صفحات سوريةميشيل كيلو

لسنا ضيوفاً في بلداننا أو أُجراء عند حكامها/ ميشيل كيلو

 

ارجو، بادئ ذي بدء، آن يكون لقاؤكم ناجحا، وان تترتب عليه النتائج الايجابية التي تتوخونها، في هذه الفترة الانعطافية والعصيبة من تاريخ مسيحيتنا، التي تجد نفسها امام تحديات صعبة ومخاطر محدقة اسهمت مواقفها في تخلقها، قلما واجهت ما يماثلها خلال عقود كثيرة ماضية، يزيد من صعوبتها انه لا يمكن مواجهتها عبر سياسات لطالما اعتمدتها قياداتنا الكنسية قامت على امساك العصا من منتصفها، بينما نشهد منذ اعوام صراعا ضاريا تعيشه مسيحيتنا، في سورية وغيرها، مشحونا بالتطرف والتفاقم ولا يحتمل تسويات وحلولا وسطا، يفرض حتى على من يريدون البقاء خارجه مواقف مغايرة لكل ما دأبوا على اتخاذه من مواقف، خشية التعرض لنتائجه الوخيمة، التي لا يمكن تحاشيها في حال انتصر النظام وهزمت الثورة، او انتصرت الثورة وهزم النظام. هناك مشكلة نواجهها اليوم كمسيحيين عرب هي استحالة الوقوف جانبا في صراع مفصلي كالذي نعيشه منذ خمسة اعوام في سورية والمنطقة العربية وجوارها، تتدخل فيه قوي اقليمية ودولية جبارة ومتناقضة المصالح والخطط، وتخوضه وكأنه صراع داخلي نشب ضدها وعلى اراضيها.

ومع انه سبق للمسيحية العربية آن واجهت اوضاعا تشبه وضعنا الحالي، فانها عرفت كيف تتخطاه كل مرة بحكمة آباء الكنيسة، الذين فاضلوا بين اهل حكم يشهرون سلاح التجبر والعنف وبين ضحاياهم الضعفاء، ووجدوا أن من الأفضل لكنيستهم ورعيتهم الوقوف مع الأخيرين، وأن يدفعوا ثمنا عاجلا هو جزء مما يدفعه بقية الناس، لكنه يحمل لهم النجاة، بما انه يوحد مصيرهم ومصير اخوتهم المسلمين، شركاؤهم في التاريخ والهوية والمآل، الذين يكونون معهم جماعة يمكن لهذه الجهة او تلك تهميشها لبعض الوقت، لكنها سرعان ما تعود الى التاريخ من خلال جهد خارق ومباغت، مثلما يحدث اليوم في سورية، وكيف لا تعود وهي صانعة تاريخها بفصوله الرئيسة، والجهة التي اثبتت دوما انها باقية وان عدوها وخصمها عابر. مشكلتنا كمسيحيين ان واقعنا الراهن يطرح علينا اسئلة نتهرب من الاجابة عليها، رغم آنها تتطلب اجابات تعبر عنها مواقف عملية تتخطى اية كلمات، منها : هل ننتمي إلى مجتمعاتنا، العربية والمسلمة، أم إلى مجتمعات أخرى، وهل نحن ضيوف في بلداننا، واجراء عند حكامها، ام اننا الجزء الاصيل من شعوبها، الذي يحمل هويتها ولا ينتمي إلى غيرها، وعليه ان يقاسمها مصيرها في السراء والضراء؟. وهل يجوز ان نكون محايدين في الصراع الدائر بين حكوماتنا الفاسدة والاستبدادية، وبين شعوبنا المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة؟. للمسيحية مبادئ تتضمنها مقولتها التاريخية: المجد لله في العلى وعلى الارض السلام وفي الناس المسرة. ماذا يبقى من مسيحيتنا إذا سكتنا على تأله الحكام، الذين نشروا العنف والحرب على الارض، ولم يتركوا اثرا لمسرة في الناس؟. لماذا صدقنا أن عنفهم موجه ضد الارهاب، مع اننا كنا نرى بأعيننا ان ضحاياه من اخوتنا العزل والمسالمين، ولماذا صدقنا آنه يتفق ومبادئنا، التي لطالما انتهكها في مقولاتها الثلاث؟. لماذا لم ندن عنف النظام المتمادي ونطالب بوقفه وبحل مشكلات بلداننا سلميا وحواريا وقانونيا، رغم ان عنفهم كان يودى يوميا بحياة المئات من الابرياء والمسالمين؟. وهل صدقنا حقا بعد تهجير الملايين وطردهم بالقنابل والصواريخ من بيوتهم ان النظام كان يقاتل اصوليين تسللوا الى صفوف الشعب واندسوا فيها؟. الا نرى انه لم يعد هناك شعب، بينما المندسون صاروا ارهابيين وانتشروا في كل شبر من اوطاننا، ألم يسهم صمتنا في وقوع ما حدث؟. ألم ندرك ان نار العنف ما إن تستعر حتى تحرق كل شيء، وآنها تحرق قبل كل شيء حكمة العقل وصفاء الايمان، وأن الحكمة الايمانية تتطلب النضال من اجل اطفائها، وأن اي ثمن يقدم من اجل ذلك يكون صغيرا وقابلا للدفع؟. وهل هناك معنى آخر لصمتنا غير آننا نرفض وحدة المصير مع شعبنا، واننا نعيش بين ظهرانيه دون ان ننتمي اليه، لأننا مسيحيون وهو مسلمون، مع انه كان علينا، الدفاع عن حقه في الحياة، لأسباب بينت بعضها في ما سبق من قول، واضيف الآن سببا اضافيا هو أن قطاعات كبيرة منه تحمل افكارا تتسم بالتعصب والجهل تجاه الآخر والمختلف ونحن منه؟. وهل اسهم موقفنا في كبح التعصب والجهل، ام فاقمهما وحولهما إلى حاضنة اضافية للارهاب؟. ألم يستفز موقفنا مواطننا، المقتول والمهجر والملاحق والمعتقل والمحاصر والمجوع… الخ، مع ان مسيحيين بلا عدد او حصر شاركوا في الثورة عند بدايتها؟. ثم ألم يغر الشباب المسيحي فيما بعد بالالتحاق بقتلة النظام بحجة قتال الارهاب وحماية الأقليات؟. بالمناسبة، منذ متى كان المسيحيون اقلية في بلدانهم، وهل يجوز لنا ان يحولوا انفسهم الى اقلية، الى اغراب في محيط لا يشبهونه ولا يشبههم، يحميهم منه قتلة يحتمون بهم ويستخدمونهم كدروع بشرية ضد شعب يفترض انهم ينتمون اليه؟. اخيرا، هل يصح ان يسهم دورنا في التغطية على ابادة الملايين من اخوتنا المطالبين بالحرية؟. وهل تناسينا ما قاله هيجل، وهو ان للمسيحية منجز تاريخي غير مسبوق هو ادخال مبدأ الحرية إلى التاريخ؟. وفي الختام، هل يتفق مع ايماننا المسيحي دعم نظم تحكمنا، مسلمين ومسيحيين، بالحديد والنار، تبتزنا دينيا وايمانيا بتخويفنا من ارهاب لا تحمينا منه، تعاونت معه كلما تطلبت مصالحها ان تتعاون، والتقت معه دوما في منتصف الطريق، ليساعدها على تحويل حراك سلمي يطالب بالحرية إلى اقتتال طائفي آثم، اذا لم تقاومه مسيحيتنا تحولت هي ايضا من دين للانسان والحرية إلى مذهب لا علاقة له بالفادي يسوع المسيح، يسكت عن قتل البشر.

تقف مسيحيتنا على مفترق طرق، لا ابالغ اذا قلت إنها لن تبقى بعده ما كانت عليه قبله، وأن مصيرها بيدها، ويحتم عليها التعامل مع نفسها ومبادئها بأعلى قدر من روح المسؤولية الايمانية والانسانية، وعدم التخلى عن مبادئها من أجل وقتيات سياسية عابرة، تتصل بصراعات لا مبادئ فيها ولا انسانية ولا ضمير ولا دين.

ملاحظة: اود ان اشكركم على اشراكي في حواركم، وان اعبر عن ثقتي بانكم ستتوصلون إلى توصيات وربما قرارات لا تفسر الاحداث بغير اسبابها، وان تكون توصياتكم تعبيرا عن رسوخ ايمانكم بدينكم ومشرقكم وعروبتكم.

[ الكلمة التي وجهها ميشال كيلو الى خلوة «سيدة الجبل» التي انعقدت لبحث الخيارات المتاحة امام اللبنانيين والمسيحيين خصوصاً في ظل المتغيرات العربية والاقليمية.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى