صفحات الناس

لاجئو سوريا.. من موت إلى موت –مقالات مختارة-  

 

 

وثق تقرير نشرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان بعنوان “من موت إلى موت” أبرز حوادث مصرع السوريين غرقا أثناء رحلات هجرة غير نظامية في ظل تواصل نزيف الحرب في سوريا، مشيرا إلى أن 90% من اللاجئين يتوافدون من المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة.

وبحسب التقرير، فقد قضى بسبب الغرق منذ نهاية 2011 وحتى الآن ما لا يقل عن 2157 سوريا، 75% منهم نساء وأطفال. وكان أكثر هذه الرحلات مأساوية لدى مصرع 225 سوريا يوم 19 أبريل/نيسان الماضي قبالة السواحل الليبية. وأكد التقرير أن هذه الحصيلة هي الحد الأدنى مما أمكن توثيقه.

وعن المشكلات التي يواجهها اللاجئون في دول الجوار، كشف التقرير أن التعليم يتقدمها إذ تقدر نسبة عدم الالتحاق بالمدارس بـ40% للأطفال وطلاب الجامعات، إضافة إلى مشاكل من قبيل سوء التغذية وعدم توفر المياه الصالحة للشرب وتردي الخدمات الطبية. كما تحدث عن مشكلات أخرى بينها العنصرية وظروف السكن والحصول على جنسية في بلد اللجوء.

وأشار التقرير إلى أن الدول الغربية مقصرة في استقبال اللاجئين السوريين، وكانت بريطانيا الأسوأ إذ بلغ عدد اللاجئين فيها أقل من مئة، كما ترفض سلطات الهجرة فيها قبول أي طلب أو أية حالة إنسانية حتى في حالة وجود قرابة من الدرجة الأولى تحمل الجنسية البريطانية.

ولم يختلف الشأن مع الولايات المتحدة الأميركية التي ظلت -رغم إنفاقها مبالغ مالية ضخمة لمساعدة اللاجئين- مقصرة على صعيد استقبال اللاجئين السوريين كما يقول التقرير، إذ لا يتجاوز عددهم مئتا شخص.

معالجة جذرية

وطالب التقرير بضرورة قيام المجتمع الدولي بمعالجة جذرية لمشكلة اللاجئين، مشيرا إلى أن السبب الرئيسي في فرار هؤلاء اللاجئين من بلادهم هو عمليات القتل اليومية والقصف والتدمير والاعتداء على النساء.

كما أوصى بزيادة المساعدة للنازحين داخل سوريا والذين تجاوزت أعدادهم 6.4 ملايين شخص، مؤكدا أن ذلك سيخفف بشكل كبير من النزوح.

وطالب أيضا بالتحقيق ومحاسبة المتورطين في سرقات وفساد تمثلت بقيام النظام بالتنسيق مع بعض العاملين الدوليين داخل الأراضي السورية لتحويل أكثر من 90% من المساعدات إلى المناطق المؤيدة للنظام.

وشدد التقرير أيضا على ضرورة إيفاء المجتمع الدولي بتعهداته المالية واللوجستية التي وعد بتقديمها للاجئين السوريين، وزيادتها بالتوازي مع الارتفاع الهائل في أعداد اللاجئين شهريا.

البحر المتوسط يجلدنا أيضاً/ سمير الزبن

من يستطيع لوم الضحايا، لأنهم يسعون إلى الهروب من جلادهم؟ من يستطيع لومهم، وهم يهربون بأطفالهم من الموت؟ من يستطيع لوم الضحايا، وهم يبحثون عن الطرق المستحيلة للوصول إلى الأمان؟

كل موت يدفع إلى الهروب، وكلنا يحاول تجنب محرقة تأكل الجميع، وأقل ما يقال في الوضع السوري المستعصي على الحل إنه محرقة لا تشبع في التهام أبناء تلك الأرض. كل حرب تخلق مهجريها، وكلما كانت الحرب أكثر قسوة كان ضحاياها أكثر ومهجروها أكثر. صنع القمع الوحشي لنظام الاستبداد في دمشق أكبر مشكلة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. اليوم، نصف السوريين خارج بيوتهم، وهذا يعني 12 مليون لاجئ، نازحين داخلياً، أو لاجئين خارجياً. ولا نبالغ إذ قلنا إن كل السوريين اليوم إما لاجئ عند آخرين، أو أنه يستضيف لاجئين. وإذا أضفنا إلى هذه المأساة عدد ضحايا القمع والقصف الوحشي الذي وصل إلى ما يقرب من 300 ألف قتيل ومئات آلاف المعوقين، ومئات آلاف البيوت المدمرة، والمدن المحاصرة والمجوعة، فتصبح الكارثة السورية التي أحدثها النظام في بلده أكبر من أن تحصر أو توصف.

كانت بلدان الجوار المستقبل الأول للاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين، لكن استمرار الوضع السوري على حاله، جعل هذه البلدان تضيق على اللاجئين. وتوسع قمع النظام باستخدام أدوات ووسائل أكثر فتكا، قصف الطائرات والبراميل المتفجرة والسلاح الكيميائي جعل حياة اللاجئين تساوي الجحيم، فلم يعد أمامهم خيارات، أصبحت النجاة تعني كل شيء. وما إن أعلنت الدول الأوروبية أن السوريين والفلسطينيين السوريين فئات تستحق الحماية، بسبب ما يحدث في بلدهم، حتى أصبحت هذه البلدان وجهة كل من يستطيع ذلك، وبكل السبل الممكنة والمستحيلة. عن طريق تركيا مرورا باليونان أو إيطاليا، وصولا إلى الدول المستهدفة، ألمانيا وهولندا والدول الاسكندنافية. وموجة كبيرة غادرت من مصر إلى إيطاليا، وصولا إلى الدول المستهدفة في العامين 2013 و2014، أو عبر ليبيا خلال العامين نفسيهما. غادر كثيرون ممن يملكون القدرة المالية، واستدان كثيرون وراكموا الديون على أنفسهم، في محاولة للخروج من دوامة القتل والعوز المستمرة في سورية.

لم يكن البحر رحيما بالسوريين خاصة، واللاجئين إجمالا، فمنذ بدء العام الجاري، لقي 1800 مهاجر غير قانوني مصرعهم غرقا في مياه البحر المتوسط، بزيادة تقارب 20 ضعفا أكثر من العام الماضي، حسب bbc (أعتقد أن الرقم أكثر من ذلك بكثير، لأن الجثث تقريبا تطفو يوميا على السواحل الجنوبية من المتوسط، خصوصاً على الشواطئ الليبية والتونسية، وأعتقد أن الأرقام التي تتحدث عنها bbc تشمل فقط الجثث التي ينتشلها الأوروبيون). هذا على الرغم من زيادة الصعوبات في وجه الهجرة غير الشرعية، فقد تراجعت في مصر، بسبب الإجراءات الأمنية الصارمة على الشواطئ المصرية من جهة، ولمنع السلطات المصرية دخول السوريين والفلسطينيين السوريين الأراضي المصرية منذ حوالي عامين من جهة أخرى، وكان هؤلاء العماد الأساسي للهجرة غير الشرعية من مصر خلال العامين المنصرمين. وتراجعت أعداد الذاهبين عن طريق ليبيا من السوريين والفلسطينيين، بسبب المخاطر الأمنية المتزايدة من ليبيا، وبسبب طول الرحلة التي يضطر فيها بعضهم الدخول إلى ليبيا عن طريق السودان برا، وهي رحلة محفوفة بالمخاطر، وقد قضى كثيرون في الطريق إلى مدينة زوارة الليبية التي تعتبر مركز التهريب في ليبيا. وتزداد أوضاع المهاجرين في تركيا تعقيدا أيضاً، بعد تشديد السلطات التركية الإجراءات الأمنية لوقف هذه الهجرة أو الحد منها على الأقل. وعندما يتم التضييق على المهاجرين أكثر، يزداد استخدامهم لوسائل نقل أقل أمانا من التي كانوا يستخدمونها سابقا.

وفي الوقت نفسه، تزداد شراهة مصاصي الدماء من المهربين الذي يضعون أعداداً كبيرة في زوارق متهالكة، أعداداً تفوق الوصف والتصور، فلا يستطيع ركاب هذه الزوارق المتهالكة التحرك من شدة الازدحام على متنها.

“هناك من المهاجرين من عبر كل أوروبا سيرا على الأقدام، ودامت الرحلة أكثر من عام” لا تقل تجربة الهجرة غير الشرعية خطراً عن الحرب نفسها، وكل من خاض هذه التجربة، أو خاضها أحد من عائلته، يعرف حجم المعاناة التي تسببها هكذا رحلة محفوفة بخطر الموت الذي يكاد يكون محدقا. ولا شيء يجعل هذه التجربة مبررة سوى إمكانية نجاحها. ففي وقت يخاطر المهاجر مرة واحدة بالموت، فإذا نجح في الوصول إلى بر الأمان، فإن عائلته ستلحق به بعد حين. أما من ينجو في الوطن المنكوب، فهو عرضة، من جديد وفي كل وقت، لخطر الموت، إنه الموت المتربص به وبأحبته، طوال الوقت، عليه أن ينجو في كل مرة، بينما على المهاجر أن ينجو مرة واحدة فقط.

عندما قبض ضابط الأمن المصري، في العام قبل الماضي، على مجموعة من العائلات، كان أولادي وأمهم من بينهم، حاولت مغادرة الأرضي المصرية، عبر رحلات الموت إلى الشاطئ الشمالي للمتوسط، ابني الذي غادر دمشق إلى القاهرة مع أخيه وأمه في 21 / 8 / 2014، في يوم قصف النظام السوري الغوطة الشرقية بالكيماوي، سأل الضابط المصري: لماذا ألقيت القبض علينا؟ قال الضابط: لأحميكم من الموت. ابتسم ابني الشاب ابتسامة مرّة وساخرة، وقال: هربنا من الموت، وأنت تعيدنا إليه، وتقول أحميكم من الموت، أي تفاهة تتحدث عنها؟

عمليا، لم يفعل الضابط المصري، سوى إطالة رحلة أولادي وزيادة كلفتها، فقد أعاد أولادي المحاولة بعد ستة أشهر، عبر ليبيا، لينجحا في الوصول، وكانوا من المحظوظين، لأن غيرهم لم يصلوا، وآخرون تمت سرقتهم ولم يصلوا. إنه التعامل مع العالم السفلي، عالم الجريمة الذي يتجمع فيه أردأ أنواع من المجرمين السفلة. كانت رحلة رعب حقيقية لي ولهم، رحلة لا أتمناها لعدو وليس لصديق.

عندما تُغلق الطرق في وجه البشر، فهم يحفرون الطرق الخلفية، ويحفرون حتى الأنفاق بأظافرهم، ليصلوا إلى الأمان، المضطر يركب الموت، والذي تلاحقه القذائف، سيبقى يحاول العبور إلى شاطئ الأمان، مهما كان الثمن. هناك من المهاجرين من عبر كل أوروبا سيرا على الأقدام، ودامت الرحلة أكثر من عام، لا أتحدث عن حالة نادرة، بل عن حالات كثيرة سارت كل هذه المسافة على أقدامها، بكل الشروط المناخية والطبيعية القاسية. الهروب من الموت يستحق المحاولة، حتى لو اضطر المرء إلى ركوب الموت نفسه، هذا ما فعله ويفعله السوريون والفلسطينيون السوريون الأمس واليوم. وهذا مسار من مسارات رواية النكبة السورية الكبرى.

العربي الجديد

اللجوء السوري في الجوار والعالم/ عبد الجليل زيد المرهون*

كيف يبدو وضع اللجوء السوري الراهن، وما مؤشراته الكمية؟ ما أبرز التحديات التي تواجهها جموع اللاجئين؟ وماذا عن موسم الهجرة السورية إلى الغرب؟

أولا: بعض المؤشرات الكمية

في 29 أغسطس/آب 2014، تجاوز عدد اللاجئين السوريين حاجز الثلاثة ملايين، فيما بلغ عدد النازحين داخلياً حوالي 6.5 ملايين نسمة. وقد جاء ذلك في بيان أصدرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

ووفقاً لهذه المعطيات، بات السوريون يمثلون أكبر عدد للاجئين في العالم ممن ترعاهم المفوضية السامية. ويأتي بعدهم الأفغان والصوماليون.

وتضطلع المفوضية السامية، من خلال ولايتها الأساسية، بمهمة مساعدة اللاجئين، إلا أنه -وعلى مدى العقود الستة الماضية- توسع عملها ليشمل مساعدة الكثير من النازحين داخلياً، إضافة إلى عديمي الجنسية حول العالم.

وتعتبر العمليات الراهنة الخاصة بسوريا الأضخم من نوعها في تاريخ المفوضية السامية، وذلك منذ نشأتها قبل 64 عاما. وتوصف هذه العمليات بأنها أكبر حالة طوارئ إنسانية في عصرنا الراهن.

وتمارس المفوضية السامية أنشطتها في سوريا من خلال 425 موظفا، يعملون في سبعة مكاتب، جرى افتتاحها في كل من دمشق وحمص وحلب والحسكة وطرطوس والسويداء والقامشلي.

وفي دول الجوار السوري الأربع ومصر، هناك ما يزيد على 150 منظمة تعمل مع اللاجئين السوريين، من بينها المفوضية السامية ووكالات أخرى تابعة للأمم المتحدة، ومنظمات غير حكومية وطنية ودولية، الصليب الأحمر، الهلال الأحمر، ومنظمة الهجرة الدولية.

حاجة ماسة

وقد أعلنت الأمم المتحدة مؤخراً أن هناك حاجة لتوفير أكثر من ملياري دولار، قبل نهاية العام الجاري، من أجل تلبية الضرورات الملحة للاجئين السورين، وأن المبالغ المتاحة لهذا الغرض لا تغطي أكثر من 30%، الأمر الذي يعني أن المعاناة ستبقى على حالها، وربما تزداد وطأة.

وكانت الأمم المتحدة قد دعت الجهات المانحة لتمويل برنامج إغاثي للاجئين السوريين بقيمة 3.74 مليارات دولار، ينفذ في دول الجوار الأربع ومصر، خلال العام 2014، بيد أنها لم تحصل -حتى يوليو/تموز الماضي- سوى على نحو 1.1 مليار دولار.

وأطلقت المنظمة الدولية تحذيرا من المخاطر الجسيمة التي قد تنشأ عن استمرار الثغرات المتزايدة في التمويل.

وعلى الرغم من انتشار اللاجئين السوريين بعدد واسع من الدول، فإن غالبيتهم العظمى تتركز في دول الجوار الأربع.

ويحتل لبنان الكثافة الأعلى بين هذه الدول (1.14 مليون)، تليه تركيا (815 ألفا)، ثم الأردن (608 آلاف).

وفي العراق، تجاوز العدد ثلاثمائة ألف لاجئ، يقيم معظمهم بإقليم كردستان. وفي مصر، يوجد 137.5 ألف لاجئ سوري مسجل لدى المفوضية السامية. بيد أن الرقم الفعلي تجاوز مائتي ألف.

ويعتبر الأطفال مكوناً كبيراً بمجموع اللاجئين السوريين. وتشير الأمم المتحدة إلى أنه جرى تسجيل ما يزيد على 1.1 مليون طفل سوري حول العالم كلاجئين.

ثانيا: نمط التحديات المثارة

وقد جرى تنظيم حقوق اللاجئين في عدد كبير من المواثيق الدولية، منها اتفاقية جنيف لعام 1949، واتفاقية حقوق اللاجئين لعام 1951 التي دُعمت ببروتوكول عام 1967.

وفي حين أن إنهاء الصراعات يتطلب حلولاً سياسية، فإن الهيئات الإنسانية والمدنية معنية أيضاً بالاستثمار في سبل العيش والتعليم والصحة، لتعزيز فرص الحياة الكريمة بين اللاجئين.

وفيما يرتبط بالحالة السورية، تشير كافة التقارير الدولية إلى ظروف صعبة وقاهرة يعيشها اللاجئون السوريون، فهم يواجهون شظف العيش، وشح المعونات، ومرارة التمييز، وثقل القيود القانونية المجحفة والاعتباطية. كما يتعرضون لحملات عدائية وعنصرية. ويعاني ضعافهم بشاعة الاستغلال في سوق عمل جائر لا رحمة فيه.

مشكلة التعليم

ومن بين التحديات الرئيسية التي تواجه اللاجئين السورين، بدول الجوار خاصة، تبرز قضية توفير المأوى والمسكن المناسب، الذي يكفل سلامة الأسر، ويضمن قدرتها على تحمل العوامل المناخية المختلفة.

ووفقاً للأمم المتحدة، فقد أنشئ عام 2013 خمسة عشر مخيما جديدا: سبعة بتركيا، ومثلها بالعراق، ومخيم بالأردن.

وعلى الرغم من ذلك، يفوق عدد اللاجئين الذين يعيشون خارج المخيمات بنسبة كبيرة عدد من يعيشون فيها، حيث يزيدون على 82% من إجمالي اللاجئين السوريين. وتتراوح هذه النسبة بين 100% في مصر ولبنان، و60% بالعراق وتركيا.

وبالأرقام، هناك حوالي 860 ألف لاجئ سوري يعيشون حالياً خارج المخيمات، في مآوٍ متهالكة في الغالب، تتوزع على مناطق مختلفة من دول المنطقة الخمس.

من جهة أخرى، تبرز مسألة التعليم كتحد آخر يواجه اللاجئين السوريين بمختلف دول وجودهم. وحالياً تضم المدارس الرسمية بدول الجوار ومصر نحو 350 ألف طفل سوري. وتشير الأمم المتحدة إلى أن معدلات الالتحاق بالتعليم بين الأطفال السوريين منخفضة للغاية على مدار العام في كافة البلدان المضيفة.

ووفقاً لبيانات المنظمة الدولية، فإن ما يزيد على مائة ألف طفل سوري في الأردن لم يلتحقوا بالتعليم النظامي. وقد يكون في لبنان ضعف هذا العدد من الأطفال اللاجئين الذين لا يحصلون على التعليم.

ويُرجح أن يتجاوز قريباً عدد الأطفال السوريين في لبنان، ممن هم في سن المدرسة، عدد الأطفال اللبنانيين الذين التحقوا بنظام التعليم العام في السنة الدراسية 2013-2014.

ويرتبط معدل الالتحاق المنخفض بالتعليم بين الأطفال السوريين في دول اللجوء بمجموعة عوامل تشمل القدرة الاستيعابية للمدارس المحلية، وتكلفة الرسوم التعليمية في بعض الحالات، والمنهج الدراسي المغاير، ومشكلة اللغة الأساسية أو الثانوية، والمسافة الطويلة التي تفصل بعض تجمعات اللاجئين عن المدارس.

وفي الحقيقة، فإن سوريا معرضة لأن يكون لديها جيل منفصل عن التعلم والتعليم. وستكون هذه كارثة وطنية كبرى لا سابق لها، ولا نظير لها في أي من أزمات العالم وصراعاته. إنه ناقوس خطر يجب أن يقرعه الجميع قبل فوات الأوان.

ثالثا: التطلّع لأوروبا

وبموازاة ما يُمكن إثارته عن وضع اللاجئين بدول المنطقة، بدت قضية الهجرة السرية للغرب نوعا جديدا من المخاطر، التي تلقي بظلالها الآن على آلاف السوريين.

في العام 2013، تقدم السوريون بـ64300 طلب لجوء إلى دول الغرب، متفوقين بذلك على كافة الجنسيات. تلاهم طالبو اللجوء من جمهورية الكونغو الديمقراطية (60400) وميانمار (57400).

وازداد عدد السوريين الذين استقبلهم الاتحاد الأوروبي عام 2013 بنحو الضعف مقارنة بعام 2012. وتم استقبال 12 ألف منهم بالسويد، وهي النسبة الأكبر.

ووفقاً لما يجري تداوله الآن، فهناك شبكات متخصصة في تهريب الأفراد من سوريا إلى أوروبا، تحصل على مليون و650 ألف ليرة سورية مقابل كل فرد.

ويجري الاتفاق على دفع المبالغ بالتقسيط، عبر الأهل أو الأصدقاء من خلال مكاتب التحويل، حتى يتم الوصول إلى الدولة النهائية المتفق عليها.

ويلجأ المهربون على نحو متزايد إلى ابتزاز زبائنهم، بحيث يطلبون منهم دفع مبالغ أكثر من تلك المتفق عليها. وفي كثير من الأحيان يتمُّ ذلك عن طريق احتجازهم خلال الطريق، أو حتى عند وصولهم إلى الوجهة المقصودة.

وغالباً ما يمر الطريق نحو المقصد النهائي عبر اليونان وصربيا، كما يسافر البعض من سوريا إلى مصر أو الجزائر، ومنها ينطلقون إلى ليبيا، ثم يبحرون بقوارب المهربين إلى إيطاليا أو مالطا. ومن هناك يتم التحرك عادة نحو ألمانيا أو الدول الإسكندنافية.

وحتى وقت قريب، كانت منطقة الحدود اليونانية مع تركيا، التي تمتد لمسافة مائتي كيلومتر، تمثل الصدع الأكبر بجدران أوروبا الحصينة، حيث يدخل منها غالبية المهاجرين السوريين لدول الاتحاد الأوروبي.

وخلال الفترة بين يناير/كانون الثاني 2010 وأغسطس/آب 2012، تمكن ما لا يقل عن 87 ألف شخص من دخول اليونان عبر هذه النقطة، مثل السوريون النسبة الكبرى منهم.

وفي الوقت الراهن، تعتبر بلغاريا وجهة رئيسية للمهاجرين السوريين لأوروبا. وفي سبتمبر/أيلول 2013 وحده، تم احتجاز 2377 شخصا على الحدود التركية البلغارية، بينهم 1635 سوريًا.

وعلى ضوء هذا التطوّر، بدأت السلطات البلغارية مشروعاً لبناء سياج حدودي بالقرب من إحدى القرى المجاورة لتركيا، من المقرر أن يغطي نحو 30 كيلومتراً، من الحدود التي يبلغ طولها 280 كيلومتراً.

وتوجد حالياً ست محطات مراقبة ثابتة على هذه الحدود، تستخدم الرادار وكاميرات التصوير الحي، إضافة إلى 47 كاميرا صغيرة، وخمس محطات مراقبة متحركة، فضلاً عن الدوريات الأمنية المتحركة.

وإضافة للمسار البري، بدا الطريق البحري ناشطاً هو الآخر، في موسم الهجرة عبر المتوسط، التي قد تكون الحياة ثمنها.

وتشير الأمم المتحدة إلى أن نحو 1889 شخصا فروا من أفريقيا والشرق الأوسط لقوا حتفهم غرقا بمياه البحر المتوسط في العام 2014، بينهم 1600 شخص منذ بداية يونيو/حزيران. وكان في تعدادهم الكثير من الأسر السورية، التي انطلقت غالبا من مصر أو ليبيا.

وكما سبقت الإشارة، تعتبر إيطاليا ومالطا الوجهة الأولى لمهاجري قوارب الموت عبر المتوسط، على أمل أن يذهب الناجون منهم لاحقاً إلى دول أوروبية أخرى، إن تمكنوا من ذلك.

والقاعدة المطبقة في دول الاتحاد الأوروبي هي أن يتحمل أول بلد يصل إليه المهاجر مسؤولية منحه اللجوء السياسي أو الإنساني واستضافته. وتنتقد دول جنوب أوروبا هذا النظام، المعروف باتفاق دبلن، والذي لم يتم تطويره منذ أن طبق للمرة الأولى في العام 2002.

وقد رفض رؤساء وزراء ألمانيا والسويد والدانمارك فكرة تعديل هذا الاتفاق. كما عارضت 24 دولة، من أصل 28، تخفيف القواعد الخاصة بالهجرة عندما جرت مناقشة الأمر.

وما يُمكن قوله خلاصة، هو أن مسار الهجرة المحفوف بالمخاطر من سوريا لأوروبا يُمثل بُعداً آخر في مشهد التشرد الذي يعانيه السوريون منذ أكثر من ثلاثة أعوام. وهو لا يقل في جوهره مأساة عن النزوح الداخلي أو اللجوء إلى دول الجوار.

إن معاناة ما يزيد على ثلاثة ملايين لاجئ سوري ستبقى قائمة حتى يوم عودتهم إلى دفء الوطن. وخلال ذلك، يجب على الأسرة الدولية تحمل مسؤولياتها حيال هؤلاء اللاجئين وفقاً لأحكام القانون الدولي الإنساني، التي يجب أن تتقدم -في هذه الحالة- على القوانين المحلية في أي من الدول المضيفة.

كذلك، فإن قوى وهيئات المجتمع المدني، داخل سوريا وخارجها، معنية بتعزيز دورها في عمليات الدعم الإغاثي والرعاية الأساسية لعموم اللاجئين السوريين، وخاصة في ضوء إعلان الوكالات الدولية المتكرر أن حجم الأزمة يتجاوز إمكاناتها وقدراتها المالية والتنظيمية، وأن الوضع بات خارج السيطرة، أو قريباً من ذلك.

——————

* باحث وخبير إستراتيجي متخصص في شؤون النظام الإقليمي الخليجي. عمل وساهم في عدد من مراكز الأبحاث العربية، من مواليد البحرين 1962

الجزيرة نت

الهجرة غير القانونية وحلول الاتحاد الأوروبي/ روعة أوجيه

من اجتماعٍ مخيّبٍ للآمال، إلى مزيدٍ من الخيبة، مرّر الاتحاد الأوروبي، مرّة تلو الأخرى، قراراته بشأن الهجرة غير القانونية. والآن، ينتظر الضوء الأخضر من مجلس الأمن الدولي لملاحقة مراكب الهجرة غير النظامية في كل أنحاء البحر المتوسط وتدميرها، بغض النظر عن سيادة الدول على مياهها الإقليمية، “فالعدو” الذي يحشد قوى أوروبا لا يعرف حدوداً، وهو هذا “الطوفان” من المهاجرين غير القانونيين.

هي ليست هجرة غير شرعية، فالهجرة حقّ شرعي لكل إنسان. وأمام هذا الحقّ، يقف الاتحاد الأوروبي حاملاً شرائعه لحقوق الإنسان التي يتغنّى بأنّها أكثر تقدّماً من مفاهيم منظمة الأمم المتّحدة. لكن، في الكف الآخر، تحمل كلّ دولة أوروبية هواجسها من الهجرة، من ارتفاع البطالة، من ارتفاع نفقات المساعدات الاجتماعية، من الفروق الاجتماعية والثقافية. فيفضّل كثيرون إغلاق أبواب اللجوء، لتفادي تشجيع مزيدٍ من الباحثين عن أرض سلام، عن أي قشة تنتشلهم من واقعهم المظلم.

وعلى الضفة الأخرى، يشكل تهريب اللاجئين مصدر رزقٍ يغري أي صاحب مركب، وأي قادرٍ على المشاركة في منظومة التهريب. قبل الفوضى في ليبيا، وقبل الحرب في سورية، وقبل الربيع العربي وبعده، كان آلافٌ يبحثون عن سبل الوصول إلى أوروبا. وكان كثيرون يعملون على تمريرهم. من موريتانيا، من المغرب، من الجزائر، من تونس، من مصر، من تركيا، من أي بلدٍ له منفذ قد يودي إلى أوروبا. ربما ليس بالأعداد التي نراها منذ أربع سنوات، لكنّ تهريب المهاجرين كان موجوداً منذ وُجدت الفروق في مستوى الحياة بين الشمال والجنوب. ومنذ قدم عمليات تهريب البشر، قضى المئات وربما الآلاف. لكن، أيضاً، ليس بالأعداد التي نراها الآن.

“سفارات دول الموقوفين شبه مقفلة، العلاقات الدبلوماسية مع دولٍ أخرى، مثل سورية، مقطوعة، وبالتالي، ترحيلهم إلى بلادهم يكاد يكون أقرب إلى المهمة المستحيلة. وحتى عند نجاحها، يعاود أغلب هؤلاء الكرّة، إلى أن يصلوا.. أو يغرقوا!” قبل أسابيع، هزّ العالم رقمٌ كبير. ثمانمائة. لم تقتلهم براميل الأسد المتفجّرة، ولا سكاكين داعش، ولا حتّى طيران التحالف، لم يقتلهم الحصار المستمرّ على غزة، ولا النزاع المسلّح في ليبيا. ثمانمائة، قتلهم البحر المتوسّط في ضربةٍ واحدة. غرقوا في يأسهم، في أحلامهم البسيطة ببعض الأمان، ولقمة عيش. غرقوا في جشع تجّار وجدوا في اليأس استثماراً مربحاً. غرقوا في حرص الدول الغربية على تقنين الهجرة إليها، وتفضيل أولوية أمنهم على حق الآخر أيضاً في عيشٍ كريم. غرقوا في أوطانٍ، تقذفهم بعيداً عنها، بعيداً عن صراعاتها، بعيداً عن عجزها.

ثمانمائة في حادثة واحدة، قد تكون أكبر مجزرةٍ شهدها البحر المتوسط. لكنّ المؤلم أن هذه الحادثة تكاد تتكرّر يومياً، يختلف عدد الركاب، وتختلف الجنسيات. لكن، مع بدء موسم هدوء البحر، الأكيد أننا سنشهد مزيداً من محاولات العبور غير القانونية، وبالتالي، مزيداً من حوادث الغرق، وفق توقعات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والتي وثّقت ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة الهجرة غير القانونية، منذ بداية العام، مقارنةً في العام السابق. كيف لا والأزمات عالمياً في تزايد، والحروب مفتوحة على مصراعيها.

محمّد، صومالي، 21 عاماً، يخبر الصحافة أنّه يفضّل الموت على العودة إلى الصومال. “أعود إلى الفقر؟ أعود إلى الاستيقاظ كل يوم على احتمال ألا أشهد مغيب الشمس؟” ويشرح محمّد، بعمليةٍ حسابية بسيطة، أنّ احتمال الموت في الصومال ليس أقلّ من احتمال الموت خلال الطريق إلى أوروبا. الفرق أنّه في الصومال إذا تخطى خطر الموت اليوم، سيعود ليواجهه غداً. أما إذا تخطى خطر الغرق في المتوسط اليوم، فغداً يستيقظ في أوروبا، وبعد أشهر يجد لنفسه عملاً، وبعد بضعة أعوام ربما الجنسية. العنصرية المتزايدة في الغرب تجاه المهاجرين، والمسلمين خصوصاً، لا تخيفه، فما يفرّ منه بنظره أسوأ بكثير. فهناك شقيقٌ مسلم يمكن أن يقتله حرفياً، أما الأوروبي فقلّما يتخطى العنصرية إلى القتل، برأيه. وعلى الرغم من أنه يأتي من دولةٍ لم يعرف فيها معنى القانون، لكنّه يؤمن بقدرة القانون في أوروبا على تحقيق نوعٍ من العدالة، على حماية حقوقه الأساسية.

كان محمّد قاب قوسين من الموت، أنقذه خفر السواحل الليبي، قبل أسابيع، وها هو في مركز احتجاز ينتظر الخروج ليعاود الكرّة. في ظل الفوضى الليبية، يكاد يكون مفاجئاً أنّ خفر السواحل أوقف أكثر من عشرين ألف مهاجرٍ منذ بداية العام فقط. لكن، ماذا بعد؟ سفارات دول الموقوفين شبه مقفلة، العلاقات الدبلوماسية مع دولٍ أخرى، مثل سورية، مقطوعة، وبالتالي، ترحيلهم إلى بلادهم يكاد يكون أقرب إلى المهمة المستحيلة. وحتى عند نجاحها، يعاود أغلب هؤلاء الكرّة، إلى أن يصلوا.. أو يغرقوا!

كانت إيطاليا قد وقّعت على اتفاقية مشتركة مع ليبيا، لمنح أربع سفن لخفر السواحل الليبي لتشكيل فرق عملية إنقاذ، لكنّها جمّدت التسليم في ظل انقسام السلطة في ليبيا. من هنا، أتت دعوة رئيس الحكومة الإيطالية، ماتيو رينزي، للسلام في ليبيا. لكن، ماذا بعد؟

هل يوقف السلام في ليبيا البراميل المتفجّرة في سورية؟ هل يؤمّن الاستقرار في ليبيا لقمة العيش في الصومال؟ كل ما سيحقّقه الغرب من عودة السلطة في ليبيا، عندما تعود، هو تخفيف وتيرة الهجرة غير القانونية، لكنّ نزيف بؤر الصراعات لن يتوقّف، وسيل المهاجرين لن يتوقّف، وتجّار البشر لن يتوقّفوا عن استغلال يأس الآلاف.

وبما أن خيار إحلال السلام في كل بقاع الأرض لا يبدو قريب المنال، الخيارات الواردة هي فتح أبواب الهجرة الشرعية واستقبال “كوتا” أكبر من اللاجئين، مع تعديلٍ لأنظمة إدماج المهاجرين في المجتمعات، بما يحدّ من الهواجس الأمنية للدول المضيفة. هذا ما يسعى إلى تحقيقه رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، أن يتمّ تخصيص كوتا لكل دولة لاستقبال اللاجئين بشكلٍ قانوني. كوتا يتم تحديدها وفق حجم كل دولة، وتعداد سكانها وثروتها وعدد اللاجئين الذين تستقبلهم حالياً. مشروع لا يمكن تمريره من دون موافقة الأعضاء الثمانية والعشرين للاتحاد الأوروبي. المفارقة أن الدول الكبرى جميعها وافقت، أما الدول التي تحفّظت وعرقلت تمريره في اجتماع الاتحاد، أخيراً، هي التي شكّل انضمامها إلى الاتحاد جدلاً، وطرح علامات استفهام حول فعالية ضم دولٍ فقيرة بمستوى بطالة مرتفع إلى منظومة الشنغن. هنغاريا وصفت فكرة الكوتا بالمجنونة، هي التي تغدق على الدول الصناعية الكبرى في أوروبا بمواطنيها للعمل بكلفةٍ أقل بفضل الشنغن.

“على المجتمع الدولي أن يستفيق، قبل أن يغرق ثمانمائة آخرون، ويعمل على تفعيل آليات مكافحة الاتجار بالبشر، وعلى تعزيز العقوبات ضد شبكات التهريب. فالاتجار بآمال الناس، ويأسهم، ومصائبهم، يكاد يرقى إلى جريمة حرب” في المقابل، وافقت كل الدول الأوروبية، مباشرة، على رفع ميزانية منظومة ترايتون من ثلاثة ملايين يورو إلى تسعة ملايين يورو، شهرياً! أي 180 مليون يورو سنوياً، لمنظومة خفر السواحل التي عليها، أوّلاً، محاولة تأمين عدم عبور المراكب غير القانونية، ثم عمليات الإنقاذ في حال الغرق. الأولوية تبقى لمنع العبور! يسعى مؤيدو فكرة غلق الحدود الأوروبية، أيضاً، إلى استصدار قانون من مجلس الأمن الدولي، يمنح خفر السواحل الأوروبية حقّ تدمير أي مركبٍ على الشواطئ المتوسطية، يشتبه في أنّه يُستخدم للتهريب. ما سيحرم مئات الصيادين من مصدر رزقهم حتماً. فأين يلجأ هؤلاء؟

هي حلقة مفرغة، ندور فيها. الفقر والبطالة تولّد النزاعات، والنزاعات تزيد الفقر والبطالة، والحقوق الأساسية تغيب في هذه المنظومة، ما يزيد نسبة اللجوء. في دول اللجوء، عدم إعطاء تأشيرة لا يغلق الحدود، بل يدفع اللاجئين إلى مهرّبي بشر، فتزيد المخاطرة واحتمال الموت.

وفتح أبواب اللجوء يزيد تعداد السكان، فتزيد البطالة، وتزيد المصاريف، وقد تنخفض التصنيفات الائتمانية، فترتفع الديون. والديون أهمّ من حقوق الإنسان، أو بالأحرى كل دولة، في نهاية المطاف، تغلّب حقّ مواطنها قبل حقّ أي إنسانٍ خارجٍ عنها.

وبيأس كثيرين في غزّة، وفي سورية، وفي إثيوبيا والصومال، وصولاً إلى أفغانستان، يتاجر مهرّبو البشر. وأمام تجّار اليأس، يبدو أن أوروبا تؤثر اللجوء إلى نشر ثقافة التعجيز.

مقترحات تدمير المراكب، زيادة الترحيل عبر تسريع إجراءات تصنيف المؤهلين لتقديم طلبات اللجوء من عدمهم، وحتّى محاولة غلق الحدود من دول المنشأ نفسها، عبر إعادة الأمن إلى ليبيا مثلاً.

حلّ النزاع في ليبيا محاولة مشكورة. زيادة كوتا اللاجئين، أيضاً، خطوة حميدة. لكنّ أسباب الهجرة عديدة، وطالما أنّ تجّار اليأس أحرارٌ يحمّلون المراكب بأكبر من طاقتها، يغرقون المساكين بجشعهم، ويمرّون من دون عقاب، لعلمهم أنّ ملاحقتهم عبر الدول أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، فإنّهم سيعيدون الكرّة، من دون تأنيب ضمير. جميع الاقتراحات، حتّى الآن، تركّز على المهاجر من جهة، وعلى دولة اللجوء من جهة أخرى. والكلّ يتناسى ربطة الوصل، لأنّها معضلة مستعصية، تحتاج مجهوداً يفضّل بعضهم تخصيصه لمكافحة ما يراه خطراً مباشراً عليه. لكن، على المجتمع الدولي أن يستفيق، قبل أن يغرق ثمانمائة آخرون، ويعمل على تفعيل آليات مكافحة الاتجار بالبشر، وعلى تعزيز العقوبات ضد شبكات التهريب. فالاتجار بآمال الناس، ويأسهم، ومصائبهم، يكاد يرقى إلى جريمة حرب.

لكن، قبل كل هؤلاء، من يضع المواطن العادي في دوامة اليأس هذه، هو المجرم الأكبر. فمتى يجتمع مجلس الأمن بدون فيتو ليحاسب هؤلاء؟

العربي الجديد

في مرسين حيث يعيش مئتا ألف سوري/ فاطمة ياسين

المدن التركية متاحة للسوري، هكذا تقول عيون الأتراك الذين يسيرون في الشارع، وهكذا تقول نخبتهم السياسية والاجتماعية. يمكن السوري أن ينتقي أيَّ مدينة على كامل جغرافيا بلاد الأناضول، لكن الأمر لا يصل إلى مرحلة الترف. فالسوري “الهارب” إلى تركيا لا يرغب إلا بأربعة جدران وسقف وكفاف يومه. الرخاء الحقيقي عندما يحصل على ذلك، وفوقه وصلة تتيح له الوصول إلى صفحات ميديا المجتمع، الـ”فايسبوك” أو غيرها. عندها يتحول السوري إلى أوناسيس صغير يمارس ثورته كما يريد وبكامل بحبوحة الحرية الرقمية.

من دمشق إلى بيروت أولاً محطة صغيرة وموقتة. يتهم الفندق الصغير نفسه بأنه فندق خمس نجوم، لكن ما يظهر من تواضع الأروقة والغرف يؤكد أنه لا ينتمي إلى ذلك الصنف. يبدو أن لدى منطقة الأوزاعي فكرة خاطئة عن فنادق النجمات الخمس، لكنها كانت ليلة لطيفة أضفى عليها فرحاً موقتاً العرسُ الصغير الذي كان يقام على حافة نافذة غرفتي. اختلستُ نظرات قليلة من التجمع السعيد بالعروسين وهربتُ إلى السرير الصغير. لم ينس القائمون على الفندق أن يجهزوا الغرفة بكل ما يحتاجه نزيلهم من الصابون والمناشف والأغطية، وكذلك سجادة الصلاة وسهم كبير يشير إلى اتجاه القبلة، وعلى سبيل الزيادة في التقوى كان هناك قرص رملي صغير عليه طبعة التربة الحسينية.

موظف الجوازات اللبناني متجهم الوجه يختم على ورقة الجواز بعد أن ينظر في وجه المغادر. النظرة تتحول إلى سهم من الشك، إن كان المغادر سورياً، لتتذكر أن اللاجئ غير مرغوب حتى بمروره من هنا. تنبعث، عفوياً، في رأسك الإحصاءات الرقمية لمنظمات الأمم المتحدة التي تشير إلى وجود مئات الألوف من اللاجئين السوريين والفلسطينيين على أرض لبنان الصغير، لتعطي عذراً إلى نظرات الازدراء أن تمر من خلال قلبك من دون أن تترك حقداً على شعب هذا البلد، لكنها لا تستطيع إلاّ أن تثير في النفس حزناً يميز حياة اللاجئ عن غيره من الناس. المهم أن الجواز يُختم في النهاية، ولا تلبث الطائرة أن تلفظك في مطار اسطنبول حيث “جيوش السوريين” تقف على شكل صفوف طويلة متعرجة لتصل إلى عامل الجوازات الصارم والسريع. صالات المطار خالية تماماً من صور أردوغان. وحده العلم التركي الأحمر يسيطر بأحجام ضخمة على المشهد، يطل من السقوف والجدران ويخيم على رؤوس الجميع. يتسلى الواقفون بصبر نافد في الصف، بالنظر بعضهم إلى بعض نظرات “تطبيق” أو عتب أو حتى استغراب، تتبخر كلها بمجرد الدخول خلف الحاجز الزجاجي إلى “الجنة” التركية.

قبل الوصول إلى مرسين كان لا بد من ركوب طائرة ثانية، والنزول بمدينة أضنة كمحطة إجبارية. يقترن اسم أضنة باتفاق يلحّ على التاريخ، رفض بموجبه إينونو طلب تشرشل دخول تركيا في الحرب ضد ألمانيا. ترك إينونو اسطنبول وأزمير وأحضر تشرشل إلى أضنة ليقول له: “حبيبي لن نشارك في الحرب”.

طائرة صغيرة وركاب محليون بعضهم ذوو مظاهر ريفية، يملأون الطائرة عن آخرها. يصعب قطع مسافة ألف كيلومتر في السيارة ويرغب الكثيرون تحمل “أخطار” الطائرات لاختصار زمن السفر. في مطار أضنة الصغير يجب أن تنتظر حقائبك الآتية من بيروت مباشرةً وليس من اسطنبول، كما هي حالك أنت “الانسان”. في وسط ساحة المطار الخالية، يمكنك أن تتابع الإجراءات من خلال زجاج الصالات، فعربات نقل الحقائب تتقدم ببطء كعربات القطار، والسير المطاطي يتحرك مُصدراً جلبة عالية، والحقائب تتقلب فوقه منتظرةً من يحملها. تحركت كوكبة المسافرين سيراً على الأقدام إلى مبنى المسافرين. بحثتُ عن وجوه تنتظرني. ذهب الجميع. حتى مَن أضاع حقائبه، أسقط في يده ورحل. بقيت وحيدةً مع شرطي الحراسة. ابتسم وابتسمت. كلّمتُه بالعربية فهزّ رأسه. كلّمتُه بالإنكليزية، فهزّ رأسه بالطريقة نفسها. ثم تركني ليتابع العبث بسلسلة مفاتيحه.

كان قطار الحقائب يُصدر جلبة خفيفة بعدما أفرغ حمولته. قبضتُ بشدة على حامل حقيبتي وسحبتُها خلفي مستسلمة. الهواء في الخارج كان منعشاً وبارداً، كأنه خروج من حمّام بمياه ساخنة إلى الهواء الطلق.

ضياع في بلاد مندريس

بعدما فقدتُ الأمل من حضور صديقتي، التي كان من المفترض أن تنتظرني في المطار، أخذتُ تاكسي وقصدتُ بيتها بحسب العنوان الذي كانت قد أرسلته إليَّ. السائق الهادئ الذي يحمل ملامح تتارية يتعامل مع الشوارع بمقود محترف. يبدو أنه يعرف كل تفاصيلها. يتبرم من دون أن يفقد أعصابه، ويصرح بكلمات غير مفهومة عن همومه. الغيمة التي ينفخها حديثه داخل السيارة أنبأتني بأن هذا الرجل مستاء على رغم التقاطيع التتارية البريئة التي تميزه. يحاول الحديث في السياسة فتخونه العبارات عبر حاجز اللغة الكتيم، فيفضل الصمت مع هزات رأس عنيفة يعبّر بها عن حنق كبير و”وعي سياسي” ليس له حدود.

كما في كل المدن الساحلية، الشارع الأهم في مرسين يحاذي البحر. كأن الاسفلت قد عقد معاهدة حسن جوار مع ملوحة البحر. يقول لي السائق وهو يرسم بيده في الهواء شكل طريق: هذا شارع عدنان مندريس. يلفظ الاسم بحيادية كأنه لا يعرف أن ذاكرة غوغل الالكترونية تحتفظ بصور الأبيض والأسود لهذا الرجل وهو يُساق إلى الإعدام شنقاً. تقول الصفحات إنه خرج من حزب أتاتورك ليؤسس حزباً جديداً يتغلب فيه على حزب إينونو، رفيق أتاتورك، وهو إينونو نفسه الذي رفض طلب تشرشل. تتفاخر صفحات كثيرة بأن مندريس أعاد الآذان باللغة العربية وفتح بعض المدارس الدينية التي أغلقها أتاتورك ومَن جاء بعده، وشقّ طريقاً من تركيا إلى أوروبا بانضمامه إلى حلف الناتو. صور مندريس تحت خشبة الإعدام أكثر شهرة من إنجازه التركي. يُعاد الاعتبار إليه بإطلاق اسمه على شارع مهم في مدينة جنوبية تدعى مرسين يحاول السائق أن يمر به لأتمكن من معاينة أهم ما في المدينة.

غربة اللغة

سلسلة طويلة من المطاعم والأبنية المتوسطة الارتفاع معظمها مطلي بالأبيض، يختار السائق أحدها ويشير إلى مطعم يعتبره أفضلها ويبتسم مزيلاً عن كاهله كل آثار الغضب السياسي الذي استبد به وهو يقول “غوزال تشوق غوزال”. ربما يتملص بهذه الطريقة من إيصالي إلى العنوان غير الواضح الذي قلته له، فنزلتُ إلى المطعم متفهمةً حالته. فاللغة التركية صعبة والأتراك في مرسين لا يجيدون لا الإنكليزية ولا الفرنسية. لا بد لك كـ”لاجئ” من قبول مواقف كهذه. في داخل المطعم لا تكاد تميز الوجوه. سحنات من كل الأنواع. لغط بالتركية، وهمهمة بلغة عربية خافتة، والطعام سيد الموقف. ينتقل العمال بأوعية فخارية يتصاعد البخار منها أو يحملون صواني ذات قطر صغير متخمة بالصحون الممتلئة بمواد خضراء وحمراء ولحوم معدة بطرق مبتكرة وشهية. اكتفيتُ بكأس صغيرة من الشاي. كان الجو بارداً لكن انكماش الجسد والتكور ضمن الثياب، يجعل مهمة البرد صعبة بوجود الشاي الساخن وورقتين من أوراق النعناع المرافقة تضفي على كأس الشاي مظهراً سلطانياً فاخراً.

استطعت بعد جهد أن أتوصل إلى استعارة هاتف من أحد نزلاء المطعم. أخرجتُ من جيبي ورقة صفراء كنت قد سجلتُ عليها رقم صديقتي، فاتصلتُ بها وأعلمتُها بوصولي وذكرتُ لها اسم المطعم الذي أنا فيه، معاتبةً إياها على عدم حضورها إلى المطار. حدّثتني عن مشكلة جرت معها صباحاً حالت دون قدومها، وطلبت نصف ساعة إضافية لتحضر إلى المطعم وتصطحبني. نمتُ بعدها ليلة طويلة، استمرت إلى الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم التالي، عندما أيقظتني يد صديقتي التي بدت مستعجلة لتأخذني إلى السوق وتريني بعض المشاهد المميزة في مدينة مرسين التركية.

سيتي سنتر أم فوروم؟

خابت آمالي عندما وجدت نفسي معها في مول كبير يدعى فوروم “forum”. المولات هنا في هذه المدينة المهملة ظاهرة طبيعية جداً وهي أكبر حجماً وأكثر تخديماً عن “سيتي سنتر”، المول الوحيد الذي كان موجوداً في كفر سوسة بقلب العاصمة دمشق، والذي كان تقصده الطبقة المخملية في سوريا بسبب ارتفاع أسعاره. كان المول صرحاً ضخماً يضاهي في حجمه حجم أحزاني، لكنني توقعت أن أشاهد معالم أكثر تميزاً لمدينة ساحلية قديمة كمرسين. الإطلالة من الأعلى على جامع أثري كبير ورؤية كلمات عربية تزين واجهات المحلات في المول، استحضرتا من ذاكرتي صوراً لمحلات الصالحية، أو شارع الحمرا، وتذكرت على وجه الخصوص دكاكين سوق الحميدية في الشام الذي أنشئ في زمن العثمانيين. لكن تلك المقاربة كانت مجحفة للعقل. فالمكان هنا مختلف أفقياً وشاقولياً، إذ من الصعب أن تنسى أنك الآن هنا في مرسين التركية حيث يقيم أكثر من مئتي ألف سوري.

المتسولون إلى المخيمات

بعد مرور ثلاث سنوات على لجوء السوريين، اختفت من مرسين مظاهر المتسولين الذين يملأون الشوارع، أو أصبحت نادرة، بعدما نُقلوا جميعاً وبالقوة إلى المخيمات المقامة لهم على الحدود السورية التركية، حيث انتظار الخبز والمعونات وكاميرات الفضائيات. لكن المشهد لا يخلو من بضعة أطفال استطاعوا الإفلات من يد البوليس التركي و”زيّنوا” بعض مفارق المدينة بثيابهم الملوّنة وأيديهم الصغيرة التي فعلت فيها شمس التشرد فعلها، لكنها لا تزال تحمل وروداً أو قطع بسكويت قليلة يمدّها الطفل أمام المارة ليستجدي. على الجانب الآخر يتعاطى التجار وأصحاب البيوت الأتراك بإيجابية أكبر مع المستأجر السوري. الابتسامة والمزاح باستجماع شتات ما يعرفونه باللغة العربية أو الانكليزية، ومحاولة تقديم المساعدات، ظاهرة موجودة بكثرة هنا في مرسين، يعامَل بها السوريون أصحاب رؤوس الأموال، الصغيرة منها والكبيرة.

بعض تجار حلب والشام واللاذقية استقروا هنا وقصدوا “المولات” والأسواق الكبيرة والصغيرة واستأجروا بيوتاً بعقود سنوية كأنهم قد فقدوا أيّ أمل، أو رغبة، بالعودة إلى الوطن. لا يخلو الأمر من شعورهم بالغبن الدائم وبأنهم لا يستوفون حقهم من الباعة وأصحاب المنازل. شارع كبير في سوق “تشارشيه” يدعى حارة “اللوادْءَة”، تسمية قديمة أطلقت عليه لكثرة ساكنيه من أصول لاذقانية لا يعرف الجيل الحديث منهم من اللغة العربية إلا كلمتين أو ثلاثا. في مرسين أيضاً شارع يدعى “كرد علي” معظم سكانه من الأكراد يتكلمون بلغتهم الكردية ويقيمون أفراحهم ونشاطاتهم هناك. في القرب منه بلدية يترأسها أكراد أيضاً لهم نشاطات غير مرضي عنها من حكومة البلاد لكنهم منتخبون وسلطتهم قائمة ويمارسون أعمالهم على أكمل وجه.

استطاع بعضُ السوريين من أصحاب المهن اليدوية (نجارة، حدادة، طهي)، الحصول على عمل، كل في مهنته، حتى لو بأجر قليل نسبياً. أما الجامعيون وأصحاب الشهادات العليا، فحزموا حقائبهم وغادروا، قاصدين أماكن أخرى، بعدما أصابهم اليأس من الحصول على عمل لهم في مرسين.

شمال سوريا جنوب تركيا

على رغم كل الصعوبات، فالعيش في الجنوب التركي على ضفاف المتوسط، على مقربة من الحدود السورية، له شيء من الحنين، وربما هو تمسك ضمني بالجغرافيا التي لفظت أبناءها. لكن الحنين يخفت مع وطأة الضغوط على السوري الذي تزداد لديه الرغبة بعبور هذا المتوسط في اتجاه الشمال الأوروبي. أخبار غرق القوارب البدائية وفظاظة التعامل مع حرس الحدود وكثافة الجثث الممددة على الشواطئ، لا تنقص من حدة الرغبة لدى السوري بالوصول إلى أوروبا، فيعتقد أن هذه المشاهد هي استثناء يثبت قاعدة، مفادها أن معظم من يركب البحر نحو الشمال سيصل، والله هو الموفق.

تتكاثر الأحاديث هنا في مرسين عن قصص وصول طريفة وغرائبية وتنعقد الحلقات الواسعة في المقاهي، حيث يتم تبادل أرقام هواتف المهربين وطرقهم وأوصافهم، ولا يخلو الأمر من تحذير من النصابين مع التذكير دائماً بالاستقرار السعيد (يعني قد ما تعذبت، بالأخير تكسب نفسك وعائلتك).

وأخيراً…

ينتظر السوري المرهق ويوغل في الانتظار بعد أن يقع ضحية نصّاب يدّعي أنه مهرّب، ويملّ زوايا مكاتب الحوالة في انتظار نقود، غالباً لن تأتي، ويزيد في صعوبة وصولها قانون غير رسمي يمنع السوري الذي لا يملك تذكرة إقامة من استلام أي تحويل مالي من طريق “الويسترن يونيون”، هنا في مرسين حيث يقاطعك موظف البنك أو البريد عندما يسمع لهجتك فيقول “سيستيم يوك”. يعني أن نظام التحويل متوقف، فتحتاج إلى كفيل تركي أو وسيط سوري لديه الكثير من العلاقات حتى تحصل على نقودك فتلعن كل شيء، ثم تستغفر الله وأنت تستجدي نهاية حرب قال عنها رئيس أكبر دولة في العالم: إنها طويلة وشاقة.

النهار

السير على المياه/ عزيز تبسي *

ليسوا من سبط الأنبياء الذين ساروا على المياه، في الوقت الذي تعثّر أتباعهم بالسّير على اليابسة. وليسوا من أرومة من كانوا يلمسوها بعصاهم فيتجمّد ماؤها ليعبروا بأمان ويبتلّ مطاردوهم في لجتها، ولم يقضوا في جوف حيتانها أياماً، قبل أن تترفق بعذاباتهم وتخرجهم محملين بأبجديات الصبر والمقدرة على مواجهة محن الوقوع في التهلكة.

هم من الذين لا يعرفون المياه إلا شحيحة، تقطر من صنابير نحاسية، يتبدّد ماؤها قبل الوصول إلى بيوتهم، وقد تسرّبت في دربها الطويل من شقوق الأنابيب المعدنية التي تآكلها الصدأ والثقوب التي لا تلتئم.. ومن توفرت له النعم منهم، قاده أهله إلى أحواض مائية، يستنشق ماءها ويزفره في سعال طويل.

قدّسوا اليابسة لثباتها تحت أقدامهم الزلقة، ولرحمتها بعظام أجدادهم، ولإحساسهم الدائم بعزم اللصوص سلبهم إياها. تراهم كأوتاد مدبّبة مدقوقين في ترابها السبخ، في صخرها الصوان، تلاصقوا بها حتى حملت وجوههم لون ترابها، وهي لما تزلّ تكرم أجسادهم الشابة الماضية إليها قبل الأوان، فتخصبهم في جوفها، لتستنبتهم شيح وزوفاء وإكليل جبل وطيّون وزعتر.. وشقائق نعمان.

لكنهم في هذه السنوات معنيون بعبور البحر من ضفة إلى ضفة. يقفون على الشاطئ فلا يرون الضفة الأخرى. “واسع هذا البحر، متباعدة ضفتاه”، “وعميق، أليس كذلك؟”

ها هو البحر من أمامهم والصحراء التي لا تنتهي من ورائهم. لكن مثل هذا الكلام لم يعد كافياً، تتوجب معرفة البلدان والكيفيات التي يتم العبور إليها، وشروط أصحاب القوارب وأجورهم واحتيالاتهم التي لا تنتهي، ومعرفة البلدان التي فقدت السيطرة على شواطئها، بفعل تدمير دولها وتبعثر ريح سلطتها.

في أول الترحل من مدينته إلى دمشق، نجا بأعاجيب من حواجز الثوار الذي خال نفسه واحداً منهم. وتيقن في عَمّان أن سقف مكانه، رغم الشهادات التي سهر الليالي ليحصلها، وحسبها ستعوّضه عن الضعف السلالي في عموده الفقري، لن يكون إلا “صبي المقهى” الذي عمل فيه على تقديم أكواب الشاي وفناجين القهوة، وإن ترقّى فسيعمل محاسباً فيه.

أوصلته المناقشات مع مَن باتوا يُعرَفون بـ “الجالية السورية” أو “النازحين السوريين” ربما تمييزاً عن “النازحين العراقيين” أو “اللاجئين الفلسطينيين”، وبعد التحريات الطويلة مع مَن التقى بهم منهم، أن ليبيا هي المكان المناسب للعبور الانتقالي. ليبيا التي وقعت بين جنون سلطتها وعنجهيتها، ودوسها على كل المطالب التي تقدم بها أبناؤها، وبين الحلف الأطلسي الذي لا يحمل من البرامج التحررية الافتراضية إلا الخراب، خراب الدول وتذرير المجتمعات، ومتابعة الإشراف على دمارها الذاتي، بعد العمل على إغلاق المخارج الممكنة. انتقل في البداية من عمان إلى الجزائر، بعدما تيقن من توقف الرحلات الجوية إلى ليبيا، وتعقد شروط الدخول إلى مصر. هبطت الطائرة في مطار “هواري بومدين” اسم الرئيس الراحل الذي يذكِّر بالثورة الجزائرية وبالمد التحرري للشعوب العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وقد يذكِّر بمآلهما كذلك.

انتقل بالطائرة مع مجموعة من السوريين، بعد إقامة يومين في العاصمة، إلى منطقة “وادي سوف” في الجنوب، ومنها تابع برحلة في البر استغرقت ست عشرة ساعة إلى منطقة “الدبداب”. هناك التقى بعائلات من سوريا فيها العديد من الأطفال والنساء، بينهن مرضعات وحوامل. “ترى كيف احتملن الوصول إلى هنا، وأنا الشاب المفرد أنهكت، ولا أحمل سوى حقيبة رياضية ولا أتحمل مسؤولية أحد”… ومن هناك انتقلوا إلى منطقة “عين ميناس” وهم داخل سيارات “جيب” أوصلتهم إلى الطرف الليبي من “غدامس”، حيث كان في انتظارهم أشخاص بسيارات عسكرية مستولى عليها، ولا تزال أبوابها تحتفظ بشعار وزارة الدفاع الليبية – هيئة الأركان. تأكد الحراس الليبيون الذين يرجّح أن يكونوا من “عشائر الزنتان”، من أعدادهم، قبل أن يدخلوهم إلى غرفة بيت ريفي.. وجلسوا بعد ذلك أمام نوافذه، يدخنون الحشيش طيلة الليل.

انتقلوا في الصباح من “غدامس” في الصحراء الليبية إلى “زوارة” على شاطئ البحر المتوسط، بشاحنة لنقل اللحوم المذبوحة، وكان عددهم ستين، منهم عشرون امرأة وطفل. تنشقوا خلال السفر ذاك الهواء من فتحة وحيدة في أعلى السقف.

تساءلوا حينما سمعوا اسم القوارب، “قوارب النجاة” هذه التي تتسرّب المياه من قاعها ويكاد يقلبها الموج الخفيف، إن كانت هذه كذلك، فإذاً ترى كيف تكون قوارب الموت. جمعتهم المصادفات في بيت أغلقت رتاجات أبوابه، كأنه سجن، تجمّعت في جوفه الجماعات المسلحة التي امتهنت التهريب البري، ممن يوصلهم إليها سماسرة، لتصطادهم بكمائن من وعود معسولة، رغم أنهم لا يحتاجون إلى من يصطادهم، فقد دفعتهم الأقدار إلى البحث عن هذه الجماعات التي اختبرت التهريب وعرفت أحابيله وكمائنه، ومكامن ضعف الكائنات البشرية الهاربة من أنظمتها وفقرها وذلها.

يحنّ المرء، وهو في عرض البحر، إلى أرض صلبة، تحتمل بصبر السير فوقها بأحذية خشنة، لا قارب يترنح، ويخرج الراكبون فيه كل ما في جوفهم.

– أينتظرك أحد في تلك البلاد، كأن يقف قبالة الشاطئ، ويلوّح لك بالمنديل، ويضمك إلى صدره لحظة تنزل على الرصيف.

– لا أحد ينتظرني. مَن انتظرني لسنوات واقفاً على الشرفة تركته هناك. والتفتَ بعناء، محرراً ذراعيه من ضغط الذين يجلسون قربه، وأشار بكفه إلى الخلف، فلم يرَ إلا البحر كموكب أزرق لانهائي.

انتظر الترحيل إلى مخيم جالساً على حجر، واضعاً حقيبته القماشية بين ساقيه.. ولحظة سمع رجال أفارقة يدّعون أمام اللجنة أنهم سوريون ليحظوا بالقبول وربما بالمعاملة الحسنة، بينما يفتقد أهلها كل يوم هذا الانتماء، أحس بعصائر حارة تتسرّب من مدامعه وتبلل وجهه، انحنى على حقيبته مخفياً وجهه، منتظراً سماع اسمه، لا بتلك اللكنة الإيطالية المضيافة، بل بصوت أمه الواقفة على الشرفة.

* كاتب من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى