صفحات سوريةفلورنس غزلان

لاتدخل المتن، وابقَ في الحواشي!


فلورنس غزلان

من سيمات المرحلة والواقع الخاص بنا، أن خطواتنا لاتعرف التوازن ولا الخط المستقيم، وكذا حال مفرداتنا..نَسَقها ملولب متغير لاعلاقة له بالفصول ولا بعمق اللغة أو مقدرة الفرد وباعه فيها، بل تعوده منذ الصغرعلى الخطوط المتعرجة في الكلام، على استخدام المناورة اللغوية، مما يجعل الحروف مذعورة في كثير من الكتب العربية.. ملاحقة من جحافل السلطات وسيوف القطع والبتر والمنع، ومن قبائل التقليد وحماة الدين وأساطينه المُوَظِفين لأنفسهم ولتابعيهم بنادق رشاشة ترشق محاولي الاصلاح أو النقد…لأنه يمس بكيان شيخ الطريقة أو شيخ الكتاب أو حاضن طيف ما على حساب أطياف أخرى..وكثيرة هي الأسباب ، التي تربي العربي الكاتب في حضنها بعصا ترتفع وتنخفض بوجه من يشهر قلمه للتعبير عن نفسه ، عن محيطه، عن العالم ، عن تلاقح الحضارات ، عن الترجمات، عن العلم وأسراره..عن ثقافة الانسان الكونية وتفاعل المرء معها…لينمو ويتطور ويبدع، فمحاولة الابصار والتبصر أو استخدام مفاتيح اللغة لفتح الآفاق المعرفية والجدلية لايجرؤ عليها الكثيرون..بل حتى لايستطيعون الاقتراب من عتباتها..فهناك جني يقبع على الباب يحمل ساطور عرش القاموس والنصوص المقدسة..فكيف يمكنه أن يقول مالايقال؟!..إنه المحال..فمالايقال يخص خطوطاً حمراً وهمية مسلطة تقف بعناد وجبروت تملك كل أنواع الطاغوت ، تحاسب وتقيم ” عدالتها” وهناك محاكم للحسبة..تسمح لفرد مطلق الصلاحية، باسم سيف الحق الايماني، أو الحق الوطني! أن يمنع كتاباً من النشر ، أو مقالة من القراءة ، ويضع شارة على اسم كاتب، وتحرق كتبه أو مؤلفاته…مع أننا لسنا في عالم ابن رشد..بل عالم انعدام الرشد ــ ” محاكمة ومحاربة كتب المرحوم حامد أبو زيد، منع رواية وليمة لأعشاب البحر للكاتب السوري حيدر حيدر، رواية أولاد حارتنا ومحاولة قتل كاتبها المرحوم نجيب محفوظ ، ملاحقة وسجون بحق الصحافيين والكتاب السوريين واضطرارهم للتخفي أو الهجرة القسرية …الأمثلة متنوعة ولا حصر لها ، وتطال كل البلدان العربية وبعض الإسلامية ، بل وصل الأمر لملاحقة الكاتب في الدول الغربية وهدر دمه” .

وتنطبق حال الكلمة المكتوبة على حال الكلمة الممثلة والمغناة، ويفسح إنعدام الحرية وصعود تيارات الكتائب السلفية وشهوتها للاستعباد باسم رب الكون وولي العباد إلى أن تصدر محاكم العسف سجناً بحق هذا الفنان ـ” عادل إمام مثالاً” ـ ومنعاً لذاك الفيلم وتلك المسرحية بعد أن شاهدتها الملايين وحفظت مفرداتها ورددت عباراتها النقدية والفكاهية وأصبحت تراثاً نفخر به ونعتز بخروجه للعلن كمُعَبر عن ظواهر اجتماعية تحتاج لمعالجة ــ” مدرسة المشاغبين ، فيلم أبي فوق الشجرة” ــ…أقف متسمرة أمام هول جمود العقل وإرادة بعض المتسلطين على تجميد عقولنا وحصارها ومنعها من التطور وإغلاق أبواب المعارف أمامها، بل يزعم بعضها أنه صاحب الحكمة والموعظة الحسنة، أنه منقذ التراث من الزيف والعفة من الاستلاب والاستغلال..ولا عفة عنده أمام استغلال الكلمة في غير ماتصلح حين يستدعيها من أزمان غابرة ليلقي بجحيم غموضها وغيبيتها في أحضان الحاضر والمستقبل..يحكم عليه بالجمود لا بالخلود..بالموت سريرياً ، يمسكه بقبضة الأشباح والسحر ويطيره بأجنحة ملائكة الوحي وغابات نصوص يختلف فيها رعاتها وكتابها ويتصارع حول تحليلها وتفسيرها آلاف علماء إما عبروا السطح أو غاصوا كل حسب تعاليمه ومقاييسه أو مقاييس من تتلمذوا على يديه…يباغتونا بين فينة وأخرى بقرائن ومخطوطات لها شهوة السطوة وقوة الحظوة عند سلاطين العصا…نعبر يومياً قطارات كتب ..وسفن أشعار..تنقلنا من شهيق لزفير…محشو في هواء وخواء المعنى ..وتقذفنا على شواطيء قفراء من الفكر العميق ، مملوءة بحلاوة السجع وطلاوة الوصف والوزن…فارغة من البناء والتحدي ، من إبداع يضيف لعمرنا العقلي لبنة أو حفنة من صور وأسماء ورسوم وعلوم وفنون تغذي وتنمي الروح والعقل وتصب فينا شهوة السفر والترحال في آفاق ومعالم تتخطى المحيطات والفضاء…تأخذنا معها ..ونهرع..دون تلكؤ..لأننا بعض من يهوى المتن ويرفض الحواشي.

لكني لابد وأن أعترف وأهمس لكم بأن صدور الكثير من الصفحات ..قد اعتلت شرفاتها أقلام حرة لاتهاب وقد اطلقت عقال العقل والخيال من معتقله المستبد، وخرجت أيائل تعدو فوق جبال الحق وتغزو وهاد الصمت ثم تطلق العنان لصهيل خيول الحياة المنفتحة على عوالم الفكر كتراث للإنسانية لايعرف الحدود ولا مخافر الجمارك أو مقصات الرقيب ..وحتى لو كان طريدة لذاكرة العمى وشبق الفخاخ …لكنه يصارع دون ثرثرة ..يواجه في النهار ..يرفض العتمة وكهوف المواهب المقتولة

يفتح أحداقه المكتظة بالنور …المحملة بزعفران المحبة والأمل..مؤمناً بأن الكلمة الصادقة هي مفتاح الحكمة ومفتاح تبادل المعارف وبيارق انتصار التاريخ على مدافن الزعماء المفلسين وشهادات المُزَيِفين وحفاري القبور …مؤمناً أن الشعوب تمر بكبوات ومطبات..لكن الأقلام المخلصة الصادقة ..ابنة الحق..ابنة الإنسان وحليفة حياته ومُنقِذة انهيارهِ… وحدها من يظل واقفاً حين تتراجع السيوف وتهزم الجيوش.

لذا وجب على المواطن القاريء أن يقف موقفاً حازماً للدفاع عن حرية التعبير باعتبارها مفتاح الباب الأول للولوج نحو الباب الأوسع ..باب الحرية والتحرر من عبودية الفرد ودولة الاستبداد لأنها مثال الانحطاط الفكري ونموذجه الصارخ، وألا يتقن النفاق لمن يلبس لبوس حامي الدين أو حامي الوطن، فكلاهما وجه لعملة الحرمان والاقصاء من الوعي والفكر الحر المتفاعل مع العالم والمتلاقح مع الحضارات، فلا صلاح إلا مع الإصلاح الفكري والثقافي، ولبنته الأولى إفساح المجال دون قيود للنقد ، فلا قدسية لنص ولا قدسية لقول..أياً كان..حتى لما يتعلق بالدين، إن كانت الغاية إصلاح الدين ومناهجه وتطويرها بما يتناسب والعصر ومتطلباته وتسارع عجلة التطور لدى شعوب العالم التي سبقتنا بمسافة عشرات أو مئات السنين.

ــ 25 /5/2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى