صفحات الرأي

لا يوجـد أملـس بيـن القنافـذ


صفر ابو فخر

يقول دزرائيلي: «إن ما نتوقعه نادراً ما يحدث، وما نستبعده غالباً ما يحدث». ومع أن الثورات العربية المشتعلة الآن في مغرب العالم العربي ومشرقه لم تكن بعيدة عن توقعات المفكرين العرب منذ هزيمة حزيران 1967 على الأقل، إلا أنها أخفقت في التطابق مع المثال التاريخي للثورات الديموقراطية في العالم، وها هو «ربيع العرب» يتحوّل إلى أنهار من الدم في ليبيا واليمن وسوريا. ولأعترف، منذ البداية، أن هذه الثورات التي اندلعت ضد الاستبداد، وضد القهر الاجتماعي، وضد الفساد، وضد الفقر والتهميش لا يمكنها، بالضرورة، أن تؤدي إلى الديموقراطية والحرية كما يتوهم كثيرون. فالثورة الشعبية ضد شاه إيران المستبد أتت بالاستبداد الديني. والثورة ضد الملك فاروق الفاسد في مصر، والذي لم يكن نظامه السياسي ديموقراطياً في أي حال، لم تجلب الديموقراطية. والثورة الشعبية ضد فوضى المجاهدين الأفغان واقتتالهم الدموي بعد الانسحاب السوفياتي، حملت طالبان إلى الحكم، ففرضت استبداداً من طراز القرون الوسطى. وقبل ذلك اندلعت الثورة الروسية في سنة 1917 ضد الاستبداد القيصري، لكن النتيجة كانت الاستبداد الستاليني. وجميع ثورات التحرر الوطني من الجزائر إلى كوبا غرباً، وإلى فيتنام شرقاً، لم تكن الديموقراطية على جدول أعمالها البتة.

لا بد من الاعتراف، منذ البداية، أن توقعات بعض المفكرين العرب في شأن حتمية الثورات العربية كانت تُقتصر على مستوى التحليل الاقتصادي والاجتماعي، وفي عالم الأكاديميا بالدرجة الأولى. والعبرة أن المفكر (والمثقف أيضاً يسبق الثورة في العادة، ولكن، ما إن تندلع الثورة حتى يجد نفسه خارجها، وغير قادر على التفكير أحياناً، لأن ميدانه الأساس هو التفكير، بينما ميدان الثورة هو الحركة والتجريب. وفي هذا الميدان المحتدم اليوم بالأفكار العملية والتأملية ثمة كثير من الأسئلة المشروعة، والمشرعة على شتى الاحتمالات. وعلى سبيل المثال: هل دخلت المنطقة العربية في عصر التدخلات الخارجية المباشرة؟ هل يتحول بعض الانتفاضات العربية إلى أداة للدول الكبرى كي تتحكم مجدداً بالإرادة السياسية للدول العربية؟ ما جدوى هذه الانتفاضات، مع مشروعيتها وشرعيتها وضرورتها، إذا كانت ستعيدنا إلى عصر الانتداب الغربي؟ إنها أسئلة حيرى، ومنشأ هذه الحيرة هو الاضطراب الكبير الذي يلف العالم العربي بأسره، ويسربل أي أجوبة بالبلبلة وعدم اليقين.

[ [ [

ربما يجادل كثيرون في أن التخوف من وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر مبالغ فيه إلى حد كبير، ويعتقدون أن الضمانة الكبرى في عدم التحول إلى نظم سياسية استبدادية جديدة هي أن الناس كسروا عقدة الخوف، وها هم يعبرون عن إرادتهم السياسية في الساحات العامة والشوارع ووسائل الإعلام. وهؤلاء لن يتيحوا للأحزاب الإسلامية إمكان الاستبداد بالدولة وبالحياة اليومية معاً. غير أن هذه النظرة ليست نظرة تحليلية، أو علمية، بل إنها مجرد نظرة رغبوية متفائلة. فالثورة الإيرانية التي اندلعت في سنة 1978، وانتصرت في شباط 1979، كانت ثورة ديموقراطية من الباب إلى المحراب. بمعنى أن معظم فئات الشعب شاركت فيها من الليبراليين الديموقراطيين (تيار محمد مصدق ـ مهدي بازركان) إلى الحزب الشيوعي الإيراني (تودة)، مروراً بفدائيي الشعب (فدائيي خلق) والفلاحين ورجال الدين وبعض المرجعيات الكبرى، علاوة على المجموعات المقاتلة التي وجدت ضالتها الفكرية والعملية إما لدى نواب صفوي وتاريخه، أو لدى علي شريعتي وأفكاره، فضلاً عن الذاكرة الطرية لثورة «المشروطة» وأفكار حسين النائيني وغيره. ومع ذلك تمكن «خط الإمام» وعقيدة ولاية الفقيه من سحق الجميع بالتدريج: تيار الجبهة الوطنية (بازركان ـ يزدي) أولاً، ثم الحزب الشيوعي، ثم بقية المجموعات السياسية، حتى استوى الأمر على خط واحد ووحيد.

قصارى القوى في هذا الميدان إن قدرة الناس على التعبير عن إرادتها في الشوارع ليست ضمانة كافية للمستقبل الديموقراطي، ولا سيما أن الجماعات الإسلامية المختلفة قادرة، أكثر من غيرها، على الاستيلاء على الساحات والشوارع، وقادرة في الوقت نفسه على إجهاض أي تحرك شعبي بما باتت تملكه من أدوات السلطة وأدوات الحشد البشري معاً.

[ [ [

من مفارقات هذه الأيام أن الثورات العربية الحالية أعادت الاعتبار، بقوة الوقائع، إلى الجماعات الدينية كالإخوان المسلمين والتيارات السلفية وغيرها. وكان من البدهي القول إن الثورات تستمد شِعرها ورؤاها من المستقبل، لا من الماضي. ومن المفارقات الغريبة أيضاً أن هناك دولاً ملكية ومشيخية ذات طابع ريعي شرقي، أي أن للفساد والرشوة والسرقة مرتعاً خصباً فيها، تندفع اليوم، بقوة، إلى تغيير بعض النظم العربية الأخرى، المستبدة والفاسدة، حتى بات التفريق بين غيفارا وهذا الشيخ من هنا، أو ذاك الأمير من هناك، مسألة عسيرة تختلط فيها الأمور أيما اختلاط. وفي معمعان ما يجري الآن، هناك صخب هذياني أحياناً في شأن المستقبل الديموقراطي للشعوب العربية؛ هذا المستقبل الذي طالما تطلع إليه، بشغف، مفكرو العالم العربي ومثقفوه وطلائعه السياسية طوال نحو خمسين سنة على الأقل. لكن، هل ستحمل الجماعات الإسلامية التي تمكنت أخيراً من وضع اليد على السلطة في بعض الدول العربية، الحبَّ إلى طاحونة الشعب المطحون؟

في لجاجة البحث عن جواب وقعتُ على عشرات الكتب، ومئات المواقف التي ترفض الديموقراطية كمبدأ. فالإخوان المسلمون، على سبيل المثال، يرفضون الديموقراطية (أو لأقل، موقتاً، إنهم كانوا يرفضون الديموقراطية) لأنها ببساطة تعني «حكم الشعب للشعب» أو «حكم الشعب لنفسه بواسطة الشعب»، وهم يؤمنون بفكرة «الحكم لله وليس للشعب». فالمرشد العام للإخوان المسلمين مصطفى مشهور يقول: «دعوة الناس للديموقراطية دعوة تناهض وتحارب الإسلام، لأن الإسلام لا يعرف مثل هذه المسلمات، وإن من ينادي بالديموقراطية أو العلمانية أو الشيوعية إنما يرفعون رايات تخالف منهج الله وتحارب الإسلام» (مجلة «الدعوة» ـ القاهرة، العدد 57، يناير 1981). وذكر عبد الحليم عويس أن «الديموقراطية هي أصل كل شر» (جريدة «الجريدة» ـ الكويت، 24/8/2009). وقال عبد المنعم الشحات، وهو المتحدث باسم الدعوة السلفية في مصر «إن الديموقراطية خطر لأنها تجعل مرجعية التشريع للشعب (جريدة «الشرق الأوسط»، 18/4/2011). وعلى هذا الغرار كان أسامة بن لادن يردد أن «الديموقراطية ردة وقحة»، وعلى هذا المنوال تبعه أبو مصعب الزرقاوي بالقول إن «الديموقراطية مبدأ شيطاني، وهي مجرد هرطقة… وهي تستبدل حكم الله بحكم الشعب»… وهكذا.

[ [ [

في مواجهة هذه الأفكار التي من شأنها وأد الربيع العربي وقتل بشائره المفعمة بالأمل، وكي لا تصبح الديموقراطية مجرد صندوق اقتراع (لنتذكر أن صندوق الاقتراع حمل هتلر وفرانكو وموسوليني إلى السلطة)، لا بد من التصدي، بالفكر أولاً، لعملية تشويه الديموقراطية الجارية الآن. فالديموقراطية ليست مجرد نظام سياسي قائم على فصل السلطات فحسب، بل هي نظام للمجتمع بالدرجة الأولى، أي أنها عقد اجتماعي لا يجيز، على الإطلاق، لمن وصل إلى الحكم أن ينقلب عليها بذريعة الخيار الحر للأغلبية، لأن من شروط سريان أي عقد التزام جميع الأطراف بنوده. والديموقراطية لا تعني حكم الأغلبية ونقطة على السطر. إذاً، كيف نضمن عدم انقلاب المجموعات الإسلامية على وعود الديموقراطية؟

إن الدولة العلمانية الديموقراطية هي الضمانة التي تفتت السلطات الدستورية إلى ثلاث، فلا تجتمع في يد رجل واحد فيصبح مستبداً بالضرورة، وهي التي لا ينص دستورها على دين الدولة لأن الدولة لا دين لها؛ فالأفراد لهم دياناتهم، بينما الدولة محايدة في هذا الحقل. وأي نص دستوري يحدد دين الدولة سيلغي فوراً المساواة بين المواطنين التي هي جوهر الديموقراطية والحرية والمواطنة.

[ [ [

ظل الصراع في المجتمعات العربية منذ تشكيل الدولة الوطنية الجديدة قبل نحو مئة سنة، يدور، على المستوى السياسي، بين المعارضة والسلطة. ويدور، على المستوى الفكري، بين التيارات العلمانية (القومية واليسارية) والإسلاميين. واليوم، بحسب ما تشير إليه الوقائع، فإن الصراع السياسي في المرحلة المقبلة ربما يتخذ طابعاً مزدوجاً: صراع الإسلاميين ضد الإسلاميين كالصراع بين الإخوان المسلمين والسلفيين بوجهيهم الجهادي والدعوي، وصراع العلمانيين ضد الإسلاميين بعدما صاروا سلطة. وفي خضم هذه الصراعات فإن أفكار التقدم والنهضة والحرية والمساواة والعدالة والدستور تختفي رويداً رويداً، وتحلّ محلها مفردات من عيار الحاكمية والشريعة والحدود وأسلمة المعرفة مثل الكلام على الاقتصاد الإسلامي والطب الإسلامي، كأن هناك طباً يهودياً واقتصاداً مسيحياً أو بوذياً أو هندوسياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى