صفحات سوريةميشيل كيلو

لافروف.. لافروف!


ميشيل كيلو

كنت بين أوائل من أيدوا إيحاءات وزير خارجية روسيا السيد لافروف حول تطبيق حل يمني في سوريا. وقد كتبت مقالة مؤيدة نشرتها «الشرق الأوسط» حول اقتراحه، ودعوت المعارضة السورية إلى تشكيل وفد موحد يذهب بصحبة مندوبين عن الجامعة العربية إلى موسكو، للتفاهم مع الروس حول حيثيات ما يقترحون، ولمطالبتهم بأن يكون تحت إشرافهم وبضمانتهم، على أن ينالوا بالمقابل الضمانات التي يحتاجون إليها من سوريا الحرة، التي ستدين لهم بفضل إخراجها من مأزقها الراهن ما بقي لدى بناتها وأبنائها ذاكرة.

ومع أن المعارضة لم تنتهز الفرصة، خوفا من جماعة أميركا داخلها أو بسبب رهانها على مشاريع أخرى لا نعرفها، أو لأنها قسمت العالم إلى فسطاطين، يتبع قسمهما الغربي «المجلس الوطني السوري» والشرقي «هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي»، فإن الجامعة العربية لم تلبث أن انتبهت إلى أهمية المسألة وتبنت المشروع الروسي، بيد أنها سرعان ما أعطته لمجلس الأمن، حيث أميركا: خصم روسيا. ذلك أرعب الروس وأوهمهم بأن مشروعهم سيستخدم لإخراجهم من بلد هو تقريبا آخر ما بقي لهم من حلفاء في القارة الآسيوية برمتها، لذلك انقلبوا فجأة على مشروع قرار كانوا قد وافقوا على مسودته في مجلس الأمن، وصلبوا موقفهم وتشددوا، لاعتقادهم أن عليهم الدفاع عن النظام في دمشق وعن أنفسهم، دون أن يعني ذلك إغلاق أبواب التفاهم الدولي.

غضبت موسكو، ثم شرعت تصدق أكاذيبها حول المعارضة المسلحة، التي لم يتجاسر النظام نفسه على اتهام جميع فصائلها بممارسة العنف وحمل السلاح، بل قسمها إلى صنفين: معارضة وطنية وأخرى خائنة، دون أن يمنعه ذلك من تحويل الأولى إلى خائنة والثانية إلى وطنية عند اللزوم. عمم الروس فكرة تزعم أن المعارضة هي التي تستخدم العنف في سوريا، وأن ما يشاهده العالم من دبابات داخل وحول مدنها وعلى طرقها، ومن مدافع وراجمات صواريخ تنتشر وتقصف في كل مكان، ومن طائرات تحلق في أجوائها، ليس ملك السلطة أو الحكم، بل هو قوات المعارضة التي تقتل شعبا مغلوبا على أمره، تدافع السلطة عنه.

يناقض ما تقوله وتفعله موسكو تاريخا طويلا من علاقاتها مع سوريا الدولة والشعب، اللذين ارتبطت بعلاقات صداقة مميزة معهما منذ عام 1954، قبل أن تصير سوريا بعثية بعشرة أعوام. تعرف موسكو الشعب السوري قبل البعث وتعرف الواقع السوري بعده، ومع ذلك نراها تتناسى تاريخها مع هذا الشعب، الذي كانت حكومته أول حكومة عربية أقامت علاقات رسمية شاملة وواسعة مع موسكو، شملت في ما شملته صفقة سلاح كانت الأولى التي عقدها بلد عربي مع الدولة الشيوعية السابقة، المحاربة غربيا والممنوعة من الوصول إلى المتوسط آنذاك. كذلك، كانت سوريا أول دولة عربية اعترفت بجمهورية الصين الشعبية، المنبوذة من المجتمع الدولي الخاضع للغرب، فهل يعقل أن تعامله موسكو اليوم وكأنه عدو، أو أن تغامر بخصوصية وتاريخية علاقاتها معه، مع أنه ما زال يرى فيها جهة تستطيع مساعدته على حماية استقلاله، وموازنة الدور الأميركي في بلاده، وإبقائه حصينا ضد التبعية والرضوخ للآخرين؟

حير موقف روسيا في مجلس الأمن السوريين وأقلقهم وأثار غضبهم واستياءهم، بسبب شدته وغموض مراميه وتناقضه مع مشروع حل يمني لسوريا، كان السيد لافروف قد اقترحه قبل أيام قليلة سبيلا إلى معالجة أزمتها. وزاد من غضبهم أن المشروع بدا كبارقة أمل في سماء أزمة يحجبها دخان القنابل التي تنفجر في كل مكان، ودماء ضحايا العنف الأبرياء. لم يفهم السوريون تبدل الموقف الروسي بين ليلة وضحاها، وانقلابه من النقيض إلى النقيض وتصلبه المباغت، وما أشيع عن تغطيته الهجوم السوري الأخير ضد المدن، الذي قال النظام إنه «هجوم الحسم»، في علامة قاطعة على انحياز الروس الكامل له، ودعمهم لخطواته الحربية، ووقوفهم إلى جانبه ضد بقية العرب وأغلبية دول العام، وتقديم حمايتهم له رغم تعارضها مع الشرعية الإنسانية والقانون الدولي.

قام الروس بخطوة مفصلية دفعت الدول العربية إلى البحث عن وسائل تمكنهم من مواجهة التصعيد الروسي، وكذلك فعلت دول العالم الغربي. بذلك، دخل الوضع الداخلي والعربي والدولي في مفترق طرق لن يبقى شيء بعده كما كان قبله، فهل هذا ما تريده روسيا؟ لنفترض أن موقفها ساعد النظام على الانتصار في معركته ضد الشعب، هل سيكون هذا كافيا لضمان مصالح روسيا في سوريا والعالم العربي، أم أنه سيكون بداية معركة طويلة ضد روسيا سيشارك فيها العالمان العربي والإسلامي، مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج وخيمة بالنسبة لروسيا على امتداد هذين العالمين؟ وهل يعوضها كسب النظام عن خسارة بلدان كانت صديقتها بالأمس وتريد أن تبقى كذلك اليوم وغدا؟

لا أعتقد أن موسكو تريد هذه النتيجة، التي قد تفضي إلى تدمير أو تقويض ما بقي من وجودها ونفوذها ومصالحها في بلدان كثيرة في آسيا وأفريقيا، بما في ذلك مناطق إسلامية واسعة كانت تابعة لها تستطيع نقل النقمة العربية والإسلامية إلى داخل مدنها وقراها، وهي التي لم تكد تخرج بعد من حربها الطويلة والمكلفة ضد شعب الشيشان الصغير. ولا أعتقد أن روسيا تستطيع الدفاع بالقوة العسكرية عن النظام السوري، إذا ما قرر الغرب عامة وأميركا خاصة التدخل عسكريا ضده، علما بأن هذا سيكون نهاية الدور الروسي في كل مكان، إلا إذا كانت أميركا ترى في الأزمة السورية فخا إضافيا يمكن إيقاع روسيا فيه، باستطاعته استنزافها ووضعها أكثر فأكثر في مواجهة متشعبة ومتصاعدة مع العرب والمسلمين، فضلا عن استنزاف دولة ومجتمع سوريا، فتخرج في النهاية وبعد الويلات الكثيرة والدمار العام رابحة هي وإسرائيل من صراع أداره النظام بأقصى قدر من الأخطاء القاتلة، واندفعت هي إليه وكأنها لم تكن تحسب حساب نتائجه!

من الحتمي أن تقطع موسكو قبل فوات الأوان مع موقف لا يرى سوريا وأزمتها على حقيقتها، وأن تسعى إلى مد خيوط الصداقة مع الشعب السوري والمعارضة، تطبيقا للحل اليمني أو لشيء يشبهه، يسهم في إخراج سوريا من مأزق هو ثقب سياسي أسود قد يلتهم في مدى منظور قدراتها وطاقات تابعها البعثي، في منطقتنا كما في روسيا نفسها.

هل يتراجع الروس عن أخطائهم، التي لا مبرر لها؟ ومتى يقلع قادة موسكو عن رؤية الموقف من خلال حسابات شخصية وسلطوية ضيقة استخلصوها من أوهامهم عن الخطر الإسلامي الهاجم عربيا وسيعود إليهم في روسيا ذاتها بعد انتصاره في دمشق؟ لن يجني الروس غير خسارة سوريا وسقوط نظام دمشق، الذي يتوهمون أنهم يحمونه، إن هم واصلوا سياساتهم الراهنة. بينما بلغ تطور الأزمة المحلية والدولية منعطفا مفصليا، فيه من الخطورة عليهم قدر ما فيه منها على سوريا؟

هل تستيقظ موسكو قبل فوات الأوان وتوقظ دمشق من غفلتها القاتلة وتجعلها ترى الأمور على حقيقتها، أم يحجم حكام الدولة الكبيرة والبلد المنكوب عن رؤية الواقع على حقيقته، فيكون هذا دليلا إضافيا على أنهم يخوضون معركة خاسرة، ستكون نتيجتها فشلا مؤكدا وخطيرا على بلد كان دولة عظمى، لكن سياسات الحقبة السوفياتية أودت بكثير من قوته ومكانته، تهدده سياسات قادته الحاليين بالتحول إلى دولة هامشية فاشلة، خسرت أصدقاءها في العالم، ولم يبق لها من تقاتل وتموت من أجلهم غير أناس يقتلون شعبهم، وينتحرون بأيديهم؟

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى