صفحات الثقافةمنذر مصري

لاذقيتك سقط الدم من عينيها.. إلى محمد سيده


منذر مصري

محمد …

صديقي ومعلمي

لا أظنني أخدعك أو أخدع أحداً حين أختارك من بين كل أصدقائي، وغير أصدقائي، من الكتّاب الأحياء، لأخط لك هذه الرسالة، فكونك ميتاً، يسمح لي الآن أن أخاطبك على هواي، أقول لك ما أشاء وأقوِّلك ما أشاء. أنت الذي خلال صداقتنا، صداقة كل يوم، صباحاً وظهراً ومساءً، لثلاثة عقود ونصف (1968-2003)، كنت، تثبيتاً لخلافنا الإيديولوجي ورغبة منك في المنافسة الحرة بين شاعر بورجوازي وشاعر من الطبقة العاملة، تعارضني في كل كبيرة وصغيرة. كما أنها ليست أول مرة أفعل ذلك، من يعرفني يعلم أنني انتهزت فرصة موتك، وكتبت عنك ثلاث مقالات متتالية تحت شعار: (محمد سيدة .. لن أدعك تموت بسهولة). ويسرني لو أن هذا أيضاً يصل لمسامعك، كأن يصادفك في الطريق أحد أولئك الذين ما أن يلمحوك حتى يوقفوك ويخبروك أن شهرتي التي باتت تعم الآفاق، جاءت على حسابك، فهي تعود أول ما تعود لسرقاتي المستمرة من قصائدك، وذلك ليسمعوا منك، للمرة، لا أدري كم، تلك السلسلة من القصص التي تعرفها عني، فقد حدثت أمام سمعك وبصرك، والتي تكشفني على حقيقتي، بورجوازياً صغيراً، أنانياً، لا يهمه سوى شراء الثياب والتمخطر بها، يرسم ويكتب لا لغاية إنسانية أو أدبية سوى أن يكون معروفاً من قبل هذا وذاك، وليقيم علاقات مجانية تخلو من أي مبدأ مع الفتيات. ثم يأتون وينقلون لي ما رويته لهم، إضافة لبضع تعليقات، لم أكن أرى أنهم يحتاجونها، لعلمي أنك كنت تؤدي لهم المشهد بأفضل وجه، ولكنهم ربما كانوا يظنون أن هذا خليق به أن يضحكني كما يضحكهم، لكنه لم يكن يضحكني على الإطلاق، بل يدميني.

مرات. وأختك نجاح شاهدة على هذا، في خاتمة كل جفاء يحلّ بيننا، أنت من يذهب به لدرجة القطيعة، فتقول لمالك آني وهو واقف على شرفة بيته المطلة على الشارع: (.. نقطة انتهى، أنا ومنذر مصري لا يمكن أن نحيا على وجه أرض واحدة). فأظهر من وراء ظهره وأقول لك: (هات ودلني يا محمد على أرض ثانية لأذهب إليها). ولكني أذهب إليك وأعمل على مراضاتك وتطييب خاطرك، ذلك لأنني وبكل وضوح أصدق: (ليس أنا، ليس منذر مصري من يرضى أن يكون عدواً له إنسان كمحمد سيدة). لتعترف لي باستغراب ظاهري وبسرور خفي بأنني أنا دون الجميع من يحرص على صداقتك، وبأنني أنا وليس أنت من له الفضل في استمرارها. أما أنا فقد كان همي، رغم تثميني الشديد للصداقة، والدور الذي تلعبه في حياتي، أن أبقى كما كتبت لي على دفتر زوار أحد معارضي: (كيفما كنت وكيفما تلفتَّ، أحبك يا منذر).

لو تعلم، منذ وفاتك، يوم الجمعة (23/8/2003)، أثبت هذا التاريخ بالسنة والشهر واليوم، لأنني أعرف كم يصعب علي وعليك حفظ التواريخ، كم مرة تمهلت ووقفت عند شباك قبوك بمحاذاة الرصيف، لأرى ما إذا كان هناك ضوء يلوح من زجاجه المتسخ. وكم مرة صحت: (محمد .. محمد). وأنا آمل أنك، على نحو ما، ستجيب. وكم مرة تظاهرت بأنه لا دراية لي بموتك، وسألت عنك أصحاب دكاكين السمانة في الحارة، فيخبرونني أنك قد متّ منذ فترة، وأن القبو قد بيع لا يدرون لمن، وأن سيارة سوزوكي جاءت وحملت كتبك وصورك، حتى إن أحدهم أجابني: (ولكنك سألتني عنه سابقاً وأخبرتك!؟).

أكاد الآن أسمعك تصيح بي كعادتك: ( يا أخي، فهمنا أنك الطيب بيننا.. تعلم أنه لا فائدة من كل هذا الكلام.. اسمع هذه القصيدة التي كتبتها البارحة وقل لي رأيك بها). فتجلس ظهرك، وتفتح دفترك، وتقرأ لي قصيدة، أعرف من أول سطر منها، أنك قد اسمعتني إياها منذ ثلاثة أشهر، ثلاث مرات أو أكثر بكثير، لدرجة أني حفظتها عن ظهر القلب، وبدوري كنت قد كررت عليك بعض الملاحظات عنها، لم تتقبل أياً منها وقتها، ثم بعد ذلك أخذت بأغلبها. ولكنك هذه المرة، ترغب في شيء آخر، شيء جديد لاعلاقة له بالشعر ولا بالماضي، هو أن تسمع مني ما تجري حوادثه الآن في مدينتك التي كتبت عنها: (عندما أموت/ … أريد أن أعود على شكل موجة بحر زرقاء/ تمسح برفق قدمي مدينتي اللاذقية/.. إلى الأبد).

محمد

لاذقيتك، تلك (الوردة التي ألقى بها خائن الزمن على مرمى لفتة من نظرك، في مزبلة تؤمها كلاب الصيد المبتذلة من دون حساب)، وعندما (دخلت الحلبة مع حشاش يريد أن يجعل من جسدها البريء مرحاضاً لشهواته)، قامت حبيبتك و(لبست للحشاش ثوبها الجديد على مرأى من عين قلبك الذائب). ألا ترى وأنت تمسح قدميها بأمواجك، كيف يتحول لون زبد البحر من أبيض إلى أحمر. إنه دم أبنائها يسيل من عينيها وعنقها وقلبها إلى الأرض. لاذقيتك كانت أولى المدن السورية التي هبت لمشاركة أختها درعا توقها وتوق سوريا بأجمعها للانعتاق والحرية. من ساحة الشيخ ضاهر، حيث تجمعت المظاهرة، والعوينة حيث لوحقت، إلى ساحة اليمن عندما أطلق النار على بريء ورفاقه وهم يرفعون للأعلى أيدهم المتشابكة، وعند مدخل الصليبة عندما هللوا في استقبال حافلة الإطفاء لظنهم أنهم هنا سيكتفون بها، وفي ساحة التمر عند تقاطع شارع شكري القوتلي مع شارع بور سعيد، حيث نصبوا لافتات (لا للطائفية) (سنية وعلوية كلنا بدنا حرية)، شباب بعمر أبنائك، الذي حلمت أن تلد بهم كل إمرأة أحببتها، أنت الذي أحببت نساء من كل طيف ومن كل مطرح: (ليس سوى الحب نستطيع به أن ننتصر)، تجمعوا وهتفوا بشفاه من لهب: (بالروح والدم نفديكي يا درعا)، (سوريا منحبك)، (واحد واحد الشعب السوري واحد) نعم بأذني سمعت وبعيني رأيت وبكيت. أبكاني كما كان سيبكيك لو كنت تقف على الرصيف بجانبي: (بالروح والدم نفديكي يا درعا) من أين هذا الارتباط بين اللاذقية ودرعا؟، كيف ظهرت هكذا فجأة. أبكاني (سوريا منحبك)، لو سمعته لشعرت مثلي أنه ليس صحيحاً أننا كنا من كثرة ما ادّعوا أنها سوريتهم وحدهم، نكره سوريا، بل العكس، هي سوريا الجميع، سوريتنا نحن أيضاً، وأننا لا نحب في الكون، نحن الذين نحب العالم كله، بلداً بقدرها، وكما عشنا وفعلنا كل شيء من أجلها، من أجل من نحبهم من أهلها، نستطيع أن نموت من أجلها و من أجل كل أهلها، أليس أن نموت كعشاق وتكتب لنا الشهادة في هذا الحب، أفضل من أن تقتلنا، كما ذلك الطارئ الذي جاء وأخذك معه، ضربة شمس قوية، عند ظهر يوم صيفي لاهب يذيب الرأس، أو أن نشيخ ونوهن وتنحني جسومنا وكأنها تريد أن تقع أرضاً، ثم نستنجد بأمراضنا لتقتلنا.

لاذقيتنك يا محمد، التي (عندما رأوها متلبسة بحرير النوم قربك، وتفيض حناناً وبياضاً وقوة رجموها بسلسلة من الجبال، وهربوا)، تستيقظ الآن وتنهض، تريد منا أن نساعدها في كسر كل القيود والسلاسل، تريد منا جميعاً، نحن أبناءها من دون أدنى تفرقة، ليست أمنا حمدية مسطو وخالدية نحلوس وفكرية قدور من يفرق بين محمد سيدة ومنذر حلوم وماهر أبو ميالة ومصطفى عنتابلي ومنير شحود ومرام مصري وهالا محمد وسهيلة لاذقاني وبسام جبيلي ووو، أن نقدم لها ما وعدناها به طويلاً، أن نفي بعهدنا ونقيم لها بيتاً، ولو بسيطاً، بغرفتين ومطبخ صغير، تعود إليه من غربتها. لاذقيتنا لا تحلم بقصر، يكفيها كوخ على شاطئ السعادة والحرية والكرامة. ولكنهم، هم نحن، أيضاً لا فرق، وأنا أحاول أن أدخل إلى ذلك المكان الذي تستلقي روحك فيه، أخذوني بشبهة الاسم.. ونقلوني من حاجز لحاجز، ومن مركز لمركز، يلتبس عليهم كما اسمي، صوتي وصورتي، ثم بعد أن حققوا معي وعرفوني، وتأكد لهم بأنه لا شيء قلته أو فعلته يمكنهم مني، أعادوا لي سيارتي وهاتفي وأطلقوني، مع اعتذار بأنهم مضطرون ألا يتهاونوا مع أحد حتى الموتى. استغرق الأمر ساعات محدودة، لم يوجهوا لي بها أذية أو مهانة، ولكن.. انت من يعرف، بل ربما الجميع يعرف، كيف تشعر وأنت تحت رحمة من إذا نزع عنك شارة رحمته لسبب تعرفه أو لا تعرفه.. لا رحمة عنده.

نعم، يفوتك ما يحدث هذه الأيام، يفوتك ما قضيت حياتك تسلو بأي شيء وأنت تنتظره، هذا الذي ثلاث وستين سنة ولم يأت. ها هو يتقدم في طريقه إلى الشمس، يسند دراجته التي سرقها منك على جذع شجرة، ويقف مشرئباً بوجهه للسماء، ومشرعاً صدره حتى أقصاه، يريد أن يأخذ حماماً تحت شلال الضوء. الضوء الذي سيسطع ويبدد كل ظلم كل ظلام، وكل خوف كل خوف..

زرت منذ فترة أختك نجاح في بيت أهلك بالمنطقة الصناعية قرب الريجي القديم (مديرية التبغ والتنباك)، والتقيت هناك ديما المفضلة عندك، التي كتبت لها: (أنا يا ديما سنديانة هرمة/ وأنت كذا عصفور يغرد عليها) وأختها ريما الأشد رقة، ابنتي أخيك جمال الذي لحق بأبيك ورحلا لعندك بعد وفاتك بسنتين، كما التقيت بابنة أختك فاطمة التي زودتني بإحدى مخطوطات (لو كنت وردة حمراء حقاً)، التي احتجتها في إعداد كتاب يشمل قصائدك كلها مع مقدمة عنك وعن تجربتك الشعرية. كما سأضمنه قصائد لم تنشر لك لسبب أو آخر، منها ما كتبته بعد صدور (لو كنت وردة…/2001/)، الموجودة في العلبة البلاستيكية الزرقاء، ومنها قصائد، ربما أهملتها عن قصد، كقصيدتك الوحيدة عني، وربما عن غير قصد، أغلبها صار متوفراً لدي.. أنا الذي نصبت نفسي، شئت أم أبيت، ابنك ووريثك الشعري.

اللاذقية 6/6/2012.

منذر .. منذر فقط، لأنه لا داعي بيننا أن أكتب منذر مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى