صفحات مميزة

لحظات ربيعية في حياة مغترب


ريتا السلاق

– أستيقظ صباحاً، أشغّل الحاسوب الخاص بي و أفتح الـ Google Reader لألقي نظرة سريعة على الأخبار، أحتفظ ببعض الأخبار على جنب، سأعود اليها لاحقاً. أحمل كتبي وأمضي.. أسمع أصوات المتظاهرين: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر” .. أهتف معهم. أكاد أن أعطي جندياً تونسياً وردة  إلا أنني أنتبه إلى أن الشارع فارغ وهادئ .. و مملّ أيضاً. لا متظاهرين، لا هتاف، لا جندي تونسي، ولا حتى وردة. هكذا هي الحياة على الطرف الآخر من الكرة الارضية، أذكّر نفسي.

– أنا في المكتب الآن. خلف الحاسوب أبحث عن عروض سفر جديدة  أُلوّث بها صناديق بريد الزبائن وأحارب رغبة شديدة في سرقة بضع دقائق أُحدِّث بها معلوماتي. فبعد عقود من الصمت لم يصدّق الشعب أنه تحرك.. و كما لو أنه يؤكد لنفسه الفكرة، قرر ألا يهدأ ابداً. فكما قال فيكتور هوجو “لا شيء أروع من انتفاضة شعبية. فكل شيء يحدث في كل مكان في آن واحد”.. فكل ثانية تحتوي خبراً جديداً، و في كل دقيقة ثورة جديدة، و كل ساعة  هي احتمال سقوط طاغية آخر..

– كيف لي ان أساعدك؟

– هل لديكم عروض سفر إلى فيغاس؟

– نعم بالطبع .. هل لديك فكرة محددة  عمّا تودّين زيارته هناك؟

– لا أعتقد ذلك ..

– تفضلي.. هذا كتيّب فيه العروض الخاصة بفيغاس.. هل تودّين أن تلقي عليه نظرة بنفسك أولاً، أم تفضلين أن نناقش العروض كلاً على حدة الآن؟

– سألقي نظرة أولاً.

أبتسم للزبونة ابتسامة تشجيع.

تُقلّب الشابة العشرينية كتيّب العروض  مقابلي وأنتظرها.  فيغاس … مدينة ملاهي الراشدين العملاقة.. و الباهظة الثمن. أتذكر منظر الرجل الخمسيني المشرد الذي يقطن في شوارع حيّنا.. أفكر بفتاة عشرينية أخرى لا أعرفها ولا أعرف ملامح وجهها تحتل ميدان التحرير الآن مع رجل خمسيني مشرّد آخر لا أعرفه ولا أعرف ملامح وجهه.. وأنتظر.

– أعود الى المنزل مساءً. عليّ كتابة ثلاثة مقالات مختلفة، و قراءة كتاب، والتحضير لامتحان، و رسم بوستر للمكتب. أنثر أوراقي على الأرض، أغلق باب غرفتي وأجلس خلفه.. إنه المكان الأبعد عن الحاسوب وأنا أحاول التركيز على دراستي و عملي الآن، أقنع نفسي بأن الدنيا لن تُدمّر ولن تتوقف عجلة التغيير إن أنا لم ألقِ بنظرة على الأخبار؛ أنهمك في دراستي و أقرا:

“وينستون سميث”

اسم تقليدي و ممل جداً. أعرف أن جورج أورويل انتقى هذا الاسم عمداً.  فمن المؤكد أنه لم ينقصه الخيال ليأت باسم أكثر جاذبية… ولكن ما الحاجة إلى اسم أكثر جاذبية؟ فوينستون سميث نفسه كان رجلاً كسائر الناس. لا شيء يميزه عن غيره سوى ثورته. و يبدأ عقلي بالهروب شرقاً مجدداً..

فـ”وينستون سميث” خاصّتنا لا يُعدّون.. حمداً للربيع.

و فجأة أنتبه إلى مشكلة: أنا لا أعرف أسماء السواد الأعظم من “وينستون سميث” عندنا!! ولا أعرف حتى قصصهم، ولكلٍّ قصّته، أليس كذلك؟

ما الذي دفع بهم إلى الشوارع؟ هل هي قصة حب مجنونة تقع تحت رحمة سجن سياسي؟ أم مسؤول جشع لا يمكن ردع فاه،حتى بالاسمنت المصفح؟ أم انها بطالة أُحدثت لمصادفة وجود النقود في جيوب الآخرين؟ أم أنه جميع ما سبق؟ أم شيء آخر .. كالتعاطف الإنساني مع المظلوم والغضب من كل ما سبق مثلاً؟

ولكنني أنتبه فجأة إلى مشكلة أكثر إلحاحاً.. كيف سأحفظ أسمائهم وقصصهم في الوقت الذي أعاني فيه من الكمية الكبيرة من المعلومات المخزّنة في رأسي الآن؟

“لكني أستطيع التعايش مع هذه المشكلة، فليكن عدد الثوار أكبر ولن أدقق في وجوههم وأسمائهم وسِيَرِهِم كثيراً.. فكلّنا متشابهون” أقول لنفسي بصوت منخفض وأعود لعملي من جديد.

– أكتشف أنّي جائعة فجأة وأتذكر أنني لم آكل شيئاً منذ الصباح، أركض بسرعة إلى المطبخ وأبحث عن شيءٍ يؤكل، أجد خبزاً وجبناً،  أغلي الماء لصنع الشاي و أباشر في التهام الطعام بسرعة.. فما زال لدي مقالة قصيرة وبوستر للمكتب وأريد أن انهيهم بسرعة كي أتفرغ لشيء آخر.. كالنوم مثلاً.

رأسي بدأ يؤلمني وأخيراً، كنت قد استغربت أنه لم يصل إلى هذه المرحلة بعد، حيث أن حفلة الألم تبدأ أبكر من هذا الوقت عادة. أشكر الله سراً على خلوّ المنزل من الكائنات الحيّة الأخرى اليوم، نعم.. ربّما لهذا لم يؤلمني رأسي إلى الآن.

ليلة أمس مثلاً، كنت قد دخلت في الحالة باكراً، فملّحت الشاي بدلاً من تحليته، أهذه هي وصفة القذافي في كتابة الخطابات: “على قعدة وجع راس”؟

– أهمّ بالعودة إلى مقالتي الأخيرة.

المواطنة وأهميتها، نعم.

ألعن حظي سراً،  يجب على هذه المقالة أن تكون أقصر من سابقتيها، طبيعي (أُفكر).. حيث أنني أجيد التحدث عن موضوع المواطنة، أستطيع بسهولة، مثلاً، أن أقنعك بأنه إذا كانت الحكومة تنتهك حقوقك، فأنت شخصياً تشاركها بذلك.  وقد أهطل عليك بالأمثلة إلى أن تقتنع بوجهة نظري؛ أي عربيٍّ يستطيع فعل ذلك بسهولة.

أتذكر قول عبد الرحمن منيف في روايته “الآن.. هنا”:  “لا أريد أن أستعمل كلمات كبيرة أو خاطئة، ولكن قناعاتي أننا نحن الذين خلقنا الجلادين، ونحن الذين سمحنا باستمرار السجون. لقد فعلنا ذلك من خلال تساهلنا و تنازلنا عن حقوقنا، ومن خلال استسلامنا لمجموعة من الأوهام والأصنام، ثم لمّا أصبحنا الضحايا لم نعد نعرف كيف نتعامل مع هذه الحالة”.

سأترجمها للإنكليزية وأستشهد بها في مقالي أيضاً،  أدب عربي، نعم نعم.. سيعجبهم ذلك، فربيعنا يروق لهم وبالتالي أدبنا وفنّنا أصبحا أكثر إثارة.. طبعاً ربيعنا يروق لِمن يهتم بالأخبار العالمية، وهؤلاء نفسهم قلّة قليلة.. ولكن الأساتذة عادة يندرجون في خانة هذه القلّة.. لذا أنا بخير.

– أعود الى مكاني، أغلق باب الغرفة وأجلس خلفه، أنظر لا شعورياً إلى ناحية الحاسوب وأغلق عيناي حالاً.

سأشغل الحاسوب حال انتهائي من الكتابة.. لذلك عليّ أن أنتهي سريعاً.

– أشغل الحاسوب، دقات قلبي تتسارع.

هل من طاغيةٍ جديد هارب؟ هل من معتقلين؟ هل من إضرابات.. عن الطعام ربما؟ كيف هم أصدقائي؟ والأهم من هذا كلّه: هل من شهداء؟

أفتح الموقع الإخباري وأتأمل الخارطة الملونة.. أعد مواقع الثورات على أصابعي وأبتسم..

“أنا من جيل الثورة” أقول .

لطالما سمعت شباباً يتمنون الإنتماء إلى الجيل الذي شبّ في ثمانينات القرن الماضي، أنا لم أكن منهم يوماً.

أولاً: لأن المصدر الوحيد الذي يؤمّن معلوماتٍ كافية لمقارنة وضع الشباب حينها بوضعهم اليوم هي قصص نوستالجيا  الجيل السابق (وهذه تنطوي على الكثير من الانحياز والعاطفية. لذلك لا تصلح).

ثانياً: لأنني من مؤيدي محمود درويش حين قال “يا بلادي ما تمنيت عصور الجاهلية / فغدي أجمل من يومي ومن أمسي”

و لم أكن مخطئة. أليس كذلك؟

– عليّ إنهاء البوستر سريعاً للخلود إلى النوم، فقد أوغلت في الليل الآن وبقي لدي ساعات معدودة قبل أن أستيقظ مجدداً.

أفرد الورق المقوى على الأرض. أحضر ألواني وريش التلوين، والأقلام.. أرسم الخطوط العريضة للبوستر.. فبوسترات مكتبنا صناعة يدوية دائماً. نظراً لأن دخل المكتب محدود.

أنهيت رسم الكرة الأرضية في زاوية من الزوايا.. هنا طائرة، وهناك اسم المكتب، وتحته الشعار: “عالمكم هو عالمنا” .. لم أفهم الشعار يوماً ولكن هذا لايهمّني الآن.

لنبدأ بالتلوين.

أعلم جيداً أني بعد دقائق قليلة سأكون أنا والأرضية والورق قد تلونّا بلونٍ واحد. ولكن هذا لا يهمني الآن أيضاً، فأنا ألوّن خطوط الطول والعرض على الكرة الارضية. ألوّن بنهم.. بجنون.. ومع كل خط طول أسقط ديكتاتوراً.. ومع كل خط عرض أسقط معارضاً ساقطاً يحاول تسلّق ثورة الشعب.

– ألملم العدّة سريعاً وأنظف المكان، أغتسل وأبدل ثيابي وأذهب إلى السرير؛ أحتضن وسادتي وأفكر: “سوريا”.

أستغرب من قدرتي على التفكير في السرير بعد هذا اليوم الحافل.

أقرّب وسادتي مني أكثر.. فسوريا بمن فيها في القلب منذ الأزل.

و أغفو..

مدوّنة فلسطينيّة

http://rita1313.blogspot.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى