صفحات الرأيموريس عايق

لا عقلانية الإيديولوجيا العربية هي استحالة البرهنة على فشلها/ موريس عايق

 

 

لا يزال نقد ياسين الحافظ للإيديولوجيا العربية المعاصرة شديد الراهنية على رغم العقود التي مضت عليه. يركز الحافظ على نقد لاعقلانية الأيديولوجيا العربية بشتى نسخها، لا تختلف التقدمية عن المحافظة في هذا الشأن. حتى وإن تخلينا عن تصور الحافظ التاريخاني للعقلانية الذي يربطها بالنموذج المتحقق في مجتمعات العالم الأول، فإن حداً أدنى من العقلانية يبقى مطلوباً ويتمثل بالاتساق المنطقي ووجود معايير دنيا تسمح بالتحقق من صلاحية إدعاءاتنا ومخططاتنا.

فلا إمكانية للحديث عن العقلانية بغياب اتساق الأفكار في ما بينها وبغياب طريقة ما للتحقق من كون الأفكار صحيحة وقادرة على تحقيق أهدافها أم لا. فعندما يتقدم سياسي بمشروع، فإن هذين الشرطين هما أول ما يجب عليه تحقيقهما. أن يكون الشروع متسقاً في مقدماته واستنتاجاته، وأن يضع أهدافاً محددة، تمكننا لاحقاً من تقييم المشروع، إن أصاب أو أخطاً.

تبقى الأيديولوجيات العربية المعاصرة مفتقرة إلى هذا الحد الأدنى من العقلانية، فهي لا تحقق أياً من هذين الشرطين: الاتساق وإمكانية التحقق. على العكس تبدي الأيديولوجيات العربية المعاصرة مهارة كبيرة في التحايل على هذه الشروط المفترضة في أي نقاش عقلاني.

يمكن هنا العودة إلى كارل بوبر ومبدأ التكذيب الذي قدمه بهدف التفريق بين العلم وما ليس علماً. الفكرة الأساسية هي أن ما يميز العلم هو إمكانية تكذيبه، أي إظهار إمكانية خطئه، أما ما لا يمكن تخطئته فليس علماً. لا يمكن للاهوت، مثلاً، أن يخطئ، حتى لو خالف ما نراه، فهناك شيء خفي أو معنى خفي لا ندركه. على العكس، جميع النظريات العلمية يمكن أن تكون خاطئة، وهذا ما يسمح بإمكانية اختبارها تجريبياً. النظريات العلمية تحتمل إمكانية الخطأ، بينما العلوم المزيفة لا يمكن تخطئتها أساساً. ليس الهدف أو الغاية مناقشة الأيديولوجيا بمعايير العلم، لكن معيار المحاسبة وإمكانية الخطاً شرط للعقلانية. أيضاً، ما لا يحتمل الخطأ ليس عقلاً. وعليه يمكن استخدام فكرة بوبر للإمساك بلاعقلانية الأيديولوجيا العربية، باعتبارها أيديولوجيا لا يمكن تخطئتها، لعدم القدرة على التحقق من مقولاتها وفرضياتها واختبارها.

تستند الحيلة الأيديولوجية على قدمين، الأولى هي أن المشروع الأمبراطوري مستحيل التحقق انطلاقاً من مواردنا المتاحة وشروطنا، وقد يكون هذا المشروع الأمبراطوري الوحدة العربية أو تحرير فلسطين أو سحق الأمبريالية أو الخلافة الإسلامية وهلم جرا. مشاريع تخاطب المخيال الأمبراطوري للعرب بصيغ شتى وتتفادى في المقابل طرح مشاريع محددة وعيانية ومقيدة بإمكانياتنا. حتى في حالات أبسط، مثل تلك التي تتناول البحث العلمي وإصلاح اللغة العربية والنظام التعليمي، تظهر أهداف تتجاوز ما يمكن القيام به، وتتجاوز قدرة العديد من الدول التي تكون أوضاعها أفضل من أوضاعنا بكثير.

خلال الربيع العربي تجاوز الشباب مثل هذه المشاريع والرهانات الخيالية، من خلال التركيز على قضايا محددة ومرتبطة بتحقيق الديموقراطية في بلدانهم وتحقيق المزيد من الحرية وتوسيع الفضاء العام ومحاربة الفساد والبطالة، على رغم ظهور أصوات تتساءل عن الموقف من فلسطين والأمبريالية والاستعمار وهلم جرا. لا يعني هذا أن قضايا مثل فلسطين والوحدة العربية وغيرها ليست مهمة بذاتها، ولكنها قضايا بعيدة المدى ولا يمكن طرحها كبرنامج أو محك اختبار، طالما أن لا أحد قادراً على تحقيق شيء ملموس في هذا الشأن.

النتيجة المؤكدة أن هذه المشاريع محكومة بالفشل، بحكم عدم تناسبها مع الموارد المتاحة والقدرة على تعبئتها وحتى إدامتها – وهنا تأتي الخطوة الثانية في الأيديولوجيا العربية. فعوضاً عن أن يكون الفشل مدخلاً للمحاسبة والمراجعة، فإنه يُرد إلى عدو قوي قاهر يظهر من خلال مؤامرة ما. ويمكن هذا العدو، أيضاً، أن يأخذ العديد من الأسماء، من الاستعمار إلى الرجعية إلى الهجمة الصليبية ووفق ما يحب المرء.

الفشل هنا لا يعود إلى عطب خاص بالبرنامج أو الأفكار التي نحملها، بل يُرد إلى عامل خارجي يملك قوة هائلة لدرجة أنه قادر على تفسير كل مشاكلنا، من الهزيمة إلى الاحتراب الأهلي إلى فشل الوحدة والتنمية.

ففشل الوحدة العربية بين الأنظمة، التي طالما نادت بالقومية العربية، يُفسر ببساطة بالتدخل الاستعماري والأمبريالي، مع التغافل عن مراجعة الإستراتيجيات الاقتصادية، مثلاً، التي اعتمدتها هذه الأنظمة والتي قامت على تحقيق التصنيع وإحلال المحلي. وبما أنها جميعها تتمتع ببنى اقتصادية متشابهة، كانت نتيجة إستراتيجية التنمية هذه أن خلقت بنى اقتصادية متنافرة عوضاً عن اقتصادات متكاملة.

إذا أخدنا هاتين الخطوتين معاً، المشروع مستحيل التحقيق والمشجب الخارجي الذي يفسر كل فشل، يظهر مباشرة أنه من المستحيل القيام بمحاسبة ومراجعة نقدية لأي من مقولات وفرضيات الأيديولوجيا العربية، فلا يمكن لها أن تخطئ أو تفشل، لوجود عامل خارجي غير متعلق بها يمكن تحميله مسؤولية هذا الخطأ أو الفشل. هكذا يمكن لصدام حسين أن يبقى بطلاً، على رغم كل ما جره من كوارث على العراق.

إن من لا يرضى بأقل من الوحدة العربية أو تحرير فلسطين أو سحق الأمبريالي، لن يحقق ما يصبو له. لكن لديه أيضاً إجابة قاطعة وواضحة عن السؤال حول سبب عدم نجاحه: الاستعمار والصليبيون والخونة وغيرهم. برنامج محكوم سلفاً بالهزيمة وجواب جاهز لتبرير هذه الهزيمة، هذا هو جوهر لاعقلانية الأيديولوجيا العربية التي تتكشف في انعدام إمكانية تخطئتها ومحاسبتها من حيث المبدأ.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى