صفحات سورية

كيف وُلد جيل سوري جديد؟

 


وائل مزرا

عندما تشتدُّ حُلكة ظلام الليل السوري الطويل إلى هذا الحدّ، وعندما تزيد مساحة الرَّقع على الرّاقع حتى يصبح مستحيلاً تغطية السّوءات التي تظهر من تحتها، وعندما ينتفخ الجرح ويمتلأ بالقيح والصديد والدم الفاسد إلى هذه الدرجة، وعندما تتصلّب المفاصل من جرّاء إصابتها بصدأ مزمن ليس له دواء، وعندما يكون حجم الاهتراء واسعاً وشاملاً وطاغياً على الشكل الذي نراه جميعاً هذه الأيام.. يُصبح طبيعياً أن نتوقع مرحلةً قادمةً، يتكوّن فيها جيلٌ سوريٌ جديد يخرج من رحم المعاناة والآلام والمأساة بكل تجلياتها الظاهرة والخفية..

هذا ما توقّعهُ واستقرأهُ وتحدّثَ عنه كثيرٌ من الأدباء والمفكرين والمؤرخين والمثقفين على مدى التاريخ، عندما مرّت أممهم وشعوبهم بظروف مماثلة. وهذا ما حدثَ فعلاً مع كثيرٍ من الشعوب والأمم، وما تكرر في كثيرٍ من الحضارات، ليس لأن أولئك المفكرين والمثقفين كانوا منجّمين أو عرّافين أو من قارئي الغيب في فناجين الخرافات وكفّ الأوهام، وإنما ببساطة لأن هذا يمثل قانوناً من قوانين الاجتماع البشري، وسنةً من سنن وجود الإنسان على هذه الأرض.

وهذا الجيل السوري قادمٌ لأن جملةً من الملابسات التاريخية اجتمعت وتجتمع في سماء بلادنا كما لم يحدث من قبل. وهي ملابساتٌ تفرض قدومه لا محالة.

فهذا الجيل الجديد قادمٌ أولاً، لأن كل وجودٍ سياسيٍ واجتماعيٍ وثقافيٍ واقتصادي يحتاج إلى مشروعية، والواقع الذي عشناه ونعيشه في سورية، والسياسات التي شهدناها ونشهدها، والممارسات التي أبصرَها ويُبصرها المواطن السوري، تسحب مُجتمعةً بساط المشروعية من تحت أقدام نظامٍ لن يجد تدريجياً أرضاً صلبةً يقف فوقها بأمن واستقرار.. صحيحٌ أن الكثيرين لا يفهمون حساسية مسألة المشروعية ولا يُدركون أبعادها وطبيعتها، وصحيحٌ أيضاً أن الكثيرين لا يستطيعون فهم ارتباطها الحتمي بالوجود والبقاء والاستمرار، ولكن هذا كلّهُ لن يُغيّر شيئاً من صيرورة الأوضاع، لأن الأمر مرهونٌ أصلاً بالسنن والقوانين، وليس بعلم الناس أو جهلهم. بل إن هذا الجهل في حدّ ذاته يُعتبرُ علامةً من علامات انتهاء تاريخ صلاحية الوجود والبقاء والاستمرار.

وهذا الجيل الجديد قادمٌ ثانياً، لأن ثورة المعلومات والاتصالات اكتسحت العالم العربي ومنه سورية، وكسرت كلّ أنواع الحواجز والحدود التي كانت تقف عائقاً أمام عالَمِ الأفكار على مدى عقود بل قرون عديدة. ووحدهم الذين يعرفون ما الذي يفعله عالم الأفكار بالبشر وبالشعوب وبالحضارات، هم الذين يدركون ما تعنيه هذه الكلمات.. أما الآخرون، فسيكون الجواب ما سيرونه في المستقبل القريب لا ما سيسمعونه الآن.. سيّما وأن تلك الثورة سحبت من الأيدي الغليظة كل أدوات الكذب، وكل وسائل التزييف، وأسقطت كل الشعارات المبنية على الخداع والتزوير.

وهذا الجيل الجديد قادمٌ ثالثاً، لأن العالم تغيّر من حولنا بشكل جذري، ولأن قوانين اللعبة فيه اختلفت إلى حدٍ كبير، وإلى درجة لا يمكن لمثل هذا النظام استيعابها، لأن ثقافته وقناعاته وأدواته تنتمي كلها إلى العالم القديم في حقيقتها، ولو حاولت التزيّن أحياناً ببعض مظاهر الحداثة والمعاصرة.. وحتى إذا امتلك البعضُ فيه شيئاً من القدرة على استيعاب المتغيرات العالمية، فإنه إما أن يفتقد الجرأة والشجاعة المطلوبة لممارسة النقلة التي يتطلبها الوضع، أو أن يفتقر إلى الأدوات العملية التي تُمكّنه من الانتقال، لأنه حاصر نفسه منذ زمن بعيدٍ بهياكل معينة باتت تستعصي على الزحزحة أو التغيير.. وفي الحالتين، فإن الواقع الجديد سيُظهر انتهاءَ صلاحيته للبقاء، لأن كل شيءٍ في بقائه يتناقض مع كل مكوّنات ذلك الواقع الجديد.

وهذا الجيل الجديد قادمٌ رابعاً، لأن أداء النظام أدى فقط إلى تراكم الفشل السياسي والاجتماعي والثقافي والتنموي، ونحن إذا نظرنا من وجهة نظر حضاريةٍ عامة، فإننا نجد أن هذا الفشل يشكلُ في نهاية المطاف نوعاً من الفراغ الحضاري.. والحياةُ بطبيعتها لا تقبل وجود الفراغ، وإنما لا بد من وجود عنصرٍ يملأ الفراغ فيها بشكلٍ أو بآخر.

وهذا الجيل الجديد السوري قادمٌ خامساً، لأن لكل شيءٍ وظيفةً، ولأن لكل شيءٍ غايةً وحكمةً من وجوده. والواضح أن كتلة النظام بكل مكوناتها استنفدت قدرتها على أداء وظائفَ إيجابية في هذا الواقع الجديد. فالشعوب والأمم تمرُّ بفتراتٍ من تاريخها تُعتبر فترات امتحان وتمحيص لأفكارها ونُظمها ووسائلها، وهي فتراتٌ ربما تقترن بواقع الهزيمة والتبعية والتخلف والفساد على كل صعيد، لتَظهَرَ من ذلك الواقع على وجه التحديد الحاجةُ الماسّةُ للتغيير في تلك الأفكار والنظم والوسائل.. وقد رأينا بالوقائع والشواهد كيف تمَّ تصنيع الهزيمة والتبعية والتخلف والفساد في سورية، وبالمقابل كيف يمكن تجاوز كلٍ منها والتغلب عليه، في بلدٍ مجاورٍ مثلاً مثل تركيا.. ولولا الفشل الذي أظهره النظام لما أمكن رؤية المفارقة بهذا الوضوح، فالضدُّ يُظهرُ حُسنهُ الضدُّ كما يقولون في العربية.. من هنا يأتي الاعتقاد بانتهاء الوظيفة وبافتقاد الغاية والحكمة من وراء وجوده، ومن هنا يأتي اليقين بضرورة قدوم جيلٍ جديد يتصدى لأداء الوظائف الجديدة المطلوبة في هذا الواقع الجديد.

ولهذا كله يمكن الحديث عن ظهور جيلٍ سوريٍ جديدٍ قادم، لن يتنزّل حتماً من السماء، ولن يهبط من المرّيخ، ولن يأتي إلى هذه الأمة على حصان أبيض. وإنما سيخرج تدريجياً كما يخرجُ النهارُ من الليل، وكما يخرجُ الحيُّ من الميت، من عمق المعاناة ومن عمق الأزمات من ناحية، ومن عمق العِبَر والدروس التي ترتّبت عليها من ناحية ثانية، ومن عمق التغيير الذي يحصل في هذا العالم من ناحية ثالثة. وإذا كان العقل العربي المأزوم قد غفا على الواقع الراكد زمناً في بلدٍ مثل سورية، فإنه ربما يُفيق من غفوته عن قريب ليرى مصداق قوانين وسنن الاجتماع البشري وهي تنطبق على السوريين، كما انطبقت وتنطبق على غيرهم من الأمم والشعوب والحضارات.

*نقلا عن “العرب” القطرية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى