صفحات العالم

لبنان وسورية: لا هزائم ولا انتصارات/ حسن الحاف

 

 

يغري شهر آذار (مارس) بإجراء مقارنات بين سياقات لبنانية وسورية متشابهة في جوانب، ومتفاوتة بنيوياً في جوانب أخرى. فقد شهد هذا الشهر قبل عشرة أعوام من اليوم نجاح السياسة الدولية بدعم غالبية طائفية لبنانية في إخراج الجيش السوري من لبنان. ما عُدّ آنذاك انجازاً استقلالياً كبيراً، يضاف إلى انجاز تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي في 2000. كما شهد الشهر عينه قبل أربعة أعوام انطلاق أكبر انتفاضة احتجاجية في سورية ضد النظام الحاكم فيها منذ 1963. ظُن وقتها أن النظام لن يصمد أكثر من بضعة أسابيع، وفي أسوأ الأحوال بضعة أشهر، وأن أفق سورية سينفتح مجدداً أمام تحقيق مكاسب ديموقراطية تدريجية، سترفعها، عاجلاً أم آجلاً، إلى مصاف الدول الحديثة. الحقّ أن الأحلام الوردية في الحالتين لم تصمد طويلاً، وسرعان ما بدأت مساحة الأوهام والاحباطات تتّسع جارفة المساحة التي بدأت الآمال الطموحة تكتسبها.

في لبنان، دفعت الاغتيالات التي مورست ضد «تيار المستقبل» وحلفائه هذا الفريق إلى موقع دفاعي، بعدما كان شنّ هجوماً سياسياً بروحية انتصارية على «حزب الله» وحلفائه إثر انتهاء الوصاية السورية المباشرة على السياسة اللبنانية. وبنظرة نقدية استرجاعية يمكن القول إن السنّية السياسية بالغت في تقدير أثر الخروج السوري من لبنان على البنية السياسية والمذهبية اللبنانية. وذهبت في خيالها بعيداً، متصوّرة أن تحقيق الغلبة على الشيعة وكسر الامتيازات الممنوحة لهم في البنية الداخلية بات بفعل الانسحاب مجرّد تحصيل حاصل. هنا، كان تقديرها لقوة «حزب الله» وامكاناته، ولوظيفته ضمن السياسة الإيرانية – السورية مخطئاً إلى أبعد الحدود. كذا الأمر بالنسبة إلى قراءتها السطحية للسياسة الدولية والخليجية الجديدة حيال النظام الأسدي، ومدى استعدادها للذهاب بعيداً في معاداته وفي حماية المكتسبات الاستقلالية المحقّقة للبنان. بدوره، نجح «حزب الله» ومنذ اللحظة الأولى في إظهار التحرك اللبناني المدعوم دولياً بمظهر المؤامرة ضد «قوى المقاومة والممانعة» في لبنان والمنطقة، مسجلاً أكبر حالة التفاف مذهبي حوله. كما ساهم فائض قوته المتراكم من أيام القتال ضد اسرائيل، في فرض توازن حذر بينه وبين المكونات اللبنانية الأخرى، وفي تكريس هامش واسع للدور السوري والايراني في السياسة اللبنانية، ولو أنه بدأ يزداد تباعاً لمصلحة الثانية على حساب الأولى. بقي الحال على ما هو عليه حتى 2008، عندما استدعت التطورات الداخلية اللبنانية، ومصالح رعاته الخارجيين، ان ينفذ الحزب انقلاباً داخلياً منح بموجبه حق التحكم بالسلطة التنفيذية. كما نجح، بقوة الأمر الواقع المفروض إذ ذاك، في سحب ورقة سلاحه من السجالات الداخلية. فائض قوة الحزب نجح في تنصيبه متحكماً بأمور البلاد، لكن تنصيبه حاكماً أوحد على غرار النموذج السوري – الإيراني ظلّ حلماً عزيز المنال. فالوقائع الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية اللبنانية وقفت سدّاً منيعاً أمام ذلك. لا هو انتصر، ولا «المستقبل» انهزم. وعندما شعر الحزب بأن التوازن المختل لمصلحته في الداخل غير قابل للكسر، وأن الحراك السوري ضد النظام أوسع نطاقاً وأكثر امتناعاً على الاحتواء، اتّخذ القرار الإيراني بإشراكه عسكرياً في قمع الانتفاضة السورية. بات تصريف فائض قوّته في الساحة السورية ضمانة نسبية لعدم تصريفها في الداخل اللبناني أو في مغامرة عسكرية جديدة على الحدود الجنوبية.

سورياً، لم تتخذ الانتفاضة وقتاً طويلاً لبلورة ملمحها السنّي الفاقع في مواجهة النظام العلوي. كان الاضطهاد الواقع على الأكثرية السنيّة الشعبية، التي شكّلت الفئة الأكبر ضمن مجتمع العمل السوري، المقدمة التاريخية الموضوعية للانتفاضة، والمقدّمة أيضاً لاتخاذها طابع الرفض لتحكّم الأقلية بشؤون الأكثرية. سهّل ذلك أيضاً، كما في حالة لبنان الآنفة، غياب قوى اجتماعية وطنية المنبت والوجهة، قادرة على دفع الصراع في اتجاه عام محصن ضد الانزلاق إلى حرب أهلية مفتوحة. بدت التربة الاجتماعية السورية خصبة للحرب، داحضة تصورات نخبوية سادت في بدء الانتفاضة، قوامها: أن السوريين ليسوا كاللبنانيين، وأن الانتماء الاسلامي في سورية شعبيّ وروحي، لا يشبه حال التمذهب اللبناني المسيّس. على أن التصورات هذه سرعان ما بدأت تتهاوى أمام وقائع تمادي النزاع المذهبي، واتخاذه أبعاداً عسكرية صريحة بين قوى تهيمن عليها الجماعة العلوية المستميتة في الدفاع عن مكاسبها النظامية وبين قوى ذات صبغة سنّية فاقعة همّها كسر الهيمنة، وإعادة الحكم إلى «أصحابه المستحقين». زاد التدخل الإيراني المباشر طبعاً، من وتيرة التمذهب، ورفعه إلى مصاف أعقد وأشد فتكاً، لكن لم يخلقه. كانت بذرته محفوظة في رحم المجتمع السوري منذ الاستقلال. وقد ساهم فشل مشاريع التحديث الانقلابية التي رفعت منذ الاستقلال، ومن ثم تحكّم الاستبداد المطلق بحيوات السوريين في إبقائها كامنة، جاهزة للانفجار متى ما توافرت لها الشروط. النظام رأى أن قيام انتفاضة ضده بهذا الحجم والقوة هو الوقت الأنسب لإخراج هذا المولود القاتل من العتمة إلى الضوء. كان رهانه منذ اللحظة الأولى أن قطاعات مجتمعه المحبطة والمدعوسة منذ عقود لن تتأخر في الاستجابة، وأن تحويل الصراع من انتفاضة أكثرية حاسمة ضد الاستبداد إلى حرب سنّية – شيعية سيطيل عمره، ويجعله طرفاً في أي تسوية مستقبلية بوصفه ضمانة للأقليات. وهو ما كان.

هكذا، إذاً، استحالت سورية ساحة مفتوحة لحرب أهلية – إقليمية لا خاسر فيها إلا التطلع إلى سورية متعددة وديموقراطية مفتوحة صراعاتها على مراكمة انجازات وطنية وعدالتية تدريجية. أمّا لبنان، فيقف عاجزاً بلا مؤسسات فاعلة، وبمجتمع ممزّق تحول الانشغالات الإقليمية لقواه الطائفية المحلية، فضلاً عن الانشغال الإقليمي والدولي بساحات أكثر أهمية منه بكثير من دون تفجيره. هدوؤه النسبي مقارنة بغيره مرآة عاكسة للتوازنات الإقليمية الدقيقة. تنتظر طوائفه بنفس طويل مآل التطورات الإقليمية، والخرائط الجديدة التي بدأت معالمها الأولية بالتبلور، محاولة استشراف موقعها فيها.

واقع الحال أن لبنان وسورية يعيشان معاً سباقاً ما بين بلوغهما حافة الانهيار التام، وما بين ولادة قوى ديموقراطية ذات مضمون اجتماعي تحرّري قادرة على إبطاء مسيرة اندفاع البلاد نحو الانتحار كأفق أوحد لها.

لأن البلاد تنهار، لا بدّ من موقف مسؤول. فهذا الأخير شرط كل فعل جديّ من أجل مستقبل أفضل. هذه هي الخلاصة الوطنية الممكنة للآذاريْن اللبناني والسوري.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى