سوسن جميل حسنصفحات الناس

لعبة الأسماء في سورية/ سوسن جميل حسن

 

في مرحلةٍ باكرة من عمري، في الوقت الذي بدأت فيه أعي ذاتي، وانفصالي عن المحيط، وبدأت رموز وعيي تتشكل، ويتأسس مخزون ذاكرتي، تعرفت على ألقابٍ كثيرة، وحفظتها، وأنشأت بعض العلاقات مع أصحابها في مراحل عمري التالية. في البداية، لم تكن تعني لي الألقاب شيئاً، غير أنها أسماء يُكنّى بها حاملوها، فقد كانوا أناساً مثلنا، لم يكن هناك فرق يسترعي الانتباه، أو يدعو إلى التفكير بحوامل ثقافية مرتبطة باللقب.

كان رجل من الـ”قبضايات” في ذلك الزمن، يُدعى استنبولي، كانوا يدلّون عليه بأل التعريف، ليس لتمييزه العرقي أو المذهبي أو القومي أو غيره، بل لإضفاء المهابة التي يستحقها، وكنا صغاراً، نراه يركب الفرس، ويأتي إلى ساحة العيد. كان المصور الأشهر في تلك المدينة الصغيرة والعريقة التي سكنتها عائلتي حينها يُدعى “موره للي”، وكنا معجبين بسحره إلى حدّ الذهول، يستدعيه الأهالي إلى بيوتهم، ليلتقط لهم صوراً عائلية، وكان الموره للي واحداً مثل باقي رجال الحي والمدينة، وجيراننا الأقرب كانوا من بيت الأرمنازي، وكان رجل بدين يجلس دائماً أمام بيته، يستند على كرشه الكبير، كانوا ينادونه: الأضناوي. من بين جيراننا، كانت هناك عائلة تلّقب بالحمصي، وأخرى بالإدلبي، وأحد أقاربي تزوج فتاة من آل الديركي، وزميل والدي في العمل كان من آل الغزاوي.

عندما دخلت المدرسة، وارتقيت في صفوف التعليم، تعرفت على ألقاب أخرى: الشامي، الديري، الريحاوي، الطرابلسي، البيروتي، الصيداوي، النابلسي، البغدادي، الموصللي. وفي مدن أخرى، تعرفت على الأفغاني والشيشاني والتركماني والأنطكلي، وغيرها ألقاب كثيرة ومتنوعة، صرت أفهم أنها تدّل على منبتٍ آخر وعلى انحدار من مناطق أخرى، داخل سورية أو خارجها، لكنهم كانوا جميعهم سوريين. لم يكن هناك فرق بين واحد وآخر، إلاّ في اللقب، أو ما نسمّيه في الدارجة بالكنية، وكان هذا الاختلاف أمراً عادياً، بل ولا بد من وجوده، باعتباره ملحقاً بالاسم، وهذا الاصطلاح ضروري، لأجل تحديد الشخص، أو الإشارة، التي أصبحت فيما بعد هي الوحيدة، إلى فرديته.

في الحياة الاجتماعية العفوية التي يتشارك الناس فيها العيش في بقعة جغرافية معينة، كانوا يشيرون إلى الشخص بخاصية تعرّفه، أو تميزه عن غيره، فقد تكون نسبة إلى وظيفة اجتماعية يقوم بها، أو إلى مهارة خاصة اشتهر بها، أو علامة فارقة، يختلف فيها عن الباقين، وليست الإشارة إلى البلد الأصل إلاّ تعريفاً بالقادم الجديد، الذي جاء من باقي مناطق سورية، أو من خلف البحار، ليستقر ويذوب في النسيج المجتمعي، ويصبح فرداً من هذا المجموع، المتعايش بحسب مفهوم الحياة ومتطلباتها، وكان المجتمع يمنح الحقوق، ويفرض الواجبات بضوابط تخصه، يصوغها العرف والتقليد والدين ومنظومة القيم، والحاجة الاجتماعية.

وإذا رجعنا إلى التاريخ، من المعلوم أن هناك شعوباً وقبائل وممالك وإمبراطوريات تعاقبت على هذه المنطقة، وتركت آثارها العمرانية والثقافية، كما أن هناك هجرات جماعية، مثلما هي عادة البشر، منذ نشوء الحياة الجماعية، لأسباب عديدة، كلنا نعرفها، ولطالما استقبلت سورية موجات من الهجرات الجماعية، منها ما زالت أمام العين بمشهديةٍ ساطعة، لم تستقر على رفوف الأرشيف بعد، العراق ولبنان وفلسطين وغيرها من المنطقة العربية حاضرة بواقعها الراهن. هذه الحالات مجتمعة أعطت المجتمع السوري ميزته الحياتية التي كانت سبباً كبيراً في ازدهاره الثقافي والحضاري على مر العصور. هذا الموزاييك الحي استمر في إزهاره إلى حين، على الرغم من أن التاريخ، أيضاً، يحتفظ في ذاكرته بفتنٍ أو نزاعات أهلية عديدة، لكن المجتمع تجاوزها، وانتصرت عليها الرغبة في العيش ونشدان المستقبل.

في ظل النظام الشمولي القمعي، تحت يافطة القومية العربية وادعاء النهج العلماني الذي ينتهجه النظام، كانت تنمو بذرة التفرقة والانتماءات الضيقة. وفي مقابل القومية العربية التي طغت شعاراتها على حلم الدولة الوطنية، كانت المجموعات السورية المنتمية إلى قوميات أخرى تدرك ذاتها، وتعي الظلم والإجحاف الواقعين عليها، وتحت غطاء العلمانية المزوّرة، كانت السياسة تخطف الدين، وكان الدين يتسلل إليها، فيُحبك المجتمع بخيوط المذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية، وينخفض سقف الوطن والمواطنة، ويندفع الوعي باتجاه الغيبيات والمقدس، ملاذاً يحميه من الظلم وانسداد الأفق، ويصبح الاحتماء بالجماعة، والتمسك بها، هما الضامن الأكبر للحياة، في ظل الخوف والقمع والمستقبل المجهول.

هذا الخراب الذي يحصل في المجتمع السوري، وهذا الكم من الثأرية والاقتتال الأهلي، لم يأتِ من الفراغ، كان موجوداً كجذوة تحت الرماد، ما إن هبت رياح التغيير عندما انتفض الشعب على واقعه، حتى توهجت واستغلتها الأطراف المتنازعة والمتحاربة فوق الأرض السورية، الطامعة بسيادة حصرية، وامتلاك زمام القيادة للدولة والمجتمع، واستدعي التاريخ بحمولته من الخلافات والضغينة والثأرية المؤجلة.

للمرة الأولى، صارت للألقاب دلالاتها وحمولتها الثقافية الهادمة، صارت لها إيديلوجياتها وأبعادها السياسية ومطامعها وطموحاتها، لم يعد الاستنبولي رمزاً للفتوة. ولم يعد البغدادي ذاك الذي حط رحاله في أراضينا، والتف الجيران حوله في مضافة كبير الحي، واستمعوا إلى ما يحمل من حكايات. ولم يعد الجولاني ابن تلك البقعة العزيزة من سورية، وقد كان ينتمي إلى سورية كلها، وصار في قلب كل سوري.

ولم يعد الشيشاني واحداً من موجات الهجرة البشرية إلى سورية، ذات الحضن الكبير. صارت الأسماء سيوفاً وسواطير ورايات سوداء، صارت حاملة للموت في يد، ولشريعة تفتري على الدين وتتكئ زوراً على اسم الله، في يد أخرى. اجتمع الحالمون بدولة الخلافة التي ستسود العالم، وترجعه عن ضلاله، وتضعه على الطريق القويم، من بقاع الأرض بياء نسبتهم: الأوروبي والأميركي، والآسيوي، والأسترالي، والأفريقي، والعربي المنحدر من بطون وأفخاذ عديدة. كلهم جاءوا مدججين بالعقيدة، ونيّة الجريمة المقدسة، بارعين في قطع الرؤوس واستباحة الحياة بكل أشكالها.

وجاءوا ملوحين برايات الموت، يحيلون ألوان الحياة إلى أسود، والأرض والعقول إلى مساحات من القحط. جاءوا يبايعون خليفةً ظهر فجأة من العدم، ومُنح لقباً وماضياً ورسالة. يقتلون التنوع السوري، لم تعد الأسماء غرسات جميلة في نسيجنا، صارت بذوراً تنتج موتاً ودماراً، صارت رعباً يسبق السيوف والسواطير ليدفع بأهل البلاد إلى التيه في بقاع الأرض، يستعجلون الخلاص، تاركين خلفهم ماضيهم، وضحاياهم بلا قبور تحنو عليهم. طفر السوريون في بقاع الأرض على مرأى العالم ومسمعه. وتهتك النسيج السوري. يا للعبة الأسماء.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى