التفسير التاريخانية التسلسلية، التي نبني عليها عملية تفسيرنا الإبستمولوجي لما يحدث في الوجود، يجب أن ندسه ونقاربه من خلال تموضعه في سياق معرفي وتخيلي آخر لطالما شكل فيه الفكر والتعقلن الديني عنصراً من عناصره الناظمة: كل ما لا ينتمي لسياق التفكر التاريخي ينتمي في الخبرة البشرية لسياق التفكر المختص بمافوق-التاريخي، بالفائق للزمن، أي بالديني.

على هذه القاعدة القبلية الافتراضية يقترح فوكو بأنَّه طالما أنَّ الإنسان الثائر اتخذ خيار كسر سيرورة الإبستمولوجيا التاريخية، وطالما أنه أدخل نفسه في حالة التضحية بالحياة (الحياة هي التاريخ) والوقوع ضحية الموت (الموت هو مافوق-التاريخ)، فمن الممكن فهم السبب الكامن خلف قـدرة ثورة هذا الإنسان على أن تجد التعبيرات والخطابات التي تتحدث عنها وتنقلها والممارسات وأدوات الفعل التي تحتاجها في عناوين ووسائل واتجاهات تـفكير دينية، كون الدين هو أكثر سياق اختباري بشري يضع الإنسان في سياق مافوق-التاريخ أو الفائق-للتاريخ. وحين تتلقف الكيانات البشرية والمؤسساتية الممثلة للتدين في المجتمع حالة الثورة التي يقوم بها هذا الإنسان الثائر وتشرعنها وتعطيها الغطاء والدعم، يتحول التـديـُّن لا إلى مصدر للأدلجة، يقول فوكو، بل المصدر الأول والأوحد لعيش حالة الثورة، حتى وإن لم يكن ذاك الثائر شخصياً متديناً أو منغمساً في حياته أو حياتها بخيار تـديُن أو التزام ديني قبل الثورة.

هذا بالذات، برأي فوكو، ما يجعل أيّ ثورة بطبيعتها حالة “غامضة” أو حالة “أحجية” تـُحيـِّر كلّ من يحاول أن يبحث لا عن اكتـناه الأسباب العميقة وراء الثورة بذاتها، بل ووراء الميل والأسلوب الذي تم ممارسة الثورة به من قبل أفرادها وما الذي تفاعل في عقولهم كي يخاطروا بحياتهم بهذا الشكل ويقفوا أمام آلة الموت والحرب التي تملكها أنظمة السلطة التي ثاروا عليها، مع أنهم يعلمون بامتلاك تلك الأنظمة لتلك القوة الضاربة المدمّرة ومع أنهم يعلمون أن ردة فعل تلك الأنظمة على خيارهم الثوري ستكون تعريض حياتهم ووجودهم برمته للفناء.

في ضوء هذا الانتباه لحالة الثورة من نفاذ الفرد الثائر بالذات، يخلص فوكو إلى أنه من المحتمل دوماً بعد إحساس أيّ مجموعة من الثوار بأن ثورتهم بدأت تخلق حيز وجودها الخاص وماهيتها من خارج سياق التفكير والفهم السياقي المتسلسل تاريخياً وأنها تمكنت من الوقوف على قدميها على قاعدة بديلها التفكري (الديني بطبيعته البديلة) بأن تسقط تلك الثورة في فخ التحول إلى حالة سلطة وسطوة تفكك تلك الثورة من داخلها.

ولهذا، يقول فوكو، من غير الواقعي معرفياً أبداً أن نصدق أيّ ثائرٍ يقف ليقول للسياق المجتمعي العام الذي يوجد فيه “أنا أثور لأجلكم جميعاً. هناك تحرر نهائي سيطال كافة الناس″. لا بل إن فوكو يرى منطقاً أكثر معقولية في الاعتقاد القائل “من العقيم القيام بثور. الحالة لن تتغير وكل شيء سيبقى على حاله” مقارنة بالمنطق الأول.

السبب لهذا التفضيل برأي فوكو هو أنَّ المنطق الأول يحاول أن يحوّل خيار الثورة إلى قانون وقاعدة منطقية مطلقة وعامة تنطبق على الجميع بشكل فوقي وجمعي. وهذا، برأي فوكو، غير واقعي ولا منطقي، لأن خيار الفرد باختيار الموت على الحياة (الثورة) أمر لا يمكن قوننته ولا تعميمه جمعياً ولا افتراض فائدته (أو حتى ضرره) على الآخرين بمعية قيام فرد ما بأخذ هذا الخيار وكأنه يأخذه بالنيابة عنهم وباسمهم.

لا يوجد شيء اسمه “خيار موت” (وربما لا خيار حياة أيضا) بالنيابة عن الآخرين. هذا ما يعنيه فوكو حين يقترح بأن خيار الثورة دون سواه هو الوحيد الذي يسمح لحالة التفكـُّر والفهم “الذاتوية” (subjecitivity) بأن تلج فضاء سياق التفكير والتفسير ذي المهوية التسلسلية التاريخية والثورة وحدها تعطي الديمومة والتأثير لجانب الحضور الفردي الذاتوي في مواجهة الحضور الموضوعي الجمعي.

بسبب تلك الذاتوية، فإنَّ خيار الثورة أحجية غامضة لا تسمح بطبيعتها ولا حتى للثائر نفسه بأن يقول إن خياره “صحيح” أو إنه “بريء” أو إنه “خيار سيحقق الوعد المرجو”. ولهذا لا يتوجب علينا من حيث المبدأ، بقول فوكو، لا أن ندعم هذا الخيار ونتكاتف معه، ولا أن ندينه أو نلقي عليه قيمة تفضيلية أو نـقداً ديـَّاناً. يكفي أن نتبصر فقط بأن من أخذ خيار الثورة وخيار مافوق-التاريخ هو كائن بشري موجود في الواقع وأن وجودها حقيقي وفاعل في قلب التاريخ بالرغم من أن الخيار الذي اتخذته يبغي التحرر من دائرة ذاك التاريخ والتعالي فوقه. فهذا الخيار بحد ذاته تم اتخاذه في قلب التاريخ في نهاية الأمر.

يكفي أن يتحلى الإنسان، يقترح فوكو، بموقف أخلاقي تجاه خيار الثورة الذي يتخذه البشر: موقف يدرك أن هناك حاجة لمثل هكذا خيار في سياق الوجود التاريخي للإنسان لأن هناك حاجة ملحة في الحياة البشرية لتحجيم القوة وتأثيرها. ولأن الواقع يقول إن القوانين والأنظمة التي نضعها كبنى وتراكيب ناظمة ومقوننة للحياة تعجز أحياناً كثيرة عن تحجيم تلك القوة ولأنَّ المبادئ العالمية التي اخترناها مقياساً لبشريتنا هي أيضاً غير فعالة بشكل كافٍ، فإنه من المطلوب دوماً اتخاذ خيارات مناهضة للقوانين الجامدة والمنظومات المهيمنة التي تعيق حصول الناس على الحقوق.

يخلص فوكو في النهاية إلى القول بأن ما علينا حيال فعل الثورة وخيارها الذي يتخذه الأفراد هو أن نحترم هذا الخيار دون أن نحاول تبريره وتفسيره أو بناء حكم قيمة معه أو ضده، فهذا كله ما هو سوى محاولة للهيمنة معرفياً عليه وتحويله إلى تنظير مؤدلج.

كل ما علينا فعله هو أن نجعل خيار الثورة الذي يكسر دائرة فعل الفهم والتفسير العامة التسلسلية في تركيبتها دعوة لنا لاكتناه الوجود الحقيقي لاحتمال انكسار السيالة التاريخية والمنطقية للحياة البشرية أحياناً وللتنبه لقدرة الإنسان على فعل ذلك أحياناً ضد كل القواعد والأنظمة التي يعتقد من يملك القوة أنه ينجح بواسطتها بالوصاية على حياة الناس وبالتحكم بمآلاتها.

هل كان من الضروري أن تقوم الثورة في سوريا أو في أيّ بلد من بلدان الربيع العربي؟ وهل كان من المفيد أن تلبس تلك الثورات لباساً دينياً مافوق-تاريخي؟ ما يقترحه فوكو علينا في تعاملنا مع تلك التساؤلات هو أن ندرك أن المعضلة والتحدي الكامنين أمامنا هنا يكمنان في عدم صواب السؤال بحد ذاته. من الخطأ طرح تلك الأسئلة بالمبدأ لأن أيّ إجابة يمكن أن نطوّرها عنها لن تكون إجابة تتعلق فعلاً بخيار الثورة الذي أخذه من ثار ولن تكون إجابات تكشف بشكل صحيح الدافع الذاتوي العميق الكامن في كل منهم والذي لا يعرفه في المحصّلة سواهم.

لطالما قلت لطلابي في الصفوف الجامعية: أحياناً تكون نقطة البداية المعرفية الصحيحة التي تقود إلى خلاصات موثوقة هي في تعريض السؤال المطروح نفسه للتساؤل. أحياناً المشكلة تكمن في السؤال الخاطئ وليس في الجواب الخاطئ، وفوكو يدعونا لنعيد التفكير بآلية تفكيرنا بالسؤال: كيف نفكر حين نفكر وما الذي نعتقد أنه تفكير صحيح حين نفكر بما نفكر؟

كاتب من سوريا

ينشر الملف بالاتفاق مع “الجديد” الشهرية الثقافية اللندنية

العرب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى