صفحات الثقافة

لا كافور في حروبنا/ رشا الأطرش

 

رغم تفاهة “العرض الخاص” الذي أعلنته في صفحتها في “فايسبوك”، فإن مليكة مزان أسبغت ضوءاً إضافياً على ركن ما انفك يُثبت كم أنه بنيوي في “النص” العربي المكبوت واللامكتوم، منذ اندلاع الانتفاضات وتحول بعضها إلى حروب… إنه الجنس.

“الشاعرة والروائية الأمازيغية الناطقة بالعربية.. رائدة الأدب الأمازيغي.. والأمازيغية العلمانية”، كما تعرّف مليكة بنفسها، أكدت أن خدماتها الجنسية “رهن إشارة كل من يرغب فيها من أفراد الجيش الكردي في حربهم ضد همجية الإرهاب”. أما شروط الاستفادة من هذه الخدمات، فتقتصر على “الإدلاء ببطاقة التعريف الوطنية (الهوية الشخصية) وبطاقة الانتماء إلى هذا الجيش”. وأوضحت مليكة أن الهدف من تصريحها، الذي أثار ضجة في فايسبوك هو “نوع من السخرية من فكر ومنطق أولئك الجهاديين والإسلاميين الذين يدافعون عن جهاد النكاح لنصرة قضاياهم ومواقفهم، بالتالي فإن للجيش الكردي قضايا أعدل من قضاياهم، وهكذا سنتضامن مع قضايا الشعب الكردي، المحتاج لتقديم خدمات جنسية لأفراد الجيش الكردي العظيم، باعتباره ضد داعش”.

المسألة لا تنحصر في سوقية المُقترح (بصرف النظر عن أي مكانة أو لا مكانة أدبية وثقافية لهذه “الشاعرة”). كما أنها لا تنتهي عند مساهمة سطحية – يُراد بها تحرراً مصطنعاً – في تسليع جسد المرأة وتحميل جنسانيته عبئاً نضالياً مقززاً، وبغباء مُبين. ولا يقتصر عُقم “العَرض” هذا على معانيه الجندرية أو حتى السياسية/التعبوية في مواجهة تغوّل “داعش”. والمؤكد إن سفاهة إضافية، ذكورية محافظة، تمددت بدورها إلى الكثير من متلقّي “مبادرة” مليكة، الذين نافسوها في ما عرضت حين تناقلوه باعتباره ترويجاً “مثيراً”.. للدعارة الصرف.

ثمة ما هو أعمق. الجنس. خيال الجنس – ولو مخردقاً بأمراض النفس والعقل – إذ يحوم في فضاءات الأزمات والحروب. يقيم في الحدّ الأخير الفاصل بين الحياة والموت، بين البقاء والاندثار، الانتصار الميداني اللحظوي… والفناء الرمزي بخوفه الأزلي الباقي، بين الاستسلام لقدر سياسي يحفر في الأجساد ندوباً.. وهبّة الأجساد للقول: أحفظ نوعي في داخلي، وسأتكاثر عنوة، ولو برعشة ملعونة بالسلاح، وسأتكاثر بعد اضمحلالي لأني كنت أنوي المقاومة وهي تاريخي.

قد لا تكون تلك خاصية اجتماعية ولا حتى ثقافية لمجتمعات عربية مشتعلة الآن بثورات أضحت، في معظمها، صراعات أهلية، ملتهبة كانت أو كامنة تحت الرماد. لكن الأكيد أن الشكل الذي يتمظهر فيه هذا الخيال، رهن لمستنا، ننحت بها سرديته الأخيرة، لرفضها واحتوائها في آن، وحتى في ردّها مُضادةً على نحرها كما عمّمت “الشاعرة”.

“جهاد النكاح” تلاشى معظمه في بخار ما تبيّن لاحقاً إنه دعاية سيئة، لكن أطيافه تحوم. الاغتصاب، كمكوّن رئيسي في دفاع معمّر القذافي عن عرشه الزائل. الاغتصاب على أنواعه في الأداء الأمني والعسكري للنظام السوري، من الاعتداء الجنسي المباشر على فتيات أمام أهلهن، إلى تعرية معتقلات وإجبارهن، في عريهن المذلّ، على تقديم القهوة والشاي لسجّانيهن. التحرش في مصر، وبعضه الكثير ممنهجٌ ومنظّم، لا سيما في اللحظات الأخيرة من “حياة” ميدان التحرير. تفشّي ظاهرة قتل الآباء لبناتهن، في تونس، لمجرد “الاشتباه” في أنهن على “علاقة”، والاشتباه قد يُفرزه سيرُ شابٍ وفتاة معاً في الشارع، السيرُ هذا ولاّد خيال عنفي ملؤه الحرام. وها هي “الأمازيغية العلمانية” تمنح متعتها لمقاتلي خصومها في السياسة والدين والاجتماع.

ويُروى عن مفتونةٍ بسحر بدايات “25 يناير”، بكل ألقها المدني وروحها الساخرة ونشوة أحلامها البِكر، إنها تساءلت، بولَه ثوري، وفي إحدى ذروات احتشاد “الميدان” بالقاهرة وترنّح رئاسة مبارك: هل من سبيل للواحدة منّا أن تتزوج شعباً بأكمله؟

الجنس، الجنس، الجنس. عبوة نفجّرها لنعبّر، حين يخوننا الكلام والفعل… فنتشظى أو نَهيم. الجنس المنطلق تلقائياً من منصة الطبيعة البشرية، في مخيمات اللجوء والنزوح، فيرفع مؤشر الولادات. في حرب تموز 2006 تصاعد، من دون أن يتسامى به النازحون من جنوب لبنان وضواحي العاصمة، على الخوف والفقد والخسائر. وفي مخيمات اللاجئين السوريين والفلسطينيين، أيضاً، لم يخبُ، الآن، ومنذ عقود. وإن كان هذا جنس البقاء، غريزة القتال من أجل الإحساس بالحياة وإنتاجها، رغماً عنا وعنها، جنس العناد و”فش الخلق” وتصريف القلق والآلام.. إن كان هذا الجنس مختلفاً عن جنس نضال بلا أفق وعسكر واستبداد.. فالمخيلة منبع واحد لا شريك له. الدفين يطفو من تلقائه، وكأن لا شيء سواه. الكافور يمضغه العسكر مع طعامهم القليل، في أيام السلم فقط.

جسد يَنتهك جسداً، ليكسر قضية. جسد يدافع عن كينونته، ليقول أنا فرد، أنا حيّ. جسد يرتعش نافضاً سموماً متسربة من شقوق خيمة. جسد يستسلم لجلاده، حينما تنسدّ آفاق ثورة، فيذعن، ولا تنطفئ جذوته، فهو دوماً شهيد رغبة مريضة، بالطائفة، بالجماعة، بالإيديولوجيا، بالقمع. جسد يبيع لحمه، المغروسة في ثناياه أنياب العلمانية. جسد يُمتع عين الدِّين، ليزيد مناماته رطوبة، وفوقه ينتصب لواء الجهاد.

يبقى الجسد حين تضيق السبل. حين تنضب الخيالات المكمّلة المشذِبة للرعونة الأوّلية. وحين تفرغ السياسة، وأساليب الأنظمة والتنظيمات والثوار عليها.

يبقى خيال الجسد، في أرضنا المحروقة، جِنساً سقيماً… ولا كافور يطفئ الحرب.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى