صفحات الرأي

لا تنشــغلوا بقتــل البعــوض… جففــوا المســتنقعات!


عن جياد متوحشة ستركض في صحراء مشاريع الحداثة الفاشلة

اشرف الشريف

بداية الثورة المصرية لم تحقق أهدافها بعد… القمع الأمني مستمر كما هو وحكم العسكر والمخابرات وما يعرف بالدولة العميقة كما هي، وفساد مؤسسات الدولة (القضاء والداخلية والإعلام والبيروقراطية) كما هو، وشبكات المصالح الإقتصادية الكبرى (البترول والغاز والطاقة والبنوك هذا غير إمبراطورية الجيش الإقتصادية) كما هي، وحقوق شهداء محمد محمود والقصر العيني ستضيع مثلما ضاعت حقوق شهداء يناير وفبراير من قبل.

هناك للأسف من لا يستطيع فهم حقيقة الوضع في مصر. فهم أن النظام الذي قامت الثورة ضده لا يزال متربعاً ويعيد إنتاج نفسه عبر كل الوسائل ومنها مسرحية برلمان الدمى. وأن النضال ضد هذا النظام العسكري الاستبدادي يحتاج وقتاً طويلاً جداً وأثماناً هائلة. هؤلاء غير قادرين نفسياً على تحمل هذه الأثمان فيلجأون إلى راحة الأوهام والنوم في حضن المستبد الجديد الذي هو نفسه المستبد القديم، ويقبلون أي أوضاع مهما كانت عبثيتها ولا معقوليتها، ومن ثم يجرون وراء خواء البحث السرابي عن خرافة الأمان وهذا هو نفس منطق كارهي الثورة من بدايتها.

المسار كله خاطئ من البداية… وبالتالي لا حاجة إلى ترديد شعارات وكلام أغاني عن رأي الشعب وما إلى ذلك حين نصف انتخابات أجراها النظام العسكري بشروط رديئة وقواعد مشكوك فيها، وقوانين سيئة هو نفسه أول من ينتهكها، والنتيجة الإجمالية هو من يحددها. نشارك في خداع أنفسنا إذا صدقنا المسرحية والخدعة.

ما حققته الثورة، حتى الآن، هو ببساطة:

1- سقوط الخوف الأمني.

2- بروز كتلة ثورية احتجاجية انتزعت حق التظاهر عمليا وتناضل ضد جهاز الأمن القمعي وهي عصية على الهزيمة والتدجين والاحتواء لكنها أيضاً عاجزة عن الانتصار نتيجة لضعف قدراتها التنظيمية وعجزها عن تقديم مشروع ديموقراطي سياسي بديل.

نظريتي هي نظرية الفراغ… الدولة السلطوية الاستبدادية تتمسك بعالمها القديم برغم انهياره وتداعيه من حولها لكنه تمسّك فارغ لأنه بلا مشروع حقيقي قادر علي إعادة إنتاج نفسه، وعلى جانب المعارضة هناك فراغ كامل. العبثي في كل هذا أننا مازلنا نناضل عبثاً للوصول إلى الديموقراطية البورجوازية البرلمانية التي يتخطاها العالم الآن ويناضل مناضلوه بحثا عن نماذج أكثر عدالة وحيوية وديموقراطية.

كل أزمات دولة الحداثة المصرية الفاشلة (دولة فاشلة ومجتمع متخلف) التي طال تراكمها منذ عهد محمد علي والألغام الخاصة بعلاقة الدولة بالمجتع وبالدين ودور الدين في المجال العام ودور المثقفين وأسئلة توزيع الثروة والدخل والموارد (التابوالأكبر) ستنفجر في وجوهنا تباعاً بشكل لن يدع لنا أي فرصة لالتقاط الأنفاس. من كان يصدق أنه في تسعة شهور فقط ستتزعزع أساطير الأبوية السياسية والدولة الراعية محتكرة الوطنية والجيش القائد والحكيم والمربي ومستودع المصرية؟ وفي صحراء مشاريع الحداثة المصرية الفاشلة ستركض جياد متوحشة غير مروضة لن نعرف وجهها من قفاها بدءاً من تشكيلات جديدة للجريمة وانتهاءً بأنماط جديدة للتعبير والتفكير والتنظيم.

فوبيا الإسلاميين وتراجيديا المفاجأة

بالنسبة لخوف الناس من فوز الإسلاميين، أرى أن فوزهم يعكس واقعنا السياسي بلا مفاجآت ومن تفاجأ بقوة السلفيين مثلاً، يكون هو المنفصل عن الواقع المصري قبل وبعد الثورة، وتكون هذه مشكلة فلسفة الوعي عنده.

في هذا الصدد أشعر أن المثقفين يتقمصون دور السياح في هذا البلد، حتي نبرة «تراجيديا المفاجاة» الخاصة بهم تدهشني. المشكلة الرئيسية الآن هي الفراغ السياسي وغياب المشاريع السياسية على الجانبين: النظام والمعارضة، وهذا ما يسمح للا مشاريع بأن تكتسح وتصول وتجول على راحتها، وهذه مشكلة تنظيم وفكر ومنهج بالأساس. فعندما يكون اليسار المصري ـ في ثورة الدافع الأساسي فيها في تقديري دافع اقتصادي اجتماعي ـ عاجز عن التواصل مع قاعدة ضخمة من المؤيدين المحتملين وكل ما يفعله هو منمنمات تنظيرية وتهاويم داخل طوائف المثقفين فهذه مصيبة. وعندما يكون الليبراليون المصريون ـ وعندهم إمكانيات مادية وإعلامية لا بأس بها ـ ليس لديهم أي تصور فكري عميق فضلاً عن أن يكون متماسكاً ومتطوراً لأفكار الليبرالية نفسها ومدارسها الحديثة في العالم وما تتضمنه من محاور علاقة المجال الخاص بالعام وعلاقة المجتمع المدني والدولة ودور الثقافة والتراث في صياغة الأخلاق الفردية والجمعية فهذه مصيبة أيضاً. الثورة المصرية فاجأت القوى السياسية المصرية بحقيقتها التي تختبئ خلف الرطانة, والتمارين في الإنتاج الشكلي والاستعلاء غير المعلن عنه. أعزائي السياسيين لا تنشغلوا بقتل البعوض لكن جففوا المستنقعات.

المثقفون والنشطاء عندهم حالة من تضخيم الذات، إذ يفترضون أن استراتيجياتهم لمقاومة ما يحدث من فاشية لها دور مهم في تأسيس هذه المقاومة وفي حقيقة الأمر أرى أن دور النشطاء أصبح محدوداً الآن سواء داخل الكتلة الثورية في الميادين أو داخل الشارع عامة والأحداث تجاوزتهم بتركيبتهم الحالية النخبوية والدولتية. أنا نفسي مللت من التنظير، وبصراحة أصبحت أشعر أننا بلا دور أو جدوى. حتى المد الثوري لم يعد يخصنا، إنما يخص شباب الميدان الكارهين للنخب والناشطين أساساً. وطبقياً سوف نعجز عن التواصل معهم.

مؤدى كلام بعض المثقفين أن النشطاء مغيبين عن خطورة الموقف ومن ثم لا بد من تدارك هذا، لكن في تصوري أن النشطاء أصلاً، ليسوا في أي مواقع تأثير لا على الثورة ولا على الجماهير ولا على لعبة الإنتخابات.

وفيما يخص موضوع الفاشية، أرى أن قاعدة الدعم الجماهيري لحزب مثل النور السلفي لا تأتي في أغلبها من دعم للفاشية عقائديا وسياسيا، لكن من عوامل محلية جدا ذات صلة بتضفيرهم (أي السلفيين) داخل الرأسمال الثقافي والخدماتي المحلي والأهم حالة الفراغ المريعة. ببساطة لا يوجد غير «الحرية والعدالة» و«النور»، وكثير من الناخبين يصوتون للموجودين أمامهم والسياسة هي عملية تواجد وحضور. وفر لهم بدائل وفرصة حقيقية للاختيار قبل أن تنتقدهم وتحكم على ترجيحهم لفاشية حزب النور.

نبيذ قديم في أقنية جديدة

الناس قبلت بمسرحية الانتخابات الهزلية الحافلة بالتجاوزات والتزوير، لكنها ستفيق على الحقيقة المرة وتخرج ثانيةً عندما تكتشف أن لا شيء تغير. وما دفعهم للخروج في يناير الماضي سيخرجهم مجدداً: تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والقمع الأمني. لا توجد بدائل، وهذه هي المشكلة في ضوء عجز الكتلة الثورية تنظيمياً وسياسياً عن بناء مشروع ديموقراطي بديل… لكن النظام أيضا سيعجز عن البقاء لأن عمره الافتراضي ينتهي وصارت ذراعاه (القمع الأمني وتقديم الحلول الاقتصادية والاجتماعية) مشلولتين بفعل إفلاسه الاقتصادي والمقاومة الباسلة للثوار وعليه فهو أيضا شائخ وسوف ينهار… مصر مقبلة على فراغ سياسي حقيقي، وهذا هو الطبيعي بعد ثورة قامت ضد نظام دمر كل شيء في مصر وقام بتجريفها تماما عبر 60 سنة. هذه هي مرحلتنا التاريخية والعملية ستحتاج وقتاً طويلاً.

السلفيون سيخسرون علي المدى الطويل من وجهة نظري… هم ينتحرون عقائدياً ويشترون «التروماي» سياسياً والأيام سوف تثبت هذا.

على المدى الطويل، السلفيون حركة بلا مشروع سياسي ومفلسة وفكرهم الاقتصادي على يمين جمال مبارك أصلاً، ما يعني أنهم سيعجزون عن تقديم أي حلول لمشاكل الناس. النقاب والحجاب والصدقات والتكافل والتطهر الأخلاقي وإسلامية علمانية وأختي كاميليا، الخ…، لن توفر للناس الوظائف والعيش والسكن والعلاج وتخفض الأسعار وأنابيب البوتاغاز، وهذا ما يحتاجه الناس، وما انتخبوهم من أجله. الناس تثق في قدرة السلفيين على تحسين أوضاع حياتهم «عشان هُمّا بتوع ربنا». حسناً، يا «بتوع ربنا ورونا الهمة»! . سيفشلون بالتأكيد.

السلفية حركة دينية لها شعبية دعوية كبيرة، وتستطيع استمالة الناس بشعارات تطبيق شرع الله، وهي قادرة على الحشد عبر هذا (إلى جانب عوامل أخرى مثل حضورها وتواجدها المحلي وقوة شبكاتها الدعوية والخدمية). فازت في أول «انتخابات حرة» بعد 60 سنة من حكم الحزب الواحد على أمل من الناس أن السلفيين عندما يطبقون شرع الله سيحسنون الأوضاع المعيشية. لكن أن ينجحوا في تحقيق هذا فعلا وهم في مقعد السلطة بكل تعقيداتها وواقعها العملي المباشر فهذا أمر غير وارد لأنهم ببساطة بلا أي مشروع أو فكر سياسي اقتصادي اجتماعي حقيقي… شعار تطبيق شرع الله حلو في الحشد لكن بلا فاعلية في التطبيق والتنفيذ الفعلي للسياسات العامة. وحينها ستنتقل ثقة الناس فيهم سياسياً إلى غيرهم.

وفي حقيقة الامر السلفية هي حالة ذهنية واجتماعية في التفكير الديني وليست تنظيماً أو حركة سياسية او اجتماعية كي نتكلم عن فاشية. الفاشية تعني مشروعاً منظماً للسيطرة على الدولة والمجال العام والسلفية ليست هكذا

الإسلاميون، بالمناسبة، في موقف صعب… الجماهير تحمّلهم مسؤولية كبيرة في ظروف أزمة رهيبة (تراكم 60 سنة من الفشل التنموي لدولة يوليو) وهم ليسوا على مستوى هذه المسؤولية على الإطلاق.

الفكرة في الإخوان وليس السلفيين. خيار الدولة الدينية غير واقعي. مصالح الإخوان هي مع استمرار نمط الاقتصاد الحالي المنفتح على العالم وبالنسبة لهم الغاء البنوك وبيزنس السياحة كلام دعائي غير واقعي عملياً. رؤيتي أن الإخوان إذا واتتهم الفرصة سيقومون بتقليم أظافر السلفيين وتهميشهم. والسلفيون ليس لديهم قدرات سياسية للمقاومة… وفي التحليل الأخير، من يحكم البلد وسيظل يحكمها ويضبط تفاعلاتها هي المؤسسات الامنية والعسكر.

أي نضال سياسي فيه هامش مخاطرة وينطلق من موقع ضعف. ألم يكن نضالنا ضد نظام مبارك من موقع ضعف؟ لكن ما يدهشني حقيقةً: هل هناك من كان يتوقع نتائج أخرى للانتخابات؟ صدمة المفاجأة والخوف المسيطران حالياً هما ما يفاجئني.

فليشكل الإخوان الحكومة (لن يحدث، لكن لنفترض جدلاً) وليظهروا مهارتهم في مواجهة الأزمة الاقتصادية وكل تركة مبارك الرهيبة. الناس لن تصبر طويلاً على عدم تحسن أحوالهم الاقتصادية والمعيشية… هناك ثورة توقعات زائدة الآن بعد «عُرس الديموقراطية» وفوز الإخوان الذين كانوا يرددون طوال الوقت: «إدونا فرصتنا بقى وحنعمل وحنسوي»!

تحديد جذر الداء

نتكلم كثيراً عن النموذج الأفغاني والنموذج الإيراني بدون معرفة كافية لا بحقيقتهم ولا بحقيقة السياسة المصرية نفسها بصراحة… على المستوى التحليلي فالنموذج الأقرب لنا هو النموذج الباكستاني ،إذا ما كنا متشائمين. أو النموذج الإندونيسي للتحول الديموقراطي ما بعد سقوط سوهارتو عام 1998 إذا ما كنا متفائلين.

مصر حاليا في حالة فراغ بين نظام فاشل متمسك بسلطويته لكنه عاجز عن إعادة إنتاجها بشكل يستطيع تقديم حلول حقيقية لمشاكل الناس (قوة السلطوية في نهاية الامر تقاس لا بمدى قمعيتها بل بمدى قدرتها على إدارة المجتمع وتدوير دولابه فوقيا وتقديم حلول بدون الاحتياج إلى القمع الواسع والتصفية») وكتلة ثورية عاجزة تنظيميا ومؤسسيا عن بناء مشروع ديموقراطي بديل.

الإسلاميون جزء من المعادلة نفسها وليسوا خارجها، وسوف يخضعون لتوازناتها وحساباتها التي هي ببساطة سائرة نحو السيولة والفوضى وعدم الاستقرار…

نقطة أخرى، بالنسبة للفارق بين مصر وإيران، إلى جانب الاختلافات الاستراتيجية والإقليمية والدولية بين إيران 1979 ومصر 2011، وإلى جانب الفرق بين حالة إيران 1979 حيث انهارت الدولة تماما بكل مؤسساتها بما فيها الجيش وكانت هناك أموال البترول جاهزة لبناء الأساس الاقتصادي للدولة الدينية وبين مصر 2011 حيث الدولة لا تزال موجودة وليس هناك موارد نقدية بترولية والاقتصاد المصري مأزوم ويعتمد على اندماجه داخل الاقتصاد الدولي، فهناك فروق في طبيعة الحركة الإسلامية نفسها. فالحركة الإسلامية في إيران كان عندها مشروع سياسي واجتماعي متكامل قائم على أساس عقائدي وتنظيم شديد القوة والكفاءة وكوادر وموارد إدارية وله قاعدة تأييد اجتماعية واسعة وشبكات اقتصادية واجتماعية ومؤسساتية ودينية هائلة تسنده وتمتلك القيادات الكاريزمية التي تمتلك الكفاية والقدرة على المناورة والحسم والقسوة والتصفية بشكل براغماتي حسب الظروف إلى جانب تأسيس ميليشيات شعبية مسلحة وكل هذا لا تمتلكه الحركة الإسلامية المصرية.

السلفيون حالة دينية لا حركة سياسية، والإخوان حركة بلا مشروع واضح حتى لقواعدهم واللحظة التي يقدم فيها الإخوان على تحديد مشروع بانحيازات سياسية واقتصادية معينة هي اللحظة التي سيفقدون فيها تماسكهم الجبهوي وقدرتهم على استيعاب جميع ألوان الطيف داخل تنظيمهم وهذا سيفتت مصدر قوتهم الرئيسي بل وشبه الوحيد ألا وهو قوة التنظيم. وأخيرا، الإخوان في تقديري قوة محافظة ومتموقعة في وسط المجتمع المصري، وهذا ليس أرضية مناسبة لأي استراتيجية فاشية ستكون بطبيعتها صدامية. خطاب الهوية هو صناعة إعلامية عن عمد لكن مفاعيل التدافع السياسي في الشارع سوف تدحضه… أحوال الناس المعيشية السيئة لن تتحمل استمرار مشاريع الهوية أو ما أسميته باللا مشاريع كثيرا.

قل على الإخوان ما شئت، لكنهم في تقديري أكثر محافظة من أن يكونوا فاشيين وهم لوتمكنوا سيهمشون متشددي الحركة الإسلامية لا العكس.

النقطة الوحيدة التي أتشارك مع الآخرين القلق فيها، هي ملف علاقة الدولة بالمؤسسات الدينية، لكن هذا ملف معقد وتفاصيله المؤسساتية والقانونية والإدارية والتشريعية كثيرة. وأعتقد أنه من الخطأ أن نقع أسرى لأوهام السلفيين العقائدية ونبدأ في التحوط ضدها برغم إنها ليست صلب هذا الموضوع واقعياً.

التفكير الاستراتيجي، هو تحديد جذر الداء، وجذر الداء هو طبيعة نظام دولة يوليو. دولة غير سياسية وغير تنموية. كيف سيكون هناك أصلاً قوى سياسية، فضلا عن أن تكون متوازنة، والدولة تمنع حق التنظيم الجماعي عن مواطنيها؟

بناءً على ما سبق، من يخشون الإسلاميين، هم من وجهة نظري، أناس عابثون، لأن خيار الاستبداد الديني غير ممكن واقعياً، وحتى لو افترضنا حدوثه جدلاً، فمصيره الفشل المؤكد… إذ لا يقدم خيارات بديلة. لا يوجد خيار إصلاحي مع دولة أمنية سلطوية (قائمة على تأميم الأمن والبيروقراطية للسياسة)… إما أن تكون دولة أمنية، أو دولة غير أمنية… دولة البين بين لا وجود لها.

رهان الثورة الآن هو على تراكم النضالات والمعارك الثورية الصغرى على المستويات «المايكرو» في مواجهة نظام شائخ لدرجة عجزه عن إعادة إنتاج نفسه برغم إمتلاكه مفاتيح السلطة.

الرهان الثاني هو على ثورة التوقعات الشعبية المتزايدة والمتمحورة حول التعلق بفكرة البرلمان كممثل لاختيارات الناس الحرة وهذا مفيد على مستويين: القضاء تماما على تراث الرضوخ الشعبي لتزوير الدولة الممنهج لصالح حزبها الحاكم الأوحد، وممارسة ضغوط المحاسبة والمطالب الشعبية على المجال السياسي الجديد الآخذ في التشكل (والذي يعكس في جوهره محاولة لتجديد شباب نخب النظام السياسية عبر الشراكة مع الإسلاميين ومن ثم صب نبيذ النظام القديم في أقنية جديدة) لإبراز تناقضات هذا المجال ومحدوديته ومن ثم التعجيل بسقوطه وانهياره من أجل إفساح الطريق لمجال سياسي مستقبلي يكون أكثر ديموقراطية وتعددية وتنموية…

لقد جربنا الدولة الأمنية السلطوية وخربت مصر، ومن ضمن هذا الخراب صعود وهيمنة القوى الدينية التى يخشاها الكثيرون (ألا يلمح المحتمي من الإسلاميين بالجيش ثمة تناقض في دعوته إلى عدم تفكيك نظام هو نفسه السبب الرئيسي وراء إزدهار هذه القوى؟).

علينا أن نجرّب الآن الخيار الآخر وأعني به خيار السياسة، وهو خيار البشر الطبيعيين بالمناسبة، وعلينا أن نتحمل المخاطرة وعدم اليقين لأنهما شرطان ضروريان لصناعة المستقبل. ثم أن هذا هو وضع بلدنا وليس بمقدورنا أن نخترع لها أوضاعاً مثالية لأن وضعها لا يروق لنا. ببساطة، الطريقة الوحيدة لتطوير أي وضع هي البدء منه.

تلك هي نقطة البدء الحتمية لأي عمل جدي لتغيير مصر. من غير المعقول أن أقول: «لا. هذه البداية لا تعجبني، وأريد البدء من نقطة أخرى». هذا هو واقعك، ولو رفضت التحرك فالمصير المحتوم هو الجمود والموت، كما أن الرجوع للخلف مستحيل أصلاً.

قُضي الأمر الذي كنتما فيه تستفتيان. النظام سينهار طال الوقت أم قصر لأنه فقد أسباب بقائه (لكن العملية تأخذ وقتها لا أكثر) وإعادة استنساخه خيار محكوم بالفشل.

كيف سيكون شكل المستقبل وملامحه؟ هذا ما لا أستطيع الجزم به، ولكني لا أملك إلا أن أستقل قطاره وأعمل من خلال تفاصيله مهما بلغت درجة وعورتها وخاصة في البداية… لا يوجد خيار آخر متاح.

لا يوجد شيء اسمه نهدئ الناس كي تسير الأمور عبر الرشى… هذا الكلام قديم جداً، وأخيراً وبصراحة، رأيي أن خوف المثقفين البورجوازيين من الإسلاميين هو خوف الناس «السِيس». وفي هذه الحالة المثقفون يعيشون في عالمهم الخاص المنفصل عن الواقع ويخافون على حرياتهم من دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن كيف يعيش الناس في مصر وكيف يتصرفون.

الناس تريد تخصيص كفء وناجح ومتوازن للموارد وتلبية الاحتياجات. هذا هو الموضوع وهم اختاروا بتوع الإسلاميين على أساس انهم، من وجهة نظرهم، الملائكة التي ستقوم بهذه المهمة، ولن يصبر الشعب عليهم كثيراً إن لم يتحسن الوضع.

ثورة الشرق الأوسط المركزية

مصر خرابة بمعنى الكلمة. اقتصاد ودولة ومجتمع ومؤسسات. فليحكمها الإسلاميون، ماذا سيفعلون بها؟ سيغرقون معها، أقول هذا لأني أعرف جيداً إفلاسهم وفقرهم السياسيين… هم ماهرون في الحشد والتعبئة والتنظيم فقط، إنما تحقيق التنمية وإدارة الواقع المعقد، والتعامل مع تراكم ستين سنة من فشل وخراب دولة يوليو، فهذا ما لا قبل لهم به. ليس لديهم لا فكر ولا برامج ولا قدرات ولا موارد تسمح أيضاً. هذا هو الموضوع الأساسي.

وارد جدا أن يتعثر المسار ووارد جدا أن يُستنسخ النموذج الباكستاني في مصر ووارد أيضاً أن تتحقق بعض مخاوف المصابين بفوبيا الإسلاميين، لكن كل هذا لا يقلقني، لأني متأكد من أن أي من هذه الأوضاع لو حدث فلن يستمر طويلاً ومصيره الفشل المؤكد لأسباب كثيرة. ولو حدث أي تعثر سوف نكمل النضال. الحركة سوف تستمر وسُنّة السياسة التغير والتدافع. لست خائفاً من المستقبل لأني لست على دراية به، لكني خائف من الحاضــر وكاره الماضي لأن كليهما يقتل أي أمل في مستقبل أفضل، حتى لو كان هذا الأمل محفوفاً بالمخاطر والعقبات والمخاوف.

هذه تقريبا خلاصة رأيي في مسار الثورة حتى الآن ومستقبل مصر والثورة والإسلاميين. وبكل أمانة أرى أن الثورة المصرية هي الثورة المركزية في الشرق الأوسط لهذا العصر مع احترامي لباقي الثورات الأخرى، لأنها (أي الثورة المصرية) الثورة التي تواجه بشكل رئيسي أسئلة علاقات السلطة السياسية والاقتصادية والمجتمعية ولهذا فهي تتحرك ببطء وبشكل وئيد، لكن يوماً ما سيتكلم الباحثون عن النموذج المصري.

(باحث وكاتب مصري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى