صفحات العالم

… كي يلتقي المتوازيان

 


حازم صاغيّة

بين المناهضين للواقع السوريّ القائم، لا سيّما منهم بيئة المثقّفين، ثمّة تيّاران متنافران لا تستقيم مناهضة ذاك الواقع من غير التقائهما. ذاك أنّ هذا الالتقاء يبقى الشرط الضروريّ وإن غير الكافي.

أوّلهما يمكن أن نسمّيه التيّار السياسيّ، المسكون بإطاحة ذاك الواقع، وتحديداً إطاحة سلطته السياسيّة – الأمنيّة، تمهيداً لإنشاء سلطة بديلة تكون أشدّ عدلاً وتمثيليّة واحتراماً لمواطنيها. وأهل هذا التيّار المبادر صادقون بالطبع وشجعان، فضلاً عن كونهم إحدى حافظات الغضب الاجتماعيّ المتراكم والصبر النافد حيال استبداد مديد لا تعوزه البراهين الكثيرة. إنّهم يقولون للخطأ أنت خطأ، وعلى الخطأ أن يرحل، وبذا يقفون على منصّة أخلاقيّة لا يُعلى عليها.

أمّا التيّار الثاني، ولنا أن نسمّيه الثقافيّ، فيحصّن نفسه، لا بالواقع أوّلاً، وإنّما أوّلاً بدروس تاريخ صلب من التجارب «الثوريّة» السابقة، ذاهباً إلى أنّ التغيير الحقيقيّ لا يقف عند عتبة الدين والتقاليد ونظام القرابة، بل عتبة الأفكار والعلاقات الاجتماعيّة في عمومها. ذاك أنّ استبدال سلطة بسلطة محاولةٌ لإصلاح «آخره» بما أُصلح به «أوّله»، أي أنّه محاولة لعدم الإصلاح. أمّا الشجاعة والإقدام، لدى هذا التيّار، فيتجسّدان، لا في النزول إلى الشارع، بل في الموقف من أنظمة القيم، وهو ما يتاخم التجرّؤ على المحرّم.

كلّ من التيّارين يملك نقاط قوّته ونقاط ضعفه: السياسيّون تنبع قوّتهم من أنّ الواقع المتهالك هذا ينبغي استكمال دفنه، وأنّ المبادرة لا بدّ منها بوصفها حفّار القبر المطلوب للجثّة المتعفّنة. وهذا فضلاً عن أنّ الأمور بلغت من السوء إلى الحدّ الذي لا سوء بعده. أمّا ضعفهم فرخاوتهم حيال الشعب وحيال عفويّة حركته، ومن ثمّ ميلهم إلى تبجيل كلّ ما يصدر عن هذين الشعب والعفويّة، وأحياناً إيجاد المبرّرات لأسوأ ما ينطويان عليه. هنا تصاب الحساسيّة النقديّة بشيء من الخدر وتتّسع الشهيّة لهضم كلّ ما «يخدم الثورة». وشيئاً فشيئاً نجدنا أمام استعادة خجولة وتدريجيّة لمعظم الشعارات والمعاني التي سبق أن وصلت بمثلها الحركات الثوريّة سابقاً، والحاكمة الآن، إلى السلطة: العروبة والإسلام، فلسطين، الشهادة والشهداء، الشرف والشرفاء إلخ…

الثقافيّون، في المقابل، تنبع قوّتهم من أنّهم يريدون إعطاء الثورة معنى أكثر جذريّة وأشدّ شمولاً في الوقت نفسه. فهم لا يريدون أن يكونوا وسائط لتكرار تاريخ سابق، كما يرفضون الحجّة السلبيّة (ليس ثمّة ما هو أسوأ…) لمصلحة حجّة أكثر إيجابيّة (ينبغي أن يكون ثمّة ما هو أفضل حكماً).

أمّا ضعفهم فله مصدران متكاملان: واحدهما الامتناع عن المشاركة في التغيير والانضواء في صلبه، ولو انضواءً نقديّاً، ومن ثمّ محاولة تغييره من الداخل. والمصدر الثاني هو التعالي عن السياسة وقلّة الصبر حيالها. فهناك بالتأكيد مقدار هائل من التدرّج والتعرّج يفصل بين اللحظة الراهنة واللحظة المرتجاة. وفي الغضون هذه، لا بدّ من دور تدخّليّ يُعمَل على تعظيم أسباب نجاحه، بما في ذلك الاستفادة من ظروف دوليّة متحوّلة أو قابلة للتحوّل، ومن حاجات اقتصاديّة تلحّ عليها العولمة ولم يعد ممكناً العيش في معزل عنها.

فليس المطلوب، في آخر المطاف، «طليعةً» (لينينيّة) للشعب العفويّ، وإحدى سمات الانتفاضات العربيّة الراهنة أنّها بلا طلائع. لكنْ ليس مطلوباً أيضاً «طليعة» من دون شعب، فهذه، بدورها، مهزلة تشبه مهزلة الإمعان في تعظيم الشعب لمجرّد أنّه شجاع ينزل إلى الشارع. فالشعب، في وقت واحد، خزّان لطلب الكرامة والحرّيّة ولتقديم التضحيات والاستبسال في سبيلها، لكنّه أيضاً خزّان لأكثر القيم رداءة وخطراً، لا على احتمالات التقدّم فحسب، بل أيضاً على احتمالات البقاء ذاتها.

وكائناً ما كان الأمر، فالانفصال الواقع بين هذين التيّارين ليس مدعاة ارتياح. إنّه، لا سيّما على المدى الأبعد، مدعاة قلق.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى