صفحات المستقبل

لعبة حرق السماء/ روجيه عوطة

 

 

بعد توطئة سلسلة “لنلعب”، والحلقة الأولى منها عن كتاب “لعب العرب” لأحمد تيمور باشا، والثانية عن اللوتو، والثالثة عن الحرب البلاستيكية، والرابعة عن “بوكيمون غو”،  والخامسة عن اللياقة البدنية كلعب مع الحديد في النادي، والسادسة عن مدينة الملاهي، هنا، الحلقة السابعة، تحية إلى أطفال حلب، ولعبهم ضد قتلهم.

صنع أطفال حلب لعبة جديدة، لنسميها “حرق السماء”. ففي حين كان الطيران الحربي الروسي يهم الى قصف المدينة، وفي حين كان المجتمع الدولي ممانعاً لتوقيفه، خرج هؤلاء الى الطرقات والشوارع والأحياء، جمعوا الدواليب، أشعلوها. على اثر فعلهم هذا، انبعث الدخان الأسود فوق مناطقهم، وغطى الفضاء، مغيماً على سلاحه المحلق.

تقتضي “حرق السماء” من لاعبيها أن يدحرجوا الدواليب المنزوعة من مركباتها، وفي أثناء ذلك، تدور على حالها، ويلحقون بها، كما لو أنهم يتسابقون معها. يفلتونها أمامهم، ويسرعون خلفها، تسقط أرضاً، فيعاودون دفعها، إلى أن يذهبوا بها إلى حيز إشعالها. على طول سبيلهم هذا، يضحكون، أو يشعرون بالغبطة، التي تنتجها فيهم حركتهم المتصلة بحركة الدواليب. فهم يتبعونها، ولأن سيرها لا يستوي على خطو ثابت، تجعلهم يمشون ويركضون على وقعها، حاملةً إياهم على نشاط وانتقال خفيفين، ذلك، انها، ومهما ابتعدت عنهم، تتيح لهم الوصول إليها، ومهما اقتربت منهم، تسمح لهم بجرها.

ثمة، هنا، نوع من الرياضة، التي لا تلزم لاعبيها بجهد كبير، فمطاردتهم للدواليب ليس إقتفاء لأثرها، بحيث أنها لا تولد حركتها بنفسها، بل هم الذين يولدون حركتها، وعندما يلاحقونها، يظهرون كأنهم يهرعون خلفها لكي يحصلوا على تلك الحركة. يعطون الدواليب حركتها، ولما يركضون وراءها، تعطيهم حركتهم، فهي ليست كدواليب نظام الأبد التعذيبية، التي تحشر الأجساد في خلائها الدائري، وتجمدها بغاية ضربها والتنكيل بها، بل إنها، على العكس تماماً، تهب تلك الأجساد همة ودأب عبر دوران إطارها المطاطي حول خلائها.

تفتح الدواليب معركة الأطفال ضد السماء، تخلق ميدانهم، ولما تصل إلى أمكنة إضرام النار فيها، تثبت، وتتقد. الحركة، التي أعطوها إياها، تردها لهم على شكلي لهب ودخان، والإثنان يتصاعدان، حتى يحولا الجو بأكمله إلى جو متأجج للغاية. الآن، الدواليب تطلع كي تخفي تحتها، كي تتركه غامض، ومبهم، فمرآه متسعِر، ولا يمكن لأحد أن يعاينه من الأعلى، ساعياً إلى إلتقاط جغرافيته.

من الأرض، يشيد اللاعبون سماءً سوداء، وبها، يتصدون للسماء، التي أضحت مجالاً لطيران قتلهم، أكان أسدياً أو روسياً أو دولياً. حيلة على السلاح، الذي تستعمله أنظمته بحق السوريين كأنه سلاح القضاء ونوازله، حيلة على قوته، التي يظن ممارسوها أنها قوة ربانية، حيلة على التعالي وتجبره: بناء سماء مضطرمة تتيح للأرض أن تنحجب عن السماء التي تبيدها. لقد أعطى الأطفال معنى آخر للسماء، بحيث غيروها من نطاق الإنقضاض على الأرض واجتثاثها إلى نطاق مخلوق في الأرض من أجل رد الضرر عنها.

فالسماء الأخرى، التي ابتكرها الأطفال عبر اللعب، تحرق سماء الأبد وأنظمته العالمية، وتصير خندقاً، تتقي الأرض به. إنها ليست المحكمة التي تُنزل بعقابها على الأناس، بل إنها متراس لعرقلة عدوهم. إنها سماء أرضهم ضد  سماء اقتلاعهم. درس من أطفال حلب: لمقاومة التعالي، اصنع في أرضك تعالياً آخر، سمته أنه أغبش وحالك، واتركه يتصارع معه ويحرقه، وفي هذا الحين، اختف تحته، ولا تقلق، التعالي، الذي صنعته، لن ينقض عليك، لأنه دخاني، وسرعان ما يتبدد في هوائك. الدولاب في مواجهة الطائرة، دحرجته في مواجهة تحليقها، جلبة مضرميه في مواجهة صوتها النفاث، حرقه في مواجهة إغارتها، واللعب في مواجهة الإبادة.

أشعلوا كل سماء!

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى