صفحات المستقبل

لا أذكر شيئاً منها

ليال حدّاد

لا أذكر شيئاً من الحرب الأهلية. بلى، القليل: الجلوس على الدرج. سندويشات الـ”بيكون”. والتبوّل مع أولاد الجيران في علبة الحليب المعدنية. اذكر أو ربما أتخيل اليوم عند استعادة تلك الأيام، صوت أمي وتانت دلال تشتمان بالجملة الجيش السوري وحافظ الأسد.. وصرخات “يا عدرا” تتكرر بعدد الدقائق. هنا تنتهي الذكريات. أما ما تلاها فكانت الحرب الأهلية الحقيقية. كنتُ أكبر وكل المتاريس وأكياس الرمل التي أزيلت من بيروت، ترتفع في بيتنا. بلغت الخامسة عشرة وأنا لا اعرف من الغربية سوى شارع مار إلياس حيث تسكن جدتي. أخاف من السوريين، ألفظ كلمة مسلم بصوت هامس كمن يطلق شتيمة، لا اذكر الفلسطينيين إلا لرواية حوادث اغتصاب وسرقة وقتل قاموا بها. جرائم لم أعشها، ولم يختبرها أهلي، لكنها جزء من التراث الشعبي في عائلتنا.

لكننا لسوء حظ أهلنا نكبر، ونقرر نحن أيضاً الذهاب إلى هناك. إلى الآخر، ذاك الذي يتزوج أربعاً وينجب أولادا كثيرين. ونعود إلى البيت بروايات أخرى لم نسمعها، بالجزء الثاني من القصة. ولسوء حظ أهلنا أيضاً نبحث عن المزيد. لماذا لم يخبرني أحد عن اجتياح بيروت؟ صبرا وشاتيلا لم تمرا في منزل أهلي. تل الزعتر، المسلخ… القصص تزداد دموية وأنا ازداد.. لنقل نقمة أو حزناً أو دهشة.

لا أذكر شيئاً من الحرب الأهلية. لا ذكريات بائسة عن شهداء أو جرحى أو أيتام في العائلة، ولا عن وضع مادي صعب، بل شعارات لم أفهمها لكني ردّدتها باقتناع تام لسنوات، عن محاولات إبادة المسيحيين، عن بواخر انتظرتنا في المرفأ لتأخذنا إلى كندا (لما لا تأتي اليوم؟)، عن آخرين خاضوا حروبهم على أرضنا، عن أبطال وشهداء قتلوا لأنهم أرادوا لبنان موحداً، وعن إحباط مسيحي لم تنته مفاعيله بعد.. بل على العكس يبدو انه يتجه إلى التفاقم في ظل الفزّاعة السلفية في المنطقة.

كيف خرجت من كل هذا الجحيم الفكري؟ قصة طويلة عن الحب الذي يأخذنا إلى أماكن أخرى والى أشياء أخرى. وعن كتب تروي هي أيضاً القصص نفسها، ولكن عن زعماء آخرين و’أبطال” آخرين.. وقبل كل شيء عن تماثيل وأيقونات تتحطم ما أن تجتاز المتحف وتتكشف انك لم تمت.. انك لن تموت.

لا أذكر شيئاً عن الحرب الأهلية لكن شبحها يرعبني. لا أطيق صوت الرصاص والمفرقعات النارية. أكره القناصين.. لا أفهمهم. لا أولاد لديهم؟ أين يهربون بهم عند تساقط الرصاص؟ أين اهرب بابني أنا؟ أين أخبئه إن عاد القتل على الهويّة. كل الذكريات الحديثة عن حروب الشوارع، عن السنة والشيعة، عن الإنيرغا والسيارات المفخخة تسبب لي الغثيان. لا اذكر شيئا عن الحرب الأهلية. أو ربما لا أريد أن أذكر شيئاً عن الحرب الأهلية. لا أريد هلالاً وصليباً يتعانقان، لا أريد حفلات عشق مقيتة بين جوزيف ومحمد، لا أريد كتاب تاريخ موحد، وحتما لا أريد أن نبقى موحّدين دفاعاً عن لبنان العظيم.

لتذهب الطوائف إلى الجحيم، ليتقاتلوا قدر ما يشاؤون، ليبيدوا بعضهم بعضاً، لا أهتم. لكن ليفعلوا ذلك بعيداً عن بيتي. بعيداً عن ابني، فزمن الأحلام الكبيرة قد ولّى.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى