صفحات العالم

لا تنحسر أزمة سوريا في الحل الأمني


سليمان تقي الدين

لن تنحسر الأزمة في سوريا طالما لا صوت يعلو على صوت “المواجهة” هذا الدم النازف يكذّب كل لغة السياسة والدبلوماسية . يبدو أن الإجابات “الحازمة” تذهب في اتجاه واحد هو تداعيات العنف لاختصار الزمن واستثمار المهل والفرص وتجاوز جدول الأعمال . العنف يعمق الأزمة ويراكم مشكلاتها ويرسم حواجز تزداد صعوبة تجاوزها . لن تزول أسباب الأزمة إذا انكسرت شوكة المعارضة المسلحة أو تم اخضاع هذه المدينة أو تلك، ولن تنحسر “المؤامرة” ولا تدخلات الخارج الذي يضيف إلى الفاتورة وعدّاد “المجتمع الدولي” يومياً قائمة جديدة من الذين يتم حذفهم من الحياة جسدياً ومعنوياً .

لن تزول الضغوط الخارجية على سوريا إذا كان المفاوض التركي قد حمل الرسائل المتبادلة و”أمل” بالفرصة الأخيرة . ولا يبعث على الارتياح هذا الحراك الدبلوماسي شبه الغامض الذي تديره تركيا وإيران وخلفهما جبهة واسعة غربية بزعامة أمريكا وهم يتوزعون الأدوار لإعادة تشكيل النظام الإقليمي في “يالطا” جديدة . كلما تأخر الحل السياسي الداخلي في الجواب على حركات الاحتجاج بمكوناتها الاجتماعية والسياسية كلما تحول الصراع على “هوية سوريا” هوية نظامها في الداخل ودور نظامها في الخارج .

مازالت النخبة الحاكمة متجاهلة مطالب شعبها لأنها تفاوض الخارج ولا تحاور الداخل . هي تبحث عن شرعيتها مع أطراف “المؤامرة” وتعتقد أن المعارضة الشعبية بكل أطيافها مجرد ملحق سياسي يتم التعامل معه بعد إقفال الحدود مع الخارج . يستثمر الخارج على أزمة النظام الذي اعترف أركانه بالحاجة إلى الإصلاح والتغيير في قواعد الحكم والمشاركة وفتح أبواب الحرية ومعالجة الأزمة الاجتماعية . ويستثمر الآن على التوتر بين المكونات البشرية وخوفها على مستقبل باتت تحكمه علاقات القوة بدلاً من العيش الواحد المسالم . فالنظام يحمل وزر هذه التداعيات وقد خسر هيبته المشهورة في الأمن ومناعته في الاستقرار ورصيده في إدارة شعبه ودوره في علاقاته على حدوده ومع جيرانه . لكن الخاسر الفعلي هو سوريا المجتمع والدولة ما لا يمكن أن يعوض في سنوات طوال من طاقات بشرية واقتصادية ومن السلم الأهلي والعيش المشترك .

بعد خمسة شهور من المحنة التي عصفت بكيان سوريا نتيجة تراكمات في القطيعة بين معظم الجمهور والنظام حتى تجاوز الجمهور أي قيادة سياسية أو أي إطار حزبي أو تيار عقائدي فخرج يطلب ما هو فوق العقائد وخارج السلطة في شعار الحرية والكرامة . هذا الجمهور لا ”وجوه المعارضة” في الداخل والخارج تمثله، ولا وصفات الإصلاح الوافدة من تركيا ولا سواها من عواصم القرار الدولي التي شقت صدر المنطقة على الجراحة التفكيكية للدول في العراق وليبيا واليمن والسودان وتسعى لكي تشمل سوريا .

هناك عجز بنيوي في أنظمة الاستبداد لا يجعلها تفيد من دروس الوقائع الجارية أمامها . منذ خلع حاكم العراق إلى حاكم مصر وما بينهما من عروش تتراقص على صوت هدير الشوارع وهدير البوارج والطائرات يبحث الحاكم العربي عن حل واحد لكي يبقى في السلطة . لكن النموذج الليبي كشف بلغة بداوته المكبوتة تحت مظاهر الأمجاد الحداثوية عن عقدة نفسية فقال: لو كنت رئيساً لاستقلت أو اعتزلت ورميت هذه الاستقالة في وجوهكم . هذا الحاكم العربي لا يرى في سلطته تكليفاً ولا اختياراً ولا انتخاباً ولا تأييداً من شعبه . لقد اعتاد أن يتصرف على أنه منحة لشعبه وبلاده وقد زاد في اقتناعه هذا سلوك جمهرة من أتباعه ورعاية “المجتمع الدولي” والأسرة الدولية له يوم استولى على السلطة ويوم تمسك بها .

انهار النظام العربي الذي جوفته الأزمات والفشل واستنفدت شرعيته الهزائم في الداخل والخارج وصارت تتقاذفه مطامع دول إقليمية وتعبث بأهوائه . هذه المرحلة الانتقالية المتدحرجة من دولة إلى أخرى لا تفيد تجاهها لغة الماضي ولا أدواته ولا منظومة التفكير السائدة ولا سلّم المعايير السابقة لتصنيف الوظائف والأدوار التي تجاوزتها “عاصفة الصحراء” التي أرست قواعد تدويل مشكلات المنطقة وقضاياها وصارت اليوم تستدعي شرعية التدخل الدولي وتستدعي الوصاية لمعالجة شؤون الغاضبين البسطاء الثائرين في الشوارع العربية . لا محل بعد لأي رهان على النادي الضيق لزعماء العرب في الخيارات أمام هذه اللحظة الديمقراطية التي خرج الجمهور فيها إلى المسرح السياسي ليعلن ما يريد فوق سطوة الحكّام وفولاذ أدوات القمع . لا يفعل الحاكم العربي الذي يمانع في مطالب شعبه أو يساوم الخارج على موقعه ومستقبله وسلطته إلاّ أن يستنزف شعبه وبلاده في صراعات أهلية حين يستنفد العنف الشرعي قدرته ومداه .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى