صفحات سورية

كيف يتصالح السوريّون؟/ سامر الجنيدي

 

 

«أنا لا احقد عليهم ولكنني كذلك لا استطيع أن أسامحهم، أنا عالقة في مسافة ما بين الألم والحقد والمغفرة»…

بهذه العبارة لخّصت الناشطة الحلبية الشابة مرسيل شحوارو مشاعرها تجاه قاتلي أمها (حاجز شعبة الحزب في السبع بحرات).

تتبادر إلى ذهني فوراً دعوات المصالحة مع النظام والتي أقرأها بين الحين والآخر في كتابات أصدقائي على حائطهم. كتابات دافعها ذعر حقيقي مما وصلت إليه الأمور في البلد.

ما تعرّضت له مرسيل نقطة في بحر القتل الأسود الذي تعرّض ويتعرّض له السوريون يوميّاً. هو فاصلة في كتاب. قبل سنتين أخذت طالبة الدراسات العليا «ميم» إجازة من المستشفى التعليمي لتمضي بضعة أيام في بلدتها الصغيرة، وصادف وجودها دخول دبابات إلى البلدة. قام أحد أخوتها بفعل متهوّر: تصوير الدبابات وهي تدخل الحي. استيقظت بعد ساعات في مستشفى قريب لتجد أباها في سرير مجاور مبتور الساق، وأمها واثنين من أخوتها قتلى. كان عليها أن تعود إلى عملها في المستشفى بحلب بعد أسبوعين وكان علينا نحن، أساتذتها وزملاؤها، أن نتقدّم كلٌّ منا خلسة وفرادى لمواساتها.

في النهاية علينا أن نتصالح. هي عبارة نقولها كل يوم بعدما صار تمدد الوصاية الإيرانية محسوساً في أكثر من مؤشر، وبعده غول الخلافة الآتي من الشرق. دافع المصالحة صار قوياً، ولكن على أي أساس؟

بالأمس القريب توفي طبيب تحت التعذيب فقط لأنه التزم بقسمه الطبي في علاج مرضى بغض النظر عن انتمائهم السياسي.

المصالحة ليست كلمة في الفم. رمزا المقاومة السلمية عبر التاريخ المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا ما كانا ليتقدما خطوة واحدة في مشروعهما التصالحي العظيم لو لم تنزع الامبراطورية البريطانية عن جبينها «جوهرة التاج»، ولم يعلن البيض انتهاء التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. مصالحتنا، كما يدعو إليها البعض، لا تبدو مصالحة بين الناس، بين شعبين، كما في الحالة الهندية، ولا بين مكونات مجتمعية، كما في حالة جنوب افريقيا، بل بين طرفين أحدهما النظام والآخر خليط من مجتمعات مدينية تعرضت للترهيب الشديد (الاعتقال السياسي والتعذيب حتى الموت) ومجتمعات نصف مدينية وريفية تعرضت لحرب إفناء او اقتلاع. مصالحة تحت سقف عقد اجتماعي شروطه أدنى مما كانت قبل 2011. لنتذكر ان النظام بات مديناً ببقائه لقطعان الشبيحة والقوات الايرانية بتسمياتها المختلفة: حزب الله، ابو الفضل العباس، الخ… وهؤلاء بشر قدموا حياتهم فداء لما يعتقدون أنه الوطن او المذهب، وهم ينتظرون نصيبهم من الكعكة. لقد اصبحوا من مكونات النظام مثل اجهزة الامن والفرقة الرابعة والحرس الجمهوري. ويمكن ان نطلق اية تسمية على هذا الشيء الا مصطلح المصالحة.

نحن بحاجة الى مصالحة؟ هذا مؤكد. نحن بحاجة إلى مصالحة المدينة مع الريف، والسنّي والعلوي، وبين مفهومي الوطن كأرض والوطن كبشر. لكن من يستطيع أن يقود مصالحة مجتمعية حقيقية غير المدن؟ وأين مدننا؟ أين حمص؟ أين حلب؟ أين دمشق؟

في مسلسل تلفزيوني يعرض على شاشة رمضان هذه الأيام يظهر رجل مسن متسوّل في شوارع بيروت يحدّث نفسه من دون انقطاع: «واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد». ثورتنا بعد خمسين سنة من السبات كشفت تفككنا. أصبحت وحدة الشعب موضوعة المتسولين والبلهاء. فماذا لو وضعت أرامل وثكالى جنود وضباط الجيش في طرطوس مثلاً قصاصة ورقية أمام بيوتهن: شهيد انحراف البندقية؟

ماذا لو امتنع أطباء حلب ومهندسوها ومحاموها وصناعيوها وتجارها عن المشاركة في أية فعالية علمية أو مهنية إلا بعد تحرير الجدران والفضاء والهواء من صور رموز النظام وشعاراته؟

ماذا لو انصبّ دعم السوريين في الوطن والشتات على أهالي حمص الطيبين لكي لا يضطروا إلى بيع بيوتهم للإيرانيين؟

ماذا لو قرعت أجراس الكنائس في ذكرى اختفاء الأب باولو؟

«ماذا لو» هي بالتأكيد مجازفات مجتمعية يفترض أن يقوم بها ناس متعبون يعيشون على أرض مقطعة بين حاجز للجيش وآخر للشبيحة. نعم، ولكن. «ماذا لو» تبدو لي بداية الطريق نحو المصالحة بين مكوّنات شعب لم يكن واحداً في أوّل مواجهة مع الذات بعد نصف قرن من السبات. والمصالحة المجتمعية أيضاً حلم صعب، وهنا الأزمة. انها مصالحة عصيّة تتطلّب مجازفات خطرة، وهي تستحقها.

* طبيب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى