صفحات الثقافة

لا داعي لانتظار البرابرة.. فقد وصلوا/ أمجد ناصر

 

 

“لِمَ لم يأت الخطباء المفوهون،

هنا، كالعادة، ملقين خطبهم،

قائلين ما ينبغي أن يقولوا؟

لأنَّ البرابرة سيصلون اليوم

وهم يسأمون البلاغة والفصاحة”.

هذا ما يقوله الشاعر اليوناني المصري العظيم قسطنطين كفافي، في قصيدته الشهيرة “بانتظار البرابرة” التي كتبها في اليونان عام 1898، ونشرها في الإسكندرية، بلد ولادته وحياته ومماته، في عام 1904. معلومٌ، بالطبع، أن كفافي كان يكتب الشعر لنفسه ونفرٍ قليل من صحبه، ولم يكن يهتم بالشهرة كثيراً، إلى أن أذاع خبره وترجمات من شعره كتّاب وصحافيون غربيون مرواً بالإسكندرية الكوزموبوليتية يومها، أو أقاموا فيها (داريل، فورستر، مثلاً) فتحوَّل الموظف الحكومي المتواضع، سريعاً، إلى أيقونةٍ شعريةٍ عالمية. فهنا شعريةٌ مكتوبةٌ باليونانية الحديثة (هو أحد روادها)، لكنها تمتح موضوعاتها من العالم الهيليني الوثني، قافزة عن المسيحية، كأنها لم تكن. وعلى الرغم من تركّز هذه الشعرية على التاريخ الإغريقي القديم، وبعض أحداثه المعروفة، إلا أنها استطاعت أن تعبر التاريخي والإثني واللغوي المتعيّن، إلى الكوني المفتوح، عبر تمثّل حالات إنسانية، لا يغيرها الزمن ولا الجنس ولا اللغة.

تبدأ قصيدة “بانتظار البرابرة” باحتشاد جمهورٍ كبيرٍ في الساحة العامة لمدينةٍ ما (قد تكون أثينا أو روما)، وعيونه على الأفق. هناك حالة استنفار شعبي ورسمي، بانتظار شيء سيحدث. الإمبراطور، نفسه، يجلس على كرسي في الساحة، ينتظر هذا الحدث الذي تتطلّع إليه المدينة بفارغ الصبر: وصول البرابرة!

كل شيء في هذه المدينة، غير المسمَّاة، يتأهب لوصول البرابرة الذين سيجتاحونها بين لحظة وأخرى. الإمبراطور، القناصل، الحكومة التي توقفت عن العمل، مجلس الشيوخ الذي لم يعد يسنُّ القوانين والتشريعات، الجميع في حالة قصوى من الترقّب. الهواء معبأ بالتوتر. الأعين تحاول أن تستطلع ما وراء الأسوار، لرؤية الطلائع الأولى للبرابرة. الوقت يمرُّ. الأعصاب ترتخي. التوتر يتبدد. وما إن يحلّ الليل حتى تفرغ الساحة من المحتشدين الذين عادوا إلى بيوتهم، فقد جاء من يقول إن البرابرة لن يأتوا!

***

الجمهور الذي كان ينتظر البرابرة، على رؤوس أصابعه، يصاب بإحباط وخيبة أمل، لأنهم لن يأتوا. فقد كان مجيء هؤلاء، أعداء الحضارة والتمدين، الفرصة الأخيرة للتخلص من التحلل والفساد والانحدار الذي تعيشه المدينة على يد نخبتها. ففي ختام قصيدته، يقول كافافي بعدما تأكد الجميع أن البرابرة لن يأتوا:

والآن، ماذا سنفعل من دون برابرة

فقد كان هؤلاء يمثلون حلاً من الحلول!

البرابرة الذين يأتون، كالجراد، عل الأخضر واليابس كانوا “نوعاً من حل”؟ فأيّ حلٍّ يمكن أن يمثله البرابرة؟ بل قل أيّ حضيض وصلت إليه المدينة/ المدنية، حتى يشكل غزو البرابرة حلاً لها؟ ربما يكون الأمر كذلك. فوصول البرابرة أهون، كثيراً، من ادعاء “الاستعداد” لمجيئهم الذي يرهق خزانة المدينة، ويستنزف ميزانيتها، ويؤجل المشروعات اللازمة لتطوير بناها وحياة سكانها. ألا يذكرنا هذا بتحميل النظام العربي “البرابرة” السابقين (إسرائيل) مسؤولية حالة الطوارئ، وانعدام التنمية وبؤس حياة المواطنين وتكميم أفواههم، لأن “لا صوت يعلو على صوت المعركة”؟

***

حضارات كثيرة سابقة واجهت نوعاً من “البرابرة”. وبعضها تقوّض على أيديهم. فعندما تدخل الحضارة في حال من الفساد والانحلال والاتكاء على الماضي، وإهدار الطاقات والثروات على النزوات، يكون لها “البرابرة” بالمرصاد. ولكن، هل نحن، كعرب، اليوم، في “وضع حضاري” لكي يترصدنا البرابرة؟ طبعاً لا. نحن، اليوم، مجرد متطفلين على الحضارات التي تحيط بنا. أفواه ومعدات تطحن، ألسن ببغائية تردد، ذاكرات خرفة، وأدمغة بالكاد تستطيع أن تعدَّ إلى العشرة. فماذا لدينا كي يجتاحنا البرابرة؟ وهل يجتاح البرابرة برابرة مثلهم؟

نعم، يحصل.

ها هم برابرتنا يولدون من بين أضلاعنا، وما إن تشتد سواعدهم حتى يفتكون بنا. هل رأيتم برابرة يبقرون البطن التي حملتهم، ويقطعون الثدي الذي أرضعهم، ويحزّون الرقبة التي تعلقوا بها؟

نعم، ها نحن نراهم يفعلون ذلك، كل يوم، من دون أن نحرك ساكناً. ها هم يجتاحون مدناً، يستولون على حقول نفطٍ وسدود مائية، ويطردون أناساً من أوطانهم التاريخية إلى أرصفة التشرد في العالم. يقتلون ويمثّلون بكل من يخالف “شرعتهم” الهمجية، أمام الكاميرات. إنهم هؤلاء الذين يرفعون كتابنا على أسنَّة الحراب، ويدفعون بالتاريخ، أو ما يظنون أنه التاريخ، إلى أزمنةٍ، لم توجد إلا في السجلّات المزورة، أو، إن وجدت، فهي غير قابلة للاستئناف.

لكن، ربما يكون البرابرة ضروريين. فهم يحدثون صدمة للوعي. يحرّكون المياه الراكدة. يجدّدون، من حيث لم يحتسبوا، حيوية الكيانات التي يجتاحونها.. وهم بهذا المعنى، على حد تعبير كفافي، نوع من حلّ.

إشارة: ندين بمعرفتنا بكفافي إلى الشاعر سعدي يوسف الذي كان، حسب علمي، أول من ترجمه إلى اللغة العربية.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى