صفحات الثقافة

لعاب الشياطين


    فاروق يوسف

عام 2004 نشرت الصحف العالمية صورة تُظهر أربعة رجال وقد علِّقوا على أعمدة جسر حديد، وكان الخبر المرفق بتلك الصورة يشير إلى أن هؤلاء الرجال مقاولون تابعون للجيش الأميركي استطاعت المقاومة العراقية أن تأسرهم وتنفّذ فيهم عقوبة الاعدام في مدينة الفلوجة. يومذاك شعر الكثيرون ممّن لا خبرة لهم في أسرار الحروب، بالحيرة. ترى ما الذي يفعله مقاولون غرباء في بلدة نائية مثل الفلوجة؟

كان الظن الساذج قد ذهب إلى تفسير مهنة “مقاول” مذهباً واقعياً، حيث المقاول هو الرجل الذي تقع عليه مسؤولية تشييد المباني والجسور وتعبيد الطرق وسواها من أعمال الاعمار. غير أن رد فعل الجيش الأميركي الهستيري يومذاك، الذي تمثل في ابادة سكان المدينة بعد حصارهم وتجويعهم وإلحاق أكبر ضرر ممكن ببنية المدينة العمرانية، قد كشف المستور. لقد تبيّن أن المقاولين الاربعة لم يكونوا سوى قتلة محترفين تابعين لشركة أمنية، “بلاك ووتر”، اكتسبت في ما بعد شهرة عالمية، بسبب ما ارتكبته من مجازر مروعة في حق المدنيين في مناطق مختلفة من العراق.

المقاول إذاًَ، لقب مجازي يحمله قاتل محترف لكنه غير رسمي. رجل مهنته القتل. في الحالة العراقية كان عدد أولئك القتلة ناهز المئتي ألف. كلهم يتمتعون بحق الحماية، وكل جريمة يرتكبونها، بغض النظر عن الظروف المحيطة بها، لا يمكن أن تؤدي بهم إلى المحاكم، فهم محصّنون ضد أي قانون. لهم جغرافيا وهمية يتحركون فيها، وليس لحريتهم في القتل سقف محدد. “بلاك ووتر” كانت واحدة من شركات عدة، استغرق رجالها سنوات في تنفيذ عمليات القتل العلني، التي غالبا ما كانت جماعية، ولم تكن تخلو من ألعاب تسلية، بدءا من الاغتصاب إلى تعذيب الضحايا من طريق الموت البطيء.

تبيّن في ما بعد أن استعانة سلطة الاحتلال في العراق لم تكن أمرا مخفيا على الساسة في العراق. وحتى حين اعلن الجيش الأميركي انسحابه من البلاد عام 2011، فإن أحدا لم يعلن أن شركات القتل هي الأخرى ستنسحب. ربما تكون قد انسحبت قبل الجيش وربما لا تزال موجودة. لا أحد في إمكانه أن يكون متأكداً من المعلومة. دخلت تلك الشركات سراً وتخرج سراً، وهي ليست مسؤولة عن أفعالها، وهذا ما أقرته كل الحكومات العراقية التي تشكلت بعد الاحتلال عام 2003. كان هناك عدد لا يحصى من الأشباح مارست القتل تحت شمس الاحتلال، وبعد ذلك ذهب كلٌّ منها إلى مستقره، في انتظار موعد جديد للقتل.

على الطريقة السورية

كانت هناك إذاً حفلة أشباح. لنقل “شبّيحة”، على الطريقة السورية. وهو جمع شعبي بصيغة المفرد. جمعٌ مفرده شبّيح. وهو تصغير لشبح، يستعمل تغنجاً. منذ بدء الثورة في سوريا، قبل حوالى سنة ونصف السنة، درج الناس ومن بعدهم الاعلام العربي على استعمال كلمة شبّيحة، في إشارة إلى أولئك القتلة السريين. لكن الغريب ان إحدى لجان التحقيق الدولية اشارت إلى الشبّيحة بالاسم. ترى هل استعار أعضاء تلك اللجنة عيوناً سورية ليروا بها ذلك العدو الخفي؟

وكما أشيع يومذاك، فإن الشبّيح ليس موظفاً في الاجهزة الأمنية الرسمية، وهي كثيرة ومتشابكة في سوريا. الشبّيح له وضعه الخاص. فهو متفرغ لمهمة القتل. لا شيء أقل من ذلك. لا وشاية ولا مطاردة ولا تجسس ولا تنصت ولا متابعة ولا سواها من الأفعال التي هي بالنسبة الى الشبّيحة ليست جزءاً من عالم الرجال الحقيقي. هناك حيث القتل هو الرسالة الوحيدة التي يحملها الرجل إلى خصمه غير الشخصي. فالشبّيحة غالباً ما يقتلون بشراً لا يعرفونهم، صاروا مادة للقنص العشوائي والممنهج في الوقت نفسه. بهذا يشكل الشبّيحة منظومة عمل شبيهة بالشركات الامنية الاميركية (الاوروبية من قبل). قيل يومذاك في سوريا إن الجهات الممولة لأجهزة الشبّيحة، وهي متعددة، ليست جزءاً من التركيبة الادارية للنظام السياسي. هناك رجال أعمال متنفذون يرتبطون بالنظام هم الذين ينفقون على الشبّيحة. وكلها حكايات شعبية. غير أنه من المؤكد أن أحداً من الشبّيحة لا يجرؤ على التصريح بحقيقة وظيفته، حتى بين أفراد عائلته. لنتخيل الذعر الذي ينتج من محاولة أحدهم إخبار والدته أو زوجته أو إبنه أنه ليس سوى شبّيح. هيتشكوك السوري لم يولد بعد. السينما غير الواقع.

جدّهم ورمزهم الأعلى

مات بوب دينار عام 2007 عن 78 سنة. كان الرجل قد انهى خدمته العسكرية في القوات الفرنسية في الهند الصينية 1950 ثم انتقل الى المغرب ليعمل في الشرطة قبل الاستقلال ولينتقل في ما بعد الى أفريقيا صانعاً للانقلابات. عام 1961 بدأ مهنته مرتزقاً. في خدمة شاه إيران. درّب قوات الامام في اليمن وقاتل في زيمبابوي أيام الحكم الابيض في روديسيا، ونيجيريا وجزر القمر. وضع دينار خدماته الإجرامية في طريق المخابرات البريطانية والاستخبارات الاميركية كما خدم المصالح الفرنسية من قبل. كان الرجل يفعل ما يراه مغرياً لقتلة غير معلنين. سأحافظ على أناقتكم، علو لغتكم الديموقراطية. عدالتكم لن تصاب بضرر. وسيكون مشهد القتل لذيذاً كما تهوون. لن يحمّلكم أحد مسؤولية ما جرى. سينام ضميركم بين ركبتَي أحلى الجميلات. كان الفرنسي دينار قد أشاع القتل المجاني في القارة السمراء كما لو أنه كان يتحرك حراً، في فضاء كان الاستعمار الاوروبي قد أحكم السيطرة عليه. كذبة ستلد في ما بعد أكاذيب، أشد بشاعة وقسوة. لقد جلب القضاء الفرنسي دينار باعتباره مجرماً، غير أن تلك التمثيلية كانت درساً بالنسبة الى شركات القتل التي ارتبطت بعقود مع الجيش الأميركي المحتل للعراق. كان من المهم بالنسبة الى تلك الشركات أن يوقّع الأميركيون والعراقيون معا عقداً ينص على إطلاق يدها في القتل. وهذا ما نجحت في الحصول عليه. لم يكن بوب دينار سوى مرتزق، تخلّت عنه المخابرات الفرنسية في اللحظة الحرجة. أما جزّارو “بلاك ووتر” والبلطجية في مصر والشبّيحة في سوريا فإنهم يعملون داخل إطار الحصانة المطلقة. لا لأنهم غير مرئيين، وذلك أمر نسبي، بل لأنهم يؤدّون مهمات تعجز الأجهزة الرسمية عن القيام بها. هنا بالضبط يكمن السر الذي دفع جيشاً عظيماً كجيش الولايات المتحدة إلى الاستعانة بهم عند احتلال العراق. كان شعار “القتل من أجل القتل” قد رُفع من أجل ترويع العراقيين. ما يفعله الشبّيحة في سوريا شيء من هذا القبيل. كان القنص قد بدأ يوم كانت مسيرات الاعتراض سلمية. لم تكن هناك حرب. وكما أرى فإن الصدام المسلح في سوريا لم يُنهِ دور الشبّيحة، ذلك لأن في إمكان فرق الموت أن تفعل ما لن يستطيع الجيش النظامي القيام به. لن يكون الحياء هو السبب الذي يدفع الجيش إلى التردد، بل الخوف من ردود فعل المجتمع الدولي.

عالمان مختلفان يلتقيان

كان مرتزقة شركة “بلاك ووتر”، وهم شبّيحة أميركا في العراق، يقيمون على أرض تقع خارج القوانين. أما شبّيحة سوريا فإنهم بالنسبة الى أميركا مرئيون إعلاميا، قتلة (هم كذلك) ينبغي الذهاب بهم إلى المحاكم الدولية. ولكن كيف؟ بوب دينار لم يذهب إلى المحكمة إلا بعدما أنهى جميع مهماته القذرة. تبخّر مرتزقته. وقف أمام القضاة كما لو أنه كان يقاتل وحيداً. يصحّ الحكم ذاته على بن لادن. فبعدما قُتل لا تزال شركته الأمنية (القاعدة) تعمل، لكن في حدود الخريطة المرسومة سلفاً لجغرافيا الإرهاب. شبّيحة بن لادن لن يكونوا أفضل حالاً من مرتزقة “بلاك ووتر”، وهم أسلاف عصابات بوب دينار. المبدأ في كل الأحوال هو ذاته. اضرب هدفاً معلوماً بصفتك شبحاً مجهول الهوية. لن يحاسبك أحد، بل ستكون دائماً محصناً من كل عقاب. كان بن لادن قد تبنّى مبدأ تقسيم العالم فسطاطين: عالم خيّر وآخر شرير. وهذا ما فعله في الطرف الآخر الرئيس الأميركي جورج بوش الابن. في النقطة الحرجة التي تلتقي فيها أفكار الرجلين، تقيم الأشباح القادمة من مختلف انحاء الأرض.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى