صفحات العالم

كيف يساهم أهل «النظام» بالفوضى!

 


سليمان تقي الدين

يتقدم التاريخ العربي بمزيج من العناصر والتفاعلات، شأنه شأن أي شعب أو منطقة. ما سوف ينتهي إليه هذا الحراك المتسارع هو حصيلة لمنسوب تأثير العناصر الفاعلة وأهميتها، من بينها وعي القوى السياسية وإرادتها وسلوكيات الأنظمة وطبعاً التأثيرات الخارجية. مشاهد التغيير لم تتكرّر بالطريقة نفسها عبر التاريخ كله. لحظة التغيير الانفجارية لا يمكن أن يحدّها خيال فلا معنى لفكرة «النماذج». قضيتنا الآن جدل الإرادة والواقع، بتنوع الإرادات والوقائع، ومدى الدور الذي تلعبه جماعات منظمة تحمل بهذا الشكل أو ذاك قضية التغيير.

تحدث لينين كقائد للثورة الروسية عن «الجملة الثورية التي أهلكت ثورة 1905». وكان «هيغل» يقول: التاريخ يسيّر العقلاء ويجر الجهلاء. في مكان ما من المشهد الإقليمي الكثير من الجمل الثورية الطائشة والكثير في المقابل من القوى الفاعلة التي يجرها التاريخ جراً لأنها لم تستوعب حركته اليوم.

ما نحن فيه لحظة تكاثف الأحداث وتسارعها أزمة شاملة تتجلّى في الحراك العنيف. العنف هو الاستثناء في السياسة وليس القاعدة. عنف النظام وعنف المعارضة هو الوجه السلبي في عملية التغيير.

لكن التغيير حاصل لا محالة، فما قبل مسلسل الانتفاضات العربية ليس كما بعدها. ما ينتج عن التغيير مسؤولية تتفاوت بين الأطراف. إذا كنا ندرك أن الخارج كأميركا والغرب والقوى الإقليمية له دوره فهو يستمد هذا الدور من حركة الداخل ومواقعها ومواقفها وردود فعلها وخاصة النظام المسيطر الذي يفترض أنه يحافظ على استقلال بلاده وسيادتها ووحدتها، وكيف هو سيؤدي هذه المهمة الأساسية.

كل الأسئلة المطروحة والمشروعة لفهم أفضل ولموقف أفضل عليها أن تخفض منسوب التفكير الإيديولوجي المقولب وقد خالطته الغيبيات كثيراً في منطقتنا، لصالح المعرفة «المطابقة» بموازين القوى الفعلية والتعامل معها «بالواقعية الثورية» لا الواقعية المحافظة، ولا الثورية الواهمة. ولعل الكثير من التفكير السياسي يتعثر اليوم في فهم ما يجري ويتعثر في التعامل معه واقعياً كموقف لأنه يصدر عن تصور مسبق وعن مصالح تكوّنت في الزمن الماضي ولم تعد ممكنة في الحاضر.

{ هناك متغيّر دولي تحت سطح الخطاب السياسي هو المتغيّر الاقتصادي الذي يشكل الأولوية المطلقة لكثير من الدول والاستراتيجيات. يتوقف على هذا أو ذاك من المشاريع السياسية مصير النظام الاقتصادي ومستقبله.

أحد تجليات هذا الوضع هو الحروب المحلية البديلة عن الحروب الكبرى لتغذية «سوق السلاح» ومتفرعاته وللسيطرة على موارد وامتيازات جديدة في التجارة الدولية واستدرار السيولة النقدية إلى المصارف التي تدير الرأسمالية المالية العالمية.

{ هناك نتائج على دول الأطراف تتراكم بفعل سلوكها الجديد في النيوليبرالية وتحرير اقتصادها من الحماية والحصانة القومية للأسواق. هذا إلى جانب إرث التشوهات الكبرى

في اقتصاديات دول رهنت التنمية لحاجات النخب الحاكمة وأهملت الاقتصاد المنتج الذي يوفر فرص الاستقرار الاجتماعي ويعزز ثقافة المواطنة على ثقافة الفردانية الاستهلاكية أو الثقافة الرجعية الارتدادية على حركة التقدم.

{ هناك تناقض يتنامى بين حاجات الجمهور ووعيه السياسي ومشاركته المعولمة عبر وسائل التواصل والاتصال والمعارف وبين منظومات سياسية تتعامل مع شعوبها بلغة سلطوية أمنية وبتجاهل كامل لتقدم الوعي أو المعرفة بالوقائع، وتستخدم ثقافة خردة خربة مخلّعة لإسناد شرعيتها السلطوية بدل المبادرة إلى تجديد هذه الشرعية بالإنجازات الوطنية أو الاجتماعية.

إن الجدل بين هذه المعطيات يؤدي إلى تقاطع الصراعات الدولية والإقليمية والاستراتيجيات «الكونية» وبين الحراك السياسي والاجتماعي للشعوب التي هي كذلك مجموعة من المصالح المتآلفة والمتنافرة أحياناً.

لا يوجد واحد في العالم ليس بين مكوناته تناقضات لها أشكال مختلفة للتعبير عن ذاتها. لكن قَلَّ أن بقي في العالم منظومات سياسية كما لدى العرب تقيم الدولة على أشكال من التمييز بين الجماعات والهويات الاثنية والدينية والمذهبية وتعطي لنفسها شرعية دينية أو عائلية أو عقائدية في ثوب علماني أو في تبرير للمخاوف التي تسكن بعض الجماعات نتيجة نزاعات تاريخية. وحدهم العرب كانوا الاستثناء في هذا مطلع هذه الألفية الثالثة ثم لم يعودوا كذلك حين خرجت حركات التغيير في طلب الانضواء في الثقافة العالمية.

يأخذنا هذا الفهم إلى القول بضرورة المراجعة السياسية التي تحتاجها بقوة كل التكوينات والتشكيلات السياسية لا سيما الأكثر فاعلية على مسرح المنطقة. ربما على الأرجح يتوقف مصير الكثير من المجتمعات العربية على كيفية التعامل مع هذه المتغيّرات. ليس هناك من طرف واحد يستطيع في هذه «اللعبة المركبة» أن يقرر كيف سيعاد بناء «الشرق الأوسط» كما لم يكن الأمر على هذا النحو في الماضي.

«سايكس ـ بيكو» التي نتذرع بها عن حق كمشروع دولي لم تنجح إلا لأن قابلية العرب أو لنقل عدم قدرتهم على المواجهة قد سهلت تلك الخطة. اليوم لا معنى لكل التحريض على «المشروع الأميركي» الموجود فعلاً طالما لا نسعى إلى سد الأبواب والنوافذ التي يدخل منها إلى التلاعب بالمكونات العربية. ما يقال عن تقسيم للمنطقة وعن فتن وعن تحريك للتيارات والجماعات يطرح السؤال عن مدى استجابة الآخرين في مقاومة مسار كهذا. نريد أن نسمع من أصحاب الشأن أو أصحاب المسؤولية أجوبة عاجلة عن مستقبل الدولة في العالم العربي، هل ستكون ديموقراطية مدنية أم طائفية، كتبرير جديد لتقسيمها. كما نريد أن نفهم ماذا بعد النزاعات الأهلية والعنف السلطوي والطائفي الرسمي والشعبوي وكيف ستكون المصالحات الوطنية في أكثر من بلد عربي بين مكوناته.

فهل هناك من يتورّط في أخذ التعددية إلى التقسيم أو الفدرلة أو إلى أشكال من النظم الفاشية التي ستفرقع الأمة كلها من المحيط إلى الخليج. ونريد أن نسأل عن مآل عدم الاعتراف بالعجز عن إدارة مجتمعات كانت مستقرة مهما كان شكل الاستقرار وصارت اليوم متوترة منقسمة متنابذة متناحرة وكيف ستدار من خلالها المواجهة مع الخارج كل الخارج من إسرائيل إلى الغرب وما بينهما من مداخلات إقليمية.

ونريد أن نسمع من أصحاب الإنجاز كيف يحافظون على إنجازهم أياً كان هذا الإنجاز في محيط إنساني وطني أو قومي أو عالمي في ظل المعطيات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية الراهنة. وهل هناك أجوبة لا تقوم على أدوات العنف والحرب وسباق التسلح واستثمار الفوضى السياسية وكأنها تفرض تنحية المشكلات الأخرى التي هبّت الشعوب بحثاً عن حلول لها كالبطالة والفقر وغياب الخدمات الإنسانية والتنمية والعلم وفوقها الحرية والكرامة؟

نأمل.. ولكن هذه مهمات لا تعالج إلا بالسياسة وعلى حد ما صار معروفاً اختلال العلاقة بين السياسة و«القوة» المادية هو أحد مظاهر أزمتنا. لا تَعِدونا بتحرير كل فلسطين وإسقاط الإمبريالية غداً دفعة واحدة، فقط عِدونا بترتيب أفضل لمجتمعاتنا للصمود والمواجهة.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى