صفحات العالم

لا خصوصية في الوضع السوري


محمد الحدّاد

ثمة شعور لدى كثيرين بأن الربيع العربي واحد، فهو يمتدّ من المحيط إلى الخليج، لكنّه يتخذ شكلين مختلفين.

فهناك أنظمة تميزت بالتصلب والصمم منذ سنوات وقد اهترأت وعجزت عن متابعة تطورات العالم، فكان مصيرها الانهيار التام أمام الثورات العاتية، وهناك أنظمة أخرى استشعرت الخطر وفهمت أن أمراً جللاً يحدث في المنطقة فشرعت في ممارسات إصلاحية متدرجة قد يفضلها كثيرون من مواطنيها على هزات ثورية غير مأمونة العواقب، أو يمنحونها على الأقل فرصة إثبات جديتها لفترة معينة. معضلة الملف السوري أنه يبدو كأنه لا يستقيم في إحدى الخانتين وأنه خارج الربيع العربي وأقرب إلى معضلة العراق في عهد صدام حسين، أي أنه ملف ذو خصوصية يدعو إلى التعامل معه بمقتضاها.

هذا غير صحيح. لقد كان وصول الأسد الابن إلى السلطة في سورية فاتحة حركات التحريف الدستوري في العالم العربي. نتذكر كيف اجتمع ما يدعى البرلمان السوري آنذاك ليعدّل الدستور ويحدّد سنّ الترشح للرئاسة بالضبط على مقاس المرشح الرسمي. وقد راقبت الأنظمة العربية هذا الحدث عن كثب لتتبين ردود فعل القوى الدولية فلما جاءت هذه الردود متفهمة ومتسامحة انطلق في العالم العربي مهرجان التوريث الجمهوري: مبارك يعدّ لابنه جمال، والقذافي لابنه سيف الإسلام، وبن علي لصهره صخر الماطري أو زوجته ليلى، إلخ. لكن المهرجان انتهى نهاية سيئة لأصحابه وكان أحد المكاسب الكبرى للربيع العربي أنه أطاح من دون رجعة مبدأ التوريث الجمهوري الذي لو حصل لكان أكبر مهزلة في تاريخ العالم العربي. ولقد سقطت كل الأنظمة التي اقتبست هذا المبدأ عن النظام السوري، بينما ظل هذا النظام قائماً حتى الآن مع أنه الأصل والنموذج والبقية تبع نسجوا على منواله. ولن يبلغ الربيع العربي غايته ما دام الأصل قائماً.

بالتأكيد، النظام السوري أقوى من الأنظمة التي اقتبست عنه، وعناصر قوته إذا فككناها وجدناها مبثوثة في الأنظمة الأخرى. لكن الخصوصية السورية، إذا جاز استعمال العبارة، تتمثل في اجتماع هذه العناصر دفعة واحدة في الوضع السوري. كل الأنظمة نسجت لنفسها شرعية ما، والنظام السوري قد استند إلى شرعية المقاومة، ومما لا شك فيه أن الربيع العربي يدفع باتجاه تعزيز ثقافة المقاومة وإعادة الحماسة للقضية الفلسطينية، وهذا أمر بارز للعيان تؤكده حادثة السفارة الإسرائيلية في القاهرة أو النفوذ الذي باتت تتمتع به جمعيات مقاومة التطبيع بتونس، ويحذر البعض من أن سقوط النظام في سورية سيضرب المقاومة ويترك لإسرائيل فرصة الاستفراد بشؤون المنطقة، ويربطون الوضع السوري بما حصل في العراق سابقاً لا بما يحصل في دول الربيع العربي. وهذه الدعوى يمكن ردّها بأن التعديلات الحاصلة في السياسة الخارجية المصرية والتركية ستؤدي إلى توازنات جديدة في المنطقة وإلى جدية أكبر في مقاومة الصلف الإسرائيلي، غير التلويح بالشعارات وإلقاء الخطب الرنانة والتضحية بلبنان وشعبه وبيع العالم العربي إلى نظام الملالي.

ويقول آخــرون إن وضع الجـــيش في سورية يختلف عن وضعه في البلدان الأخرى، فهو متماسك ومســاند بقـــوة للنـــظام، بيــنما كان التـــململ واضــحاً لدى الجيش المصري أو التونسي قبل الثورة بفترة طويلة. أما في ليبيا فلم يكن يوجد جيش بالمعنى الدقيق للكلمة. ولكن هنا أيضاً يمكن الإشارة إلى أن كل جيش هو ضباط وجنود، وعلى افتراض تماسك الضباط فإن الجنود جزء من الشــعب بـــل هم مختارون في الغالب من طبقاته الأكثر بؤساً، فسيشملهم عاجلاً أم آجــلاً الغــضب من الممارسات التي يتضرر منها إخوتهم وبنو عمومتهم. وقد بدأت بعض مظاهر التمرد وهي مهيأة لمزيد من التوسع.

ويشدّد المدافعون عن خصوصية الوضع السوري على التوزيع الطائفي والتركيبة المعقدة للمجتمع، ليؤكدوا وجهة نظرهم أن الوضع السوري ينبغي أن يقاس على وضع العراق وليس على وضع الثورات العربية الراهنة، لكننا نرى أن كل بلد معقد التركيب ومهدد بخطر الانفجار إذا لم تنجح فيه التجربة الديموقراطية. فمصر أيضاً مهددة بانقسام على الطريقة السودانية بين مسيحييها ومسلميها إذا لم تنجح الديموقراطية. حتى تونس البلد الذي كان يبدو شديد التجانس أصبح يعيش على وتيرة نزاعات عشائرية قوية يعاني الجيش الأمرّين في محاولات إخمادها. ثم إن الطائفية ليست معطى مطلقاً، فهي تخضع أيضاً لحسابات الربح والخسارة، فإذا كان الموقف الطائفي (أو العشائري أو غيره) يقوم على قاعدة انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فإن توقعات المستقبل تدفع إلى البحث عن منافذ جانبية عند اشتداد الخطر، عدا أن الطائفة ليست كلها مجموعة من المستفيدين من الوضع القديم.

لا يبدو أن هناك مبرّراً يسمح بالحديث عن خصوصية سورية، سوى أن المعارضة السورية تتحمل عبء مواجهة مجموعة من العناصر مجتمعة وفي آن، ما يجعل التحدّي أكبر. والمطلوب من الثورة السورية أن تتمسك بطابعها اللامسلّح مهما كان الثمن، لأن الثمن البشري لتسليحها سيكون أكبر في كل حال وسيصبح ضبط الأوضاع بعد ثورة مسلحة أكثر عسراً وسيمنح الحركات الأكثر راديكالية دور الريادة، وسيضع سورية على خط التدخل الإيراني المباشر. وما عدا ذلك فإن سورية جزء من الربيع العربي، بكل ما يجمع من آمال وأخطار ورهانات وتجاذبات.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى