صفحات مميزة

كي لا يتحول القتل في سوريا إلى ثقافة مجتمع: تغريد شاهين

 

تغريد شاهين

1ـ الطفل على القارب يعمل لأكثر من اثنتي عشر ساعة، يحمل الماء المتسرب إلى القارب ويعيده للبحر، ويقوم بخدمة الصيادين.

الطفل يأكل وجبة واحدة، وإن كان الصياد رحيماً قد يأكل الثانية، لكن الاثنتين تبقيان أقل مما يشبعه حقاً.

الطفل في القارب، لا يتجاوز عمـــره الثامنة، وفي عينيه شيءٌ غريب كأن حلماً ما حط في رأسه الصـــغير فأشعل عينيه…. المصور المحترف الذي يرى الجمال أينما كان، رأى عيني الصبي ورأى الحلم…. فأخذه على شكل صورة إلى أميركا لتثير زوبعة من التساؤلات عنه، عن مصيره، عن أسباب شقائه البادية في مظهره الرث، هل هو يتيم؟ أسئلة وأسئلة، حركت فاعلي الخير من الشعب الأمريكي ليتحركوا لإنقاذ الصبي وليكتشفوا:

الصبي هو فقط أحد الأطفال الكثر الذين يعانون في تلك المنطقة من أفريقيا، حيث يقوم والدا الطفل ببيعه للصيادين الغرباء بهدف الاستفادة من سعره إما لتلبية احتياجاتهم أو لتربية أبناء آخرين.

اكتشف الباحثون هناك، أن الأمر ليس حالة واحدة طارئة بل هو ثقافة مجتمع، أي أن من الطبيعي جداً أن ينجب الأهل عدة أطفال فيبيعوا بعضهم لتربية البعض الآخر. هذه ليست خرافة موجعة، هذه قصة حقيقية عرضت في برنامج أوبرا وينفري وكان التقرير الذي عرض على حلقتين للصحافية ليسا لينغ.

لو تمعنّا جيداً في هذا المثال عن ثقافة المجتمع لرأيناه حاداً وغريباً وغير قابل للتصديق، فمن عادة المجتمعات أن ترقص في الأعراس كثقافة مجتمع، أن تقوم بختان البنات كثقافة مجتمع، لكن أن يبيع الوالدان أبناءهما……….

الحقيقة أني اخترت هذا المثال المفجع والصادم والمخالف للأخلاق والقوانين وللإنسانية، لكي أوضح أن من شأن سلوك ما أن يتحول إلى ثقافة في مجتمع ما بغض النظر عن انسجامه مع المكونات المنطقية التي تحكمه ولتبرز ‘ثقافة المجتمع’ كتيار أقوى من أي شيء آخر، أقوى من القوانين والدساتير والنظام الحاكم، ومن الدين، فكيف يتكون هذا التيار وكيف يعمل؟

الشرط الأول لوجوده هو الحاجة، أو المبرر أو الدافع، وكان في حالة هؤلاء الأفارقة هو الفقر.

ثم يأتي الشرط الثاني الأكثر خطراً وهو القبول: يقبل الناس بين بعضهم البعض كمجتمع أن يحدث أمر فظيع كبيع الطفل لاستعباده، يقبلون ويفعلون المثل، أو يرفضون ويسكتون، أو يرفضون على استحياء.

الشرط الثالث هو الزمن الذي يستمر فيه الفعل والقبول، ليصل الناس إلى مرحلة وقد نسوا لماذا بدأوا بفعل ذلك.

التقرير يوضح أن ثمن الأطفال كان قليلا جداً جداً وهو لا يغطي حاجة الأهل لوقتٍ طويل، وعندما أنقذ الفريق بعض الأطفال وردهم لذويهم، كان الأهل يعيدون بيعهم مرة أخرى، وهذه المرة مع ‘شهادة خبرة’ بأنه سبق له العمل.

الأهالي كانوا يبدأون الفعل ويكررونه بعد استعادة الطفل بحكم ‘ثقافة المجتمع’ التي تستمر خارج الوعي والإدراك والمنطق، تستمر عبر الناس……

-2-

في سوريا حرب، وثقافة الحرب هي القتل.

ستنتهي الحرب يوماً، ستنتهي غداً أو بعد سنوات طويلة مؤلمة، لكن ثقافتها لن تنتهي بانتهائها ولا بانتصار أحد الأطراف كما يحب البعض أن يعتقد.

مهما كانت النقطة التي ستنتهي عندها الحرب فهذا يعني سقوطا لل’شماعة’ أولاً، للطرف الذي نحمله حتى انفعالاتنا المستمرة الخاصة، البعض يعترف بتعصبه الفكري وربما الإنساني، ولكنه يحمله للطرف الآخر ‘الشماعة’ بكل راحة ضمير، ويقول: ستنتهي أزماتي مع سقوط خصمي.

وفي الحقيقة كل ما سيحصل أنه سيضطر لمواجهة واقعه مع كم هائل من المخلفات……

أحد مخاوفي التي لا تنتهي على بلدي هو تحول القتل إلى ثقافة مجتمع، أكاد أسمع صوت استغراب، لذا قبل أن يكتمل السؤال، وللتذكير فإن بعض القبائل في سورية كانت تمارس ‘الثأر’ وهو ثقافة قتل في مجتمع القبيلة.

وفي محافظة سورية -كثقافة قتل أيضاً- قُتلت الفتيات المتزوجات من غير طائفتهن على يد أحد أقاربهن، وفي قصة شهيرة كانت القاتلة هي الوالدة، هذه أيضاً ثقافة مجتمع، ثقافة قتل في مجتمع، يُخالف فيها القانون والأخلاق والمبادئ الإنسانية وتستمر بشكل أشبه للطبيعي.

سيقوم بعضــــكم بتبرير الأمر أن السبب هـــو فساد النظام، تستطيعون قول ذلك والمضي، وتستطيعون أن تواجهوا الحقيقة فالأمر أكبر من أي نظام، الأمر هو ثقافة مجتمع، وربما إن علمتم أن ما يسمى بـ’نكاح الغلمان’ هو ثقافة مجتمع في أفغانستان، البلد المحكوم كثير من مناطقه من قبل طالبان، بالدين المتشدد وسياسة الانغلاق، ربما قد تعيدون حساباتكم………

ما الذي يضمن الآن أن لا يتحول القتل العشوائي بدافع أيّ اختلاف إلى ثقافة مجتمع، وخصوصاً أن العناصر موجودة وجاهزة: المبرر أو الحاجة والتي تنطقها الأطراف بحِرَفيّة وحَرْفية، وهذه ليست مصادفة:

(الدفاع عن النفس، تحرير الأراضي، الحفاظ على الوطن، حماية الشعب، إعلاء كلمة الحق…)

وحتى الآن، لدينا سنتان من استمرار الفعل، وهذا هو عامل الزمن، وهو شرط آخر نقف مكتوفي الأيدي تجاهه، و نخضع نحن المواطنين العاديين الذين لا نحمل سلاحاً ولا نريد، نخضع له مجبرين، ليبقى لنا العامل الوحيد الذي يمكن إخضاعه و تغييره، هو شرط القبول.

القبول هو المفصل الوحيد المتحرك حالياً، بين ثابتين، لذا علينا أن نصب طاقاتنا فيما يمكن تغييره، وبكل قوتنا نقول للقتل: غير مقبول، مرفوض.

أنا أرفض القتل، أرفضه بكل أشكاله ومن جميع الأطراف، لن يمنع الرفض أحداً ما الآن- من أن يقتل آخر لكنه سيمنع من أن تتحول هذه الثقافة الخاصة بالحرب إلى ثقافة مجتمع.

سيمنع الرفض الكافي من تحول المجتمع إلى تربة خصبة لاستقبال بذرة ‘صناعة الموت’ الذي يمارس عليها حالياً، ومن جميع الجهات وتحت كافة المسميات، سيمنع هذه البذرة من التجذر في بنية المجتمع السوري .

أنا أرفض، لأحمي أطفالنا من التحول إلى قتلة محتملين، ومجرمين بالوراثة السلسة. أنا أرفض القتل لأني لا أريد أن يتحول إلى تيار يفوق قدرتنا على ضبطه، فالقتل ليس سلاحاً، لا تخف على قاتل فإنه إن أراد القتل لن يعدم وسيلة. وقد يتم ضبط السلاح ولا يتم ضبط القتل….

علينا أن نرفض بكل ما نستطيع، فإن كنت لا تملك إلا لسانك فارفض قولاً، وإن كان لك قلم فارفض كتابةً، وإن كنت لا تملك إلا قلبك فارفض بقلبك، وهو أضعف الإيمان.

‘ولا تبخس من الخير شيئاً’ لا تسمح أن تمر بشاعة كهذه عبرك بسلاسة، لا تفرح لمقتل أحد، ولو أن العالم كله أحل لك أن تفرح بموت من تعتبره عدواً، لا تفعل أنت، فإنك توقّع على عقد قبول الشر بحياتك وتطلب منه أن يفعل خيراً، أنت تقبل أن يتحول ابنك لقاتل وإن حالفه الحظ فإلى مقتول، لا تفعل أنت كي لا تساهم في صنع تيار سيجرنا كلنا إلى الهاوية حيث لن يسألك أحد عما كانت نواياك، وعما في قلبك فانتقِه منذ الآن، وارفض القتل.

‘ مواطنة سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى