صفحات الرأي

لا حرية من دون مساواة


فواز طرابلسي

I

إن أكبر دليل على أن ما نحن شهود عليه، ومشاركون فيه، يرقى إلى مستوى الثورات، وأنه ليس مجرد كلمات عابرة، هو أن ما نشهده لا يقتصر على حجم القوى المحتشدة، ولا على ما عبّرت عنه من جرأة وتضحيات وكسر لحاجز الخوف ومخيلة في ابتكار الأساليب النضالية، بل يتعدى إلى ما تجلت عنه الانتفاضات من دقة وجذرية في شعاراتها، الأمر الذي سمح بأن يرددها ويتلاقى عليها عشرات الملايين من المحيط إلى الخليج، وخصوصاً شعارين منها هما: “الشعب يريد إسقاط النظام” و”عمل، حرية، خبز”. وقد كتبتُ في غير مناسبة مؤخراً(1) عن الثورة في المفاهيم التي تنطوي عليها عملية إعادة الاعتبار إلى الشعب ووحدته وسيادته، وإلى اعتباره مصدر السلطات والشرعية.. وحاولت البرهنة على أن الشعار في قيد التطبيق يشكل نقداً بالممارسة لمنظومة كاملة من المفاهيم والممارسات التي ارتبطت بالعولمة، بدءاً بترسيمة المجتمع المدني، ووصولاً إلى مقولات النيوليبرالية الاقتصادية بحسب إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات التنمية الدولية، وشددتُ على أن الجدّة الفكرية والعملية التي انطوى عليها الشعار هي في إيلائه الأولوية للسياسة، واعتباره إسقاط الأنظمة بداية عملية تحويل ديموقراطية جذرية للعلاقة بين الحكام والمحكومين.

II

يمكن القول إن إعادة الاعتبار إلى ثنائي الشعب/ النظام يشكل الجواب الأول عن موضوع هذا الملف المتعلق بالقيم الجديدة التي تنطوي عليها ـ أو يجب أن تنطوي عليها ـ العملية الثورية الحالية. على أني أود التوقف عند الشعار الثلاثي “عمل، حرية، خبز” لاستنطاق دلالاته والدفاع عنه، بعد أن تكاثرت محاولات استبعاده بالتجزئة أو الأحادية. فثمة ما يستدعي الاعتراض الشديد على الفصل التعسفي الذي يقام ضمن هذا الشعار الثلاثي بين النطاق السياسي: الحرية، من جهة، والنطاق الاقتصادي ـ الاجتماعي: العمل والخبز، من جهة أُخرى. ويترافق هذا الفصل مع إعلان أولويات نابذة عبّرت عنها شعارات راجت هي أيضاً مثل: “الموضوع هو الحرية وليس الخبز”، أو “إنها ثورة كبرياء وليست ثورة غذاء”، أو حتى “الحرية شرط مسبق للخبز”، فمثل هذه الشعارات يشكّل ردة فعل ساذجة وناقصة على الرشى المعيشية التي تقدمها الأنظمة رداً على مطالب التغيير السياسي. على أن هذه الشعارات النابذة تنمّ أيضاً عن ذهنية تطهرية ونخبوية سائدة تقيم الفصل بين القيمة والمبدأ من جهة، وبين المصالح من جهة أُخرى، وهي بذلك تشي بضيق أفق طبقي يتغافل عن مصالح وتطلعات الجسم الأكبر من التحالف الشعبي العريض الذي يخوض الانتفاضات.

إن مطلب “العمل” ليس إضافة ثانوية إلى المطالب، ذلك بأننا نتحدث عن عالم عربي هو صاحب رقمين قياسيين عالميين، الأول في نسبة الشباب من مجموع السكان، والثاني في نسبة البطالة، وخصوصاً بطالة الشباب. وقد ارتفع شعار تأمين العمل تعبيراً عن حاجة حيوية تخص المكوّن الرئيسي الذي أطلق الثورة ولا يزال يشكل وقودها وجناحها الأكثر جذرية، وهو الشباب الذي يرفض واقع بطالته، أو يعبّر عن قلقه إزاء مستقبله في ظل أنظمة تسدّ في وجهه آفاق المستقبل كافة.

إن تأمين فرص العمل ليس مطلباً يتعلق بالحريات، بل بالحقوق؛ حقوق المواطن، كما أن الديموقراطية ـ إذا ما كان ثمة حاجة إلى التذكير ـ هي حريات وحقوق معاً (وواجبات أيضاً)، علاوة على أن تأمين الحق في العمل ـ في ظل الأوضاع العربية الراهنة ـ يتطلب إعادة هيكلة للأنظمة والسياسات الاقتصادية، فعدم اعتماد سياسات اقتصادية جادة لتحقيق زيادات ملموسة في فرص العمل يعني فقط إعادة إنتاج العوامل التي أدت إلى الانتفاضات.

“الخبز”: نعم الخبز، بما هو الحقوق الاجتماعية. فمثلما يراد طمس المطلب المشترك للشباب في العمل، يجري السعي لإخفاء دور الجماهير الشعبية في الانتفاضات، وهي الفئات الأكثر حضوراً في التحركات جميعاً، والأكثر جرأة على الإقدام والتضحية، وأعني الفئات الواسعة من العمال والفلاحين والكسبة، ومن فقراء الريف ومهمّشيه، وسكان الضواحي الشعبية و”العشوائيات” في المدن، الذين تمرّدوا أيضاً، إن لم نقل خاصة، من أجل حقوقهم الاجتماعية: الحق في العلم والسكن والصحة والتحرر من الفقر وتأمين مستوى معيشة لائق. هذا في وقت تريد لنا أيديولوجيا العولمة النيوليبرالية، ورطانة المجتمع المدني، اختزال حقوق الإنسان بالحقوق الفردية، وحجب الحقوق الاجتماعية، أو إيلاءها المكانة الثانوية في أحسن الأحوال.

صحيح أن قوى الانتفاضات تلتقي على مركزية مطلب الحرية، وصحيح وألف صحيح أن الحرية بالمفرد والجمع قيمة بذاتها، لكن في التطبيق العملي، أيّ معنى يكون للحرية، بما هي نظام سياسي، إن لم يكن يعني حق الأكثرية الشعبية في إيصال ممثليها إلى مواقع القرار، وبالتالي حضور مصالح ومطالب وتطلعات فئات المجتمع المنتجة والمحرومة في الحياة العامة، فضلاً عن توافر الآليات الدستورية والمؤسساتية التي تسمح لها بالتعبير عنها وتحقيقها؟

أمّا في ما يتعلق بـ “الكرامة”، وهذه توضع أيضاً في مواجهة العمل والخبز، فالسؤال هو: هل إن التعذيب والقمع واحتقار الشعب ـ إمّا استعلاء على طريقة الرئيس الأسد وإمّا ذمّاً وشتماً على طريقة القذافي ـ والإقصاء عن الحياة العامة، كي لا نتحدث عن إجبار الأطفال على لثم أقدام العسكر، ودوس الشبيحة أو البلطجية أجساد المواطنين ووجوههم بالأرجل، هي وحدها امتهان للكرامة بينما البطالة اليومية والعوز اليومي والجوع اليومي والحرمان الاجتماعي والتمييز الطبقي لا تدخل في باب امتهان الكرامات؟

III

لنا في مجال العلاقة بين الحركات الاجتماعية والتغيير السياسي تجربتان تستحقان التوقف عندهما. الأولى هي تجربة الحركات الاجتماعية في السبعينيات والثمانينيات، وهنا يجدر التذكير بأن كل ما تحقق منذ أواخر الثمانينيات إلى مطلع هذه السنة، في مضمار التعددية السياسية والصحافة والالتزام ببعض المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان ـ على تواضعه ـ قد انتُزع انتزاعاً عن طريق انتفاضات شعبية كانت تحمل شعارات اجتماعية بالدرجة الأولى. فقد سقط حكم الحزب الواحد في الجزائر جرّاء انتفاضة شعبية في سنة 1988 كان للشباب العاطل عن العمل ـ “الحيطيين”، بحسب التعبير المحلي ـ الدور الأكبر فيها. كما أن هذه الانتفاضة فرضت إنجازات في مجالات التعددية السياسية والصحافية والانتخابات الحرة. أمّا “انتفاضات الخبز” في المغرب العربي في كل من المغرب وتونس في سنة 1984، والتي مهدت في حالة المغرب لإجراء تعديلات على الدستور زادت في صلاحيات السلطة التشريعية، فساهمت في مجيء حكومة من المعارضة إلى الحكم، بينما شكلت انتفاضة الخبز المصرية في سنة 1977 على أنور السادات، بداية الاعتراف بالتعددية الحزبية ـ المنابر ـ ولو تحت رعاية الحزب الواحد واستئثاره بالسلطة. والأمر نفسه ينطبق على انتفاضات جنوب الأردن في “هبّة نيسان” في سنة 1989 وما سبقها وتلاها.

وليس الغرض هنا تقويم ما بقي من تلك التنازلات، بل لفت النظر إلى أن هذه الحركات الاجتماعية التي كانت ردات أفعال أولية على بدء تنفيذ التعديلات الهيكلية والخصخصة، فرضت تنازلات في مجالات الحرية والتعددية السياسية من دون أن تنجز شيئاً يُذكر من مطالبها الاجتماعية المعلنة في ما يتعلق بزيادة فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة وتحقيق التنمية المناطقية. بعبارة أُخرى، فإن السلطات ردّت على التحركات الاجتماعية بتقديم تنازلات سياسية، لكن لا التنازلات السياسية تكررت، ولا تحقق شيء يُذكر في المجال الاجتماعي.

التجربة الثانية هي الحالة النقيضة، أي تلك التي يجري فيها التنازل في المجالات المعيشية والاجتماعية بدلاً من التنازل في المجال السياسي. فهذا ما حاولته ولا تزال تحاوله الأنظمة العربية قاطبة منذ انطلاقة الانتفاضات الشعبية مطلع هذه السنة. ولم تختلف طبيعة التنازلات بين أنظمة استبدادية عسكرية وسلالية ريعية إلاّ من ناحية تفاوت حجم الميزانيات المرصودة لها. فقد وُزعت الأعطيات المالية المباشرة على المواطنين عامة، أو على “الفقراء” خاصة، وتقرر رفع أجور موظفي الدولة، وأُقرت مشاريع إسكان، وصدرت وعود بتحسين التعليم وخدمات الدولة، إلخ. ولم تنفع هذه الأعطيات والصدقات في حرف الأنظار عن المسألة الرئيسية ـ مسألة السلطة السياسية، ومع ذلك، لم تلق الاهتمام الكافي للرد عليها من منظور ديموقراطي.

وهذا التنازل ينتمي إلى خانة الصدقات الفردية من طرف الحكام أو بطاناتهم المالية، وبعض الأمثلة فاقعة. فردّاً على أول موجة من التحركات الشعبية المغربية المطالبة بملكية دستورية وبمعالجة المشكلات الاجتماعية، أعلن مليك المغرب تخصيص أرباح شركاته لسنة 2010 لأعمال الخير والإحسان، والمبلغ المعلن ـ 2,5 مليار دولار ـ يشكل قيمة الربح السنوي لأعمال المليك التجارية والمالية، وهو ليس بأي حال الرقم الإجمالي لعائداته المالية، ولا هو قطعاً تقدير لثروة صاحب “المخزن”.(2) وهكذا حاول المليك “تبييض” أعماله التجارية وأرباحه، وشرعنتها، بالتصريح عنها، علماً بأن الدستور المغربي يحرّم على المسؤولين الحكوميين العمل في التجارة. وهنا يثور السؤال: هل إن المليك فوق الدستور أم تحته؟ وفي هذا السؤال تكمن مسألة الملكية الدستورية كلها، ولنا عودة إلى هذا الموضوع.

المثال الفاقع الآخر للأسلوب السلطوي في “تبييض” الثروات المتحققة جرّاء انتفاع الحكام وبطاناتهم بالسلطة السياسية على حساب المال العام، هو إعلان رجل الأعمال السوري رامي مخلوف، “تنحّيه” عن “البزنس” والتفرغ للأعمال الخيرية، بعدما عبّرت التظاهرات عن مبلغ الغضب الشعبي ضد ابن خال الرئيس بشار الأسد، وصولاً إلى إحراق مكاتب شركة الاتصالات الهاتفية التي يملكها مخلوف. ويصعب تصوّر كيف يمكن لرجل أعمال أن “يتنحى” عن أعماله، فضلاً عن ضرورة التشكيك في كل ما يصدر عن حكام وحواشي حكام في أنظمة درجت على الكذب. فنحن لم نسمع كثيراً عن التطبيقات الاقتصادية والمالية العملية بشأن “تنحي” الرجل الذي يحتكر قمم الاقتصاد السوري في المجال العقاري والاتصالات والمقاولات والنفط والأسواق الحرة، بل إن كل ما صدر في الإعلام هو إعلان مخلوف نيته توزيع أسهم في شركة الهاتف الخلوي التي يملكها على الفقراء. وما تسرّب حتى الآن يفيد بانسحاب رجل الأعمال وإخوته من شركات تقع ضمن دائرة العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الأمم المتحدة أو المجموعة الأوروبية أو الدول الإفرادية.

وأول ما يجب التشديد عليه هو أن هذه التصريحات والتوزيعات لم يقدم عليها أصحابها إلاّ لأن الانتفاضات قامت، ولأنها تطال الفساد والانتفاع بالسلطة وسرقة المال العام. ثم إن تلك الإجراءات تلجأ إلى الدين لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: تبييض الأرباح غير الشرعية؛ تفادي المساءلة؛ كسب براءة أخلاقية بحجة الإحسان. وبواسطة مهازل فاجعة كهذه يتحول اللص إلى مُحسن كريم! ويصير سارق أموال الناس هو مَن يتصدق بـ “ماله” عليهم!

أليس من صلة بين هذه القضايا “الاقتصادية” وبين المبادئ الديموقراطية؟ لسنا مضطرين إلى البحث عن إجابة مبدئية عن السؤال، فالجواب يأتي من تونس ومصر حيث ترسي الثورة سابقة تاريخية في التأسيس لتقليد ديموقراطي يقضي بمساءلة الحكام على تفريطهم في المال العام، أو على سوء استغلالهم السلطة لغرض الكسب المالي، ثم بتقديمهم إلى المحاكمة وإدانتهم وفرض العقوبات عليهم، بما فيها إلزامهم بإعادة الأموال المنهوبة أو المكتسبة بطرق غير مشروعة إلى خزينة الدولة.

إن ما جرى في تونس ومصر يشكل سابقتين تاريخيتين: الأولى تمثلت في سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك، والذي يُعتبر أول حدث يزاح فيه حاكم عربي عن الحكم بواسطة الضغط الشعبي السلمي في التاريخ العربي المعاصر، هذا إذا استثنينا استقالة بشارة الخوري من رئاسة الجمهورية اللبنانية في سنة 1952 تحت ضغط إضراب سياسي مفتوح. أمّا السابقة التاريخية الثانية فهي محاكمة رئيسين عربيين بتهمة الأمر بإطلاق النار على متظاهرين مدنيين سلميين، وسرقة المال العام والفساد. وإنه لمعبّر جداً أن ينزل إلى ميدان التحرير في القاهرة أكثر من 100,000 مواطن مصري لإعلان رفضهم عقد صفقة مع الرئيس المخلوع حسني مبارك تقضي بإعادة بعض أمواله إلى الدولة لقاء وقف محاكمته هو وعائلته.

وعن طريق مثل هذه الإجراءات تتأسس سياسة جديدة في العالم العربي، وكذلك علاقات من نوع آخر بين المجتمع والسلطة السياسية. فلا معنى للحديث عن ملكية دستورية في المغرب من دون الشفافية والتمييز الكامل بين أموال الأسرة الحاكمة وأملاكها وبين المال العام، ولا فحوى للحديث عن مساءلة الحكام والمحاسبة من دون تقديم أمثال رامي مخلوف إلى محاكمة عادلة يتقرر فيها حجم المبالغ التي حققها بالوسائل غير المشروعة أو بالانتفاع من السلطة كي تعاد أمواله وأرباحه تلك إلى خزينة الدولة السورية.

IV

لا حرية من دون مساواة، وأنا هنا لا أقصد المساواة الاقتصادية والاجتماعية أو العدالة الاجتماعية، مع أن تطعيم النضال الديموقراطي السياسي بعناصر الديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية يجب أن يكون الشغل الشاغل لليساريين.

المقصود هو المساواة السياسية والقانونية بما هي شريك الحرية في بناء نظام ديموقراطي. إن إعادة صوغ الحياة السياسية، وتحقيق توازن قوى جديد بين حكام ومحكومين، أي تحقيق الأهداف الرئيسية للثورات، يعنيان الآن ما يلي:

أولاً، إعادة تأسيس الاجتماع السياسي على تعاقد جديد بين المواطنين يجسده دستور جديد يكرّس حريات المواطنين وحقوقهم والمساواة السياسية والقانونية بينهم من دون تمييز في الجنس والعرق والدين والعمر والموقع الاجتماعي.

ثانياً، تثبيت مبدأ غلبة السلطة التشريعية المنتخبة من الشعب والمعبّرة عن إرادته الحرة (“الشعب يريد”) على سائر السلطات. والترجمة العملية لهذه الغلبة هي صدور السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية التي تمنحها الثقة، أو تحجبها عنها، وتتولى مساءلتها ومحاسبتها، وزراء، أفراداً وفريقاً تنفيذياً، بما يتضمن ذلك من أحكام وعقوبات. وجدير بالتذكير هنا أن مبدأ فصل السلطات، الذي يتضمن بالدرجة الأولى استقلال القضاء، لا يعني وضع السلطات الثلاث على قدم المساواة.

وليس من قبيل المصادفة أن تكون هاتان القيمتان في صلب البرامج التي تطرحها تنسيقيات الشباب الثائر في مختلف الانتفاضات، ولا هو غريب أن تحتشد ضد هذا الإجراء وغيره، قوى التدخل الخارجي والمحافظة على الأمر الواقع والتيارات الإسلامية المتعددة.

ويمكن هنا الاكتفاء بمثالين راهنين لتلك المعارضات:

أولى المعارضات هي تغليب الشريعة على الأحكام الجمهورية الديموقراطية من أجل رفض التأسيس دستورياً ومؤسساتياً للمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين. ويعبّر عصام العريان، القائد في تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، عن هذا الاتجاه أوضح تعبير في دفاعه عن الدستور المصري المعدل الذي دعت حركات الشباب الثائر والتشكيلات القومية واليسارية والعلمانية إلى التصويت ضده.(3) فهو، وباسم الشريعة بما هي المصدر الرئيسي للتشريع، يفتي بأن حقوق “إخواننا” المسيحيين مكفولة وفق الشريعة في أحوالهم الشخصية، ذلك بأن “حق الاعتقاد والعبادة تكفله الشريعة وهي أسمى من كل تشريع” على حد قوله. ربما تكون الشريعة “أسمى من كل تشريع”، لكنها لا تساوي بين المسلمين وغير المسلمين، هكذا وبكل بساطة. وحق الاعتقاد والعبادة مكفول في الشريعة في ظل نظام الذمّية لا في ظل نظام من المساواة بين مسلمين وغير مسلمين. وما يقال عن مصر يقال عن مسألة الأقليات القومية والإثنية والمذهبية والدينية، فضلاً عن موقع النساء من الحياة السياسية، في أي مكان آخر من العالم العربي. وهنا، فإن الخيار كان، ولا يزال، إمّا المساواة السياسية والقانونية للمواطنين، وإمّا التشجيع على النزعات الانفصالية والاستعانة بقوى غربية.

أمّا المثال الثاني المتعلق بمعارضة منح الأولوية للسلطة التشريعية فيتجسد في التعديلات الدستورية التي أصدرها الملك المغربي على ما سماه الطريق إلى نظام ملكي دستوري. فالتعديلات تلحظ توسيع صلاحيات البرلمان من ناحية وجوب التمثيل النسبي للمعارضة ومنح الأكثرية حق اختيار الحكومة، كما أنها تقضي بتوسيع صلاحيات رئيس الحكومة من حيث حقه في إقالة وزير أو أكثر بعد “موافقة” الملك، في حين يحق للملك إقالة الوزراء بعد “استشارة” رئيس الحكومة. إلاّ إن التعديلات تُبقي الصلاحيات التنفيذية الفعلية بيد الملك كونه يرأس المجالس الوزارية، فضلاً عن أنها تحفظ له سلطته ومرجعيته وشرعيته الدينية، لأنه “أمير المؤمنين”، ورئيس “المجلس الأعلى للعلماء”، في ظل الإسلام ديناً للدولة. ويكرّس الدستور الجديد سلطة الملك العسكرية كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة والأمنية، ورئيس المجلس الأمني، فضلاً عن أنه رئيس المجلس الأعلى للقضاء، الأمر الذي يجعل القضاء خاضعاً للسلطة التنفيذية. وقد عارض الشباب الثائر في “حركة 20 فبراير” التعديلات لاعتبارها غير كافية تحديداً لجهة إبقائها الصلاحيات التنفيذية في يد الملك، وأصروا على أن تكون الملكية لا دستورية فحسب، بل دستورية برلمانية قائمة على فصل السلطات أيضاً. ومهما يكن، فإن هذه التعديلات تشكل أوسع تنازلات قدّمها حاكم عربي حتى الآن تحت ضغط الانتفاضات الشعبية، وقد حظيت بأكثرية لافتة في الاستفتاء الدستوري الأخير، فما علينا إلاّ احترام الإرادة الشعبية المعبّر عنها في الاستفتاء مع استمرار التحفظ.

وعلى هذين المبدأين يدور الآن الصراع بين تيارين: الأول، تعددي سلطوي محكوم بالمبدأ الأمني الإمبريالي نفسه ـ بما فيه أمن النفط وأمن إسرائيل ـ ويشكل الإطار السياسي للنيوليبرالية الاقتصادية؛ الثاني، ديموقراطي مدني قائم على المواطنة ويجمع بين الحرية والمساواة. التيار الأول هو مشروع قوى الردة والتدخل الخارجي، أمّا الثاني فهو المشروع المعبّر عن طموح القوى العاملة وتطلعاتها من أجل السيادة الشعبية والاستقلال الوطني.

V

وتتبدى أهمية هذين المبدأين الحيويين للديموقراطية في معاينة مشاريع التدخل الخارجي بدقة، وفي محاولات احتواء الانتفاضات بواسطة القوى المحافظة على الأمر الواقع والردة.

إن أكثر ما تخشاه الولايات المتحدة في المنطقة هو قيام أنظمة ديموقراطية من النمط الذي عيّنا أعلاه. فالمبدأ الثابت للاستراتيجيا الأميركية كان، ولا يزال، إيلاء الأولوية للأمن الإمبريالي، بما فيه القواعد العسكرية الأميركية وأمن قاعدتَي السيطرة الإمبريالية في المنطقة: النفط وإسرائيل. ولذا وجب النظر إلى السلوك الأميركي تجاه الانتفاضات بالتمييز بين دائرتين – أمن النفط وأمن إسرائيل – والأخذ بعين الاعتبار، لدى تحليل ردات الفعل والسياسات الأميركية، التفريق بين الأماكن الساخنة والأماكن حيث المعارضات ضعيفة أو بدائية. والمقياس في الحالتين هو السلوك العملي لا الرطانة الديموقراطية، علماً بأنه حتى الرطانة تفضح الحدّين اللذين تقف عندهما السياسات: حد إحلال المساواة السياسية والقانونية، وحد الأولوية للسلطة التشريعية.

إن العمر الحقيقي لسياسة “التحويل الديموقراطي” الأميركية في المنطقة هو عمر عهد بوش الابن، ذلك العمر الذي يتجلى في انتشار ردات الفعل على تدمير مركزَي التجارة العالميين في نيويورك. فقد كان قوام هذه الفترة فكرتين من بنات أفكار المحافظين الجدد هما: أولاً، أن الديموقراطيات لا تتحارب، وهكذا تكون الديموقراطية العربية السبيل إلى السلام العربي ـ الإسرائيلي؛ ثانياً، أن بناء أنظمة ديموقراطية هو الحاجز الأكثر فاعلية في وجه الإرهاب. وأول ما يجب لفت النظر إليه هو أن أياً من المبدأين لم يطبّق على العربية السعودية على الرغم من أن المتهمين بالعملية الإرهابية في 11/9/2001، في معظمهم، بمَن فيهم أسامة بن لادن، هم من نتاج التشدد الإسلامي السعودي. ثم إن التبشير بضرورة الديموقراطية لتجفيف ينابيع الإرهاب، كما كانت الخطة تسمى آنذاك، لم يمنع الجواب على الإرهاب من أن يكون عسكرياً لا ديموقراطياً.

فالعراق الذي جرى احتلاله وتدمير كل من دولته واقتصاده وحياته المدنية، لا باسم الديموقراطية بل باسم كذبتَي السلاح النووي والصلة بتنظيم القاعدة، لم تجلب دباباتُ الجيش الأميركي والجيوش الحليفة، الديموقراطيةَ إليه، كما حلم بعض الليبراليين في بلادنا، بل إن ضغط العالِم الأبرز آية اللَّـه السيستاني هو الذي فرض الانتخابات النيابية لأنه وضعه شرطاً لتغطيته موقفه من الاحتلال، وكان يحسب أن الانتخابات ستجيء بأكثرية شيعية إلى الحكم. وفي المقابل، فإن المفوض السامي للاحتلال، بريمر، كان يؤثر تعيين “مجمع أعيان”، على الطريقة الأفغانية، يضم وجهاء مدينيين وزعماء أحزاب موالية للاحتلال وشيوخ عشائر ورجال دين، على اعتماد المجلس النيابي المنتخب. وفي المحصلة، أصبحت الفدرالية الإثنية ـ المذهبية، بديلاً من المواطنة المتساوية سياسياً وقانونياً، وبات اعتماد رئيس للحكومة ذي صلاحيات تنفيذية واسعة، هو الترجمة العملية لما تبجح به المحافظون الجدد من بناء عراق جديد يكون نبراساً للديموقراطية في المنطقة!

عدا ذلك، فإن نسق الطلبات الأميركية كان واحداً خلال تلك الأعوام القليلة من غلبة الرطانة الديموقراطية، والتي برز فيها الحديث عن عناوين التعددية السياسية والإعلامية والحزبية، لكن في ظل حكم الحزب الواحد والفرد الواحد كما كانت الحال في مصر وسوريا واليمن، فضلاً عن ليبيا “الجماهيرية”، والالتزام بتقديم معتقلي الرأي والسياسة إلى المحاكمة بغض النظر عن مدد وجودهم في الاعتقال من دون محاكمة، وعن الأحكام القاسية التي صدرت بحقهم.

وفي سياق حملة “التحويل الديموقراطي” هذه، تواترت الأنباء عن ضغوط أميركية مورست على الرئيس المخلوع حسني مبارك لتنظيم انتخابات رئاسية تعددية وحرة في سنة 2005، فأعلن أنه ينوي ذلك لكنه وضع القيود على مَن يحق لهم الترشح، وعلى شروط الترشيح. ولم يكتف بذلك، بل اعتقل منافسه الوحيد الجاد، رئيس حزب “الغد” أيمن نور، فماذا كانت ردة فعل الإدارة الأميركية؟ أرسل بوش الابن زوجته إلى القاهرة لمباركة الانتخابات! لعل الرسالة ذاتها بلغت الرئيس علي عبد اللَّـه صالح فأعلن عزوفه عن الترشح لولاية رئاسية جديدة، لكن الأمر لم يكن بريئاً أصلاً، لأن الرجل كان ينوي تقديم ابنه أحمد إلى الخلافة، ومع ذلك، فإن صالح عندما اكتشف أن ليس ثمة همّ أميركي فعلي في تداول السلطة، ولو شكلاً، تراجع عن قراره ـ خضوعاً منه لـ “الضغط الشعبي” طبعاً.

أمّا في السعودية، فإن ما تمخضت عنه مواسم “التحويل الديموقراطي” في أكبر بلد مصدّر للإرهاب والنفط، هو قرار ملكي بإجراء انتخابات بلدية. وقد اقتصر حق الترشح والانتخاب على الرجال، طبعاً، ووصل الفائزون إلى مجالس بلدية، لكن من دون صلاحيات. ولما انتهت ولاية المجالس لم يجر التمديد لها، ولا يزال الوعد بإجراء انتخابات بلدية أُخرى مجرد وعد.

وماذا عن سورية؟ هل كان ثمة مشروع أميركي لتغيير النظام السوري، أم علينا أن نقتنع بأن الأمر لم يتعدّ ما سمته كوندليسا رايس “تغيير سلوك”؟ إن الفارق بين الاثنين كبير، والمتأمركون اللبنانيون يؤكدون أن المسؤولين الأميركيين لم يطرحوا قط ما يتعدى تغيير السلوك ذاك. وفي المقابل، يصعب تصوّر أن “التحويل الديموقراطي” كان ضمن الشروط الثلاثين التي قدمها كولن باول إلى الأسد، بل إن معظمها، على الأرجح، دار حول قضايا إقليمية.

والأفدح من هذا كله أن مشروع “التحويل الديموقراطي” قضت عليه انتخابات ديموقراطية! فقد توفي المشروع في مطلع سنة 2007، وبقي هكذا ثلاثة أعوام من دون مراسم دفن، الأمر الذي تحدث عنه سياسيون أميركيون في إثر نيل الإخوان المسلمين في سنة 2005، نسبة عالية من أصوات الناخبين المصريين، ومن المقاعد النيابية، والتي تلاها فوز حركة “حماس” في سنة 2006 في الانتخابات الفلسطينية التعددية والحرة، والتي جرت في ظل رقابة دولية.

هذا هو موسم “التحويل الديموقراطي” الذي تمناه البعض كمشروع تدخل أميركي، عسكري ودبلوماسي، لنشر الديموقراطية في الربوع العربية، وهو الموسم الذي استهوله واستقبحه البعض الآخر معتبراً نشر الديموقراطية هو الهدف الرئيسي لمؤامرة عنوانها “المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي”، والتي تبغي بناء “الشرق الأوسط الجديد”. ويأتي هذا التحليل كله ونحن لا نزال إلى الآن نضرب أخماساً بأسداس في محاولة تعيين ما هو المشروع، وأين الجديد في الشرق الأوسط الأميركي.

VI

لماّ كان تعيين الاستراتيجيا الأميركية في حقبة الانتفاضات خيراً من لعن “المؤامرة”، فإن محاولة رسم المعالم العامة لتلك السياسة، والتي هي في قيد التجربة والتطبيق والتعثر في محاولاتها التعويض عمّا فات، ومحاولة التوفيق بين الرطانة الديموقراطية والمصالح الوطنية الأميركية، هما أمر مفيد، علماً بأن ما من مرة قام التعارض بين الاعتبارين إلاّ كانت الغلبة للمصالح.

ويتبدى هزال ادعاءات إدارة أوباما “الديموقراطية” في حقبة الانتفاضات ممّا قاله الرئيس الأميركي في آخر خطاب له عن المنطقة، بعد سقوط بن علي ومبارك، إذ أسرّ بأن الولايات المتحدة كانت تضغط باستمرار على الرئيس مبارك كي يعيّن نائباً له! لكن حقيقة الأمر اتضحت في أن مبارك خضع للضغط متأخراً ولم ينفعه التعيين بشيء ولا نفع نائبه المعيّن، فسقطا معاً. وفي جميع الأحوال، يصعب فهم الصلة بين وجود نائب لرئيس الجمهورية والتحويل الديموقراطي، اللهم إلاّ إذا كان الأمر مجرد تقليد للنظام الرئاسي الأميركي.

من جهة أُخرى، لا يبدو أنه طرأ تعديل يذكر على أولوية الأمن الأميركية. ففي منطقة النفط والقواعد الأميركية، لا يزال الهمّ الأول هو الحفاظ على أنظمة الاستبداد الريعية السلالية في دول الخليج حيث يجري التعامل مع أي حراك في هذه المنطقة باعتماد الوسائل العنيفة: دعم التدخل العسكري الخليجي في البحرين، والأطلسي في ليبيا. أمّا في اليمن، المشمول بالمنطقة النفطية، فإن المبادرة الخليجية المدعومة أميركياً، تقف على الحدود بين تأمين تنحي علي عبد اللَّـه صالح ونجاح الدبلوماسية الأميركية في أن تؤدي دور الوسيط بين المعارضة متمثلة في أحزاب “اللقاء المشترك” وبين علي عبد اللَّـه صالح، الأمر الذي تناقلته وسائل الإعلام بصراحة في نهاية آذار/ مارس 2011، مظهرة أن السفير الأميركي جيرالد فايرستاين استمر في لقاء قوى المعارضة في صنعاء ناشطاً في صوغ مطالب المعارضة الرسمية بشأن نقل الصلاحيات إلى نائب الرئيس، وذلك على حساب المطالب الجذرية للشباب الثائر.

أمّا في منطقة الأمن الإسرائيلي، فتجري محاولة الالتفاف على خسارة حسني مبارك بالاتكال على الجيش الممسوك بالدعم المالي الأميركي والبالغ نحو مليار و300,000 دولار أميركي سنوياً، بحسب تقارير متعددة، وبفتح قنوات الحوار مع تنظيم الإخوان المسلمين، والسيدة كلينتون لم تُخف أن الحوار الأميركي ـ الإخواني جار منذ خمسة أو ستة أعوام. وليس مستغرباً أن تكثر الإشارات إلى استلهام التجربة التركية، ما دام “الإخوان” يثيرون الاهتمام الأميركي ليس فقط لأنهم يلبون مواصفات “الاعتدال”، بل لاعتمادهم نظاماً اقتصادياً يلتقي والنيوليبرالية في غير وجه أساسي، ولتوجهاتهم المحافظة سياسياً واجتماعياً، في حين رأى المفكر الاقتصادي السياسي المصري سمير أمين أن الولايات المتحدة هي أكثر ميلاً نحو النموذج الباكستاني حيث يحكم جيش إسلامي في الكواليس خلف حكومة مدنية يديرها حزب إسلامي أو أكثر (“الحوار المتمدن”، 27 نيسان/ أبريل 2011). ويظهر التردد الكبير في الموقف من النظام السوري على اعتبار أن لا بديل واضحاً له من تأمين هدوء الجبهة الشمالية مع فلسطين المحتلة وضبط “حزب اللـه” في لبنان. ففي البدء، دعمت الدبلوماسية الأميركية الدور التركي في الأزمة السورية على أمل رعايته تسوية “إصلاحية” بين النظام والتيار الإسلامي، لكن عندما تعثر الدور التركي، إزاء شدة الانتقادات التي وجهتها القيادة التركية إلى أعمال العنف الرسمي والتهجير في الشمال السوري، تزايد إغراء الدور الأميركي المباشر. ولعل النظام ذاته شجّع عليه بالانتقال من التركيز على الحل مع التيار الإسلامي إلى تبني بعض “الحوار” مع شخصيات ليبرالية، وذلك على خلفية صدور القرار الظني للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والمتعلق بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي اتهم أربعة من قادة “حزب اللـه”، وكذلك تواتر أنباء عن قرب اتهام شخصيات أمنية قريبة من الرئيس الأسد. لكن الغضب الشعبي يتصاعد ومعه القمع، كما يظهر من خروج عشرات الألوف من سكان حماة لأول مرة في تظاهرات عارمة يوم جمعة “اِرحل” في الأول من تموز/ يوليو. ومهما يكن الأمر، فإن الحوار مفتوح مع الدبلوماسية الأميركية بشأن شكليات التعديلات الدستورية، ولا يبدو أنها تمسّ الركيزة الأمنية العسكرية للسلطة ولا النظام الرئاسي ذا الصلاحيات شبه المطلقة.

وهكذا يمكن وضع تشخيص أولي لخصائص التدخل الأميركي لدى أنظمة لم تغيّر شيئاً من نهجها في ضمان استمرارها في السلطة والتسلط عن طريق توسل الشرعية الخارجية وتقديم التنازلات لذلك “الخارج” على حساب شعوبها. ويمكن إجمال خصائص نهج السلطات على إيقاع التدخل الأميركي بأربعة محاور:

الأول، هو استصدار تأكيدات الحكومات الجديدة (في تونس ومصر) بشأن الاستمرار في النهج النيوليبرالي، ودعم قمع أو منع الإضرابات والتحركات العمالية والنقابية باسم الأمن الاجتماعي هذه المرة.

الثاني، ضمان استمرار الجيوش وأجهزة الأمن كركائز للسلطة السياسية، وخصوصاً في دائرة أمن إسرائيل.

الثالث، ترجيح كفة المؤسسة التنفيذية على التشريعية، وذلك بإدخال، أو من دون إدخال، تعديلات على صلاحيات الحاكم التنفيذية أو سلطاته.

الرابع، تقديم التعددية السياسية والإعلامية على، وبديلاً من، المساواة السياسية والقانونية، واعتبار الفدرالية، إذا ما اقتضى الأمر، بديلاً من الديموقراطية بما هي الحل لقضايا مختلف الأقليات.

لقد سعت هذه الصفحات للدفاع عن فكرة التلازم بين قيمتَي الحرية والمساواة، على اعتبار أنهما ركيزتا المشروع الديموقراطي، فكان لا بد من التمييز بين صيغتين لذاك المشروع، واحدة تقوم ـ باسم الحرية ـ على التعددية السياسية والإعلامية، والأُخرى لا تمسّ الأساسي في الأنظمة القائمة: الطابع غير المدني للدساتير وغلبة المؤسسة التنفيذية ـ وخصوصاً الحاكم الفرد ـ على التشريعية كونها المؤسسة المعبّرة عن الإرادة الشعبية. ولذلك، سلطتُ الضوء على حقبة أساسية من حقبات الاستراتيجيا الأميركية في المنطقة في أعقاب الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وهي حقبة إدارة الرئيس جورج دبليو بوش والمحافظين الجدد التي اختلطت فيها أحادية شعار “الحرب على الإرهاب” برطانة الحديث عن “التحويل الديموقراطي”. وحاولنا، في ضوء تلك المقدمات، ومقارنة بها، استقراء ملامح السياسات الأميركية تجاه الانتفاضات الديموقراطية الجارية حالياً بإعادة الاعتبار إلى الثنائية الدائمة في السياسة الخارجية الأميركية بين المصالح ـ وهي عندنا النفط وإسرائيل ـ وبين الرطانة الديموقراطية، بما هي الأيديولوجيا المؤسسة للاجتماع الأميركي. ويتبيّن على نحو متزايد أنه كلما يقوم تعارض بين المصالح والأيديولوجيا، تكون الغلبة للمصالح.

(1) انظر: فواز طرابلسي، “الثورات تُسقط أنظمة الأفكار أيضاً”، “الأخبار”، 20 حزيران/ يونيو 2011؛ مجلة “شؤون الأوسط”، حزيران/ يونيو 2011؛

Fawaz Traboulsi, “Revolutions Bring Down Ideas As Well”, Perspectives, no. 2 (May 2011), pp. 14-21.

(2) “المخزن” هو مصطلح خاص بالمملكة المغربية، ويتألف من النظام الملكي وأعيانه وكبار ملاّكي الأراضي، فضلاً عن كبار مسؤولي الأمن والجيش وزعماء قبائل وغيرهم. (المحرر)

(3) “الأخبار”، 30 حزيران/ يونيو 2011.

ينشر هذا المقال في “مجلة الدراسات الفلسطينية”، خريف 2011.

عناوين فرعية

1ـ ÷ تريد لنا ايديولوجيا العولمة النيوليبرالية، ورطانة المجتمع المدني، اختزال حقوق الإنسان بالحقوق الفردية وحجب الحقوق الاجتماعية.

2ـ ÷ التنازل في المجالات المعيشية والاجتماعية بدلاً من التنازل في المجال السياسي هو ما حاولته الأنظمة العربية بعد انطلاقة الانتفاضات الشعبية.. ولم تنجح هذه «الرشوة» في حرف الأنظار عن مسألة السلطة السياسية.. والديموقراطية.

3ـ ÷ تطعيم النضال الديموقراطي السياسي بعناصر الديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية يجب ان يكون الشغل الشاغل لليساريين.

4ـ ÷ ربما تكون الشريعة «أسمى من كل تشريع» لكنها لا تساوي بين المسلمين وغير المسلمين.. وحق الاعتقاد والعبادة مكفول في الشريعة في ظل نظام الذمّية لا في ظل نظام من المساواة بين مسلمين وغير مسلمين.

5ـ ÷ ان مشروع «التحويل الديموقراطي» (الأميركي) قضت عليه انتخابات ديموقراطية، في فلسطين فقد توفي المشروع بعد نيل «الاخوان» في مصر نسبة عالية من الأصوات وبعد فوز حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية التعددية الحرة.

6ـ ÷ في منطقة النفط والقواعد الأميركية، لا يزال الهم الأول هو الحفاظ على أنظمة الاستبداد الريعية السلالية في دول الخليج.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى