صفحات الرأيعلي جازو

لا يسار ولا يمين/ علي جازو *

انقسمت الثقافة السياسية الشرق أوسطية خلال عقود طويلة بين نمطين رئيسين سائدين، عبّرا عن أحلامهما الاجتماعية والحداثية بلغة كادت تحول التراب ذهباً. على مدى سنوات طويلة، تم تفضيل الخطابة المجنحة على التخطيط والعمل الحقيقيين، وتغلبت التوافقات اللئيمة على المصارحات الشريفة، ولم يترافق الحلم الخيالي مع تطور معرفي يسنده ويحميه، وبقيت فئات اجتماعية كثيرة، عانت البؤس والإفقار، داخل وهم تغيير مؤجل، ما طبع الحلم بالزيف والأمل بالبؤس، فيما كانت الوقائع على الأرض تحمل إشارات سيئة، جيلاً بعد جيل.

كانت المنطقة دائمة التوتر محلاً لصراع دولي، برز منه الطبقي والعقائدي على أساس يمين ويسار هشين ومنغلقين في وقت واحد، مع تراجع ديني بسبب القمع، تخللته مظاهر اجتماعية شبه مستقرة في العموم، ولم تظهر حينها لامبالاة «الدول» بحجم الزيادة السكانية غير المراقبة ولا بمآلاتها وما يمكن أن تفرزه من أزمات خطيرة بانت آثارها لاحقاً. هكذا، بقيت مناطق شاسعة خارج خطط تنمية معقولة تردم الفرق بين سكان المدن وقاطني الأرياف، وتخلق فرص عمل جديدة متزنة ومتوازنة، الأمر الذي سبب تراجعاً فوق تراجع قائم، وساء حال الأرياف أواخر التسعينات مع تراجع عائدات الزراعة وموجات الجفاف المتلاحقة التي أضافت إلى الخنق السياسي اختناقاً معاشياً وسكنياً ثقيلين.

لكن سلوك العسكر في دول، كمصر والعراق وسورية بخاصة، منحى قومياً شمولياً، ومجابهة يساريين معارضين، كانوا قلة إزاء أكثرية بلا انتماء فاعل، لذاك الميل الاستبدادي بتنظيمات سرية سرعان ما لاقت رداً عنيفاً سجناً أو تصفية جسدية أو نفياً، أضاف إلى بؤس السلطة بؤس الفكر المراوح مكانه. وأضيف إليهم الأخوان الذين حملوا عنف الرفض القطعي إلى عنف السلطة الحاكمة ما رفع الاثنين إلى قمة تنفي السياسة إلى سفوح القتل والإقصاء المترامية، ولا يعود من مكان وسط لفئتين تتغذيان من تطرف أحدهما يتخذ الدولة ستراً، وآخر يجعل من فساد الدولة حجة ضدها، فيما يشترك الاثنان معاً في آليات السيطرة والحشد الجماهيري.

ساهمت تفجيرات أيلول (سبتمبر) 2001 بعودة الديني سيداً على السياسي واختلط الفكر الطبقي مع العنف المذهبي عائدين إلى ماض حسب الكثيرون إنهم صاروا في منأى عنه. طفا على السطح الصراع السني الشيعي، ووصم جورج بوش الابن بـ «الصليبي» واستعاد العالم العربي والإسلامي نوعاً جديداً من الفرز وترافق الفرز مع مقولة نهاية التاريخ وصراع الحضارات، وبروز الإسلام مشكلة عالمية وعثرة محلية تتواتر وتتفاقم، وترافق ذلك كله مع زيادة سكانية ملحوظة، غالبيتها فئات شبابية تحررت عبر أفكار إنسانوية تجاوزت البيئة الدينية الفكرية، ووجدت الحل المرجو في دولة مدنية، بلا عسكر ولا دين، إلى أن حلت موجات 2011 التي كسحت المنطقة ولما تزل تودي بها إلى أفق مجهول أسود.

يعود العنف السيد الحاكم سياسات المنطقة من جديد، وتتحول الأحزاب إلى عمل يشبه عمل العصابات. ليس الفكر ولا المبدأ السياسي هما ما يفرقان وما يجمعان، ولم يعد التمايز الفكري سبباً لمناوئات هنا وهناك، ومعظم الأهداف تبدو متشابهة لأنها ضبابية، غير أن حاملي الأهداف أنفسهم ينحطّون إلى مقايضات شخصية ونزاعات تحولت إلى فضائح مكشوفة.

انتهى زمن القادة الملهمين، ولم تنته نماذجهم في التعاطي الوظيفي مع مشكلات غير مسبوقة، ومعهم انتهت حقبة أقل ما يقال عنها إنها كانت سبب الأسباب في ما وصلنا إليه من ضمور أخلاقي، وتسيب وفوضى. آن الأوان لكي يعود العقل إلى حس إنساني مشترك وفطري، وهو الحس الذي يفضّل التعاون على منافسات جبانة، والنفع العام على وباء التطلع الشخصي الشرس. لا يمكن لمجتمع جديد أن يشفى من لعنات قديمة، ما لم يكن هناك رصيد أخلاقي يرشده وينبهه، وإذا ما فقد ذوو الشأن هذه القيمة الكبرى والأساسية في تقرير مصائر مجتمعات عانت كثيراً ساسة مخبولين، بتنا في وضع أكثر سوءاً يتجاوز الإحباط إلى النسيان الذي هو شكل آخر لموت عام. لم تعد الأقنعة صالحة لما كانت تصلح له سابقاً، على أن وجوهاً أخرى تولد الآن، وهي لا تبحث عن قناع قدر ما يعنيها بحثها عن ضوء بلا قناع، وربما بلا شعاع إلهام من أحد.

* كاتب وشاعر سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى