باسل العوداتصفحات سورية

لا أحد يرفّ له جفن/ باسل العودات

 

 

أنهت الأزمة السورية أربع سنوات ونصف من عمرها كانت خلالها ساحة مثالية لصراع القوى المحلية والإقليمية والدولية، ولتصفية حسابات بعضها يعود توقيته لنهاية صدر الإسلام، وبعضها مُستحدث عمره عقد من الزمن، وأنتجت بمجملها أسوأ كارثة إنسانية شهدها العالم منذ عقود.

قبل انطلاق شرارة الثورة في سورية كانت هذه برميل نفط ينتظر شرارة لينفجر، فمنذ استلام الأسد الأب الحكم قبل خمسة عقود سيطر حزب البعث على الحكومة وهيمنت الأجهزة الأمنية على مقدرات الدولة ومصير المجتمع، وبدأ كَبَت وخنق السوريين، وكانت هذه العقود الخمسة حبلى بالفساد والقمع والممارسات الطائفية والاستثناءات والتغييرات الاجتماعية والديموغرافية.

أشعل أطفال درعا الشرارة التي كان يحتاجها برميل النفط، وبدلاً من إخماد النيران صبت السلطة المزيد من الزيت عليها باستخدامها الحل العنفي فتدهورت الأوضاع بشكل متسارع جداً لتتحول من انتفاضة شعبية إلى حرب مسلّحة باتت كل سورية ساحة لها.

توالدت الكتائب الثورية بكثافة، ولم تنجح بتوحيد عملها، كما لم تنجح بإفراز قيادة سياسية لها، فيما استمرت السلطة السورية بإلقاء البراميل وممارسة العنف المفرط كوسيلة وحيدة لضمان بقائها وتدجين الناس من جديد، فقتلت ما يقرب من نصف مليون سوري وأخفت مثلهم، وشرّدت عشرين ضعفاً منهم، وحوّلت سورية إلى دولة فاشلة دون أن يرفّ لها جفن.

وجدت إيران بالساحة السورية ملعباً لها، فاستغلته أبشع استغلال، واستفادت من سورية كورقة ضغط في مفاوضاتها حول ملفها النووي، كما أرسلت سلاحاً ومالاً غير محدود للسلطة، وحشدت ميليشيات ذات طابع طائفي، عربية وغير عربية، لخدمة مشروعها، واستفادت بأقصى حد من اقتصاد الحرب في سورية لتثبيت استثمارات أمر واقع بعيدة المدى، وحوّلت سورية لمركز ثقل عسكري وأمني يخدم استراتيجياتها وخططها للمنطقة، وخرّبت علاقة السوريين ببعضهم كما شوّهت علاقة شعوب المنطقة ببعضها، وساهمت في قتل السوريين ـ تقريباً ـ على الهوية، دون أن يرفّ لها جفن.

أما روسيا فكانت هذه الساحة بالنسبة لها هدية من السماء لإعادة اعتبارها على المستوى الدولي بعد أن أفُل نجمها وتراجع صيتها واندثرت امبراطوريتها، فعملت كل ما بوسعها لاقتناص الفرصة مع علمها أن هذه الفرصة ستكون على حساب دماء السوريين، فأرسلت خبراءً عسكريين وسلاحاً للنظام السوري وهي تعرف تماماً أين سيستخدمه وضد من ومن سيقتل به، وعطّلت كل (قرارات) مجلس الأمن بـ (فيتوياتها)، ومارست كل سياسات الابتزاز الدولية لإقناع العالم بأنها قطب أساسي، وأنها عزيز قوم ذل يجب أن يسترجع عزّه، وشاركت بهذا بقتل الشعب السوري، أطفالاً ونساء ورجالاً، دون أن يرفّ لها جفن.

بدورها لم تكن الولايات المتحدة بحال أفضل من نظيرتها الكبرى الآسيوية، فهي لم تُمانع بأن تستعرّ الحرب في سورية وأن يَقتُل الأقوى الأضعف، وأسعدها أن تتحول سورية لمغناطيس لجذب إرهابيي العالم ليتجمعوا بمكان واحد، حيث الجميع سيقتل الجميع، كما أسعدها أن تؤثر الحرب السورية على تركيا ودول الخليج وتهدد أمنها وتُربك استقرار المنطقة لتقول لهم إنها شفيعهم الوحيد يوم الضيق، ولم تستثمر الطرق الدبلوماسية التي تقدر عليها لتفعيل إطار سياسي أو عسكري للحل واكتفت بتوجيه كل اهتمامها على ملاحقة (داعش) وأمثاله في سورية والعراق، وإنجاز اتفاق نووي مع إيران، وبفضل سلبيتها هذه تجاه سورية، بل وقبولها بما يجري، أصبح قلب الشرق الأوسط بركاناً متفجراً يهدد المنطقة، ورغم هذا لم يرفّ لها جفن.

(داعش) غنية عن التعريف، سوداء كراياتها، والكثير يعرف أو يتوقع صلاتها الوثيقة بكل الأطراف سالفة الذكر وبغيرهم، وبما أنها كذلك، فهي تتابع كل موبقاتهم وبشكل أعنف منفلت من كل عقال، وبالتأكيد لن يرف لها جفن إن رأت سورية ركاماً فوق ركام.

إلى ذلك، لم يتمكن اللاعبون الدوليون المنخرطون في الأزمة السورية إيجاد أي حل، بل غالباً لم يرغبوا، وبعض الدول التي كانت تملك نوايا صادقة اصطدمت مساعيها بمصالح من لم يرفّ له جفن، فاستمرت اللعنة، ولم يُسجَّل طوال أربع سنوات ونصف أي اختراق سياسي، فـ (تعنترت) السلطة، و (تنمردت) إيران، وتمدد تنظيم البغدادي كالأخطبوط، وانتصرت سياسة (المافيات) الروسية، وانكشف عقم المعارضة السياسية السورية، واستمر النظام بعنفه المنفلت واللا إنساني، وكل ما جناه السوريون من الأمم المتحدة مجرد إدانات و”قلق” ينتهي بمجرد خروج ممثلي الدول خارج القاعة الأممية، ولم يرفّ جفن لأحد بينما يموت المئات من الأبرياء بمسلسل يتكرر كل يوم.

الوقائع والمؤشرات جميعها تقول إن كل هذه الأطراف على خلاف، فهناك خلاف في المصالح والأهداف، وعلى التحالفات وتوازع النفوذ، وخلاف حول طرق مسارات إنهاء الأزمة، وعلى مصير النظام ومصير الشعب، وأيضاً خلاف حول المكاسب الاستراتيجية قريبة وبعيدة المدى، لكنها بالنهاية تجتمع على أمر وحيد وهو استهتارها بما يجري في سورية من كوارث إنسانية.

يبدو أن على السوريين أن ينتظروا أن تنتشر نيران الحرب السورية لتطاول كل مغمض عين، وأن لا يراهنوا إلا على مدى انعكاس وتأثير أزمة بلدهم على السلم والأمن العالميين، ليضمنوا انتقالاً سياسياً لا يقود للدوران في حلقة مفرغة أساسها اللامبالاة وإغماض العيون.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى